تكوين الدواوين والمجموعات الشعرية
شربل داغر
(شاعر وأستاذ جامعي من لبنان)
نتحدث في أيامنا هذه عن "مجموعة" شعرية جديدة أو عن "ديوان"، أو عن الأعمال "الكاملة" لشاعر ما، دون أن نتبين أو نتساءل عن مسألة ترتيب الشعر العربي بين الأمس واليوم: هل يخضع جمع قصائد بعينها في كتاب لترتيبات لاحقة على كتابتها، قبل دفع القصائد إلى الطبع, أم أن تأليف القصائد يخضع في منشئه الى خيار تأليفي، لا يلبث أن يجلوه ويؤكده الكتاب نفسه ، ومنذ العنوان؟ هل يسبق الترتيب كتابة القصائد ويوجهها أم يأتي مثل تكريس أو تسمية لقصائد واقعة قبل إطلاق التسمية؟
ذلك أن إصدار المؤلف الشعري، أو "روايته" أو طبعه ، أو توزيع قصائده. أو وضع عنوان خاص به. أمور قلما انتبه إليها النقد أو التاريخ الشعري، مع أن التعرف اليها يفيدنا كثيرا – على ما سنرى في درس الشعر، صنيعا وتصورا وتثبيتا لعمل شعري ما. فماذا عن بدايات تجميع الشعر العربي في كتب ومجموعات منفصلة؟ وكيف نخلص الى "الديوان" المفرد بعد الديوان "التام"؟ أهناك علاقات تلازم تكويني بين القصيدة ( في عنوانها في موضوعها) وبين ما يكون عليه خروجها في كتاب؟
1- "جمع" الشعر
لو عدنا الى المصادر العربية لوجدنا صعوبات في التعرف على الهيئات الأولى لتجميع الشعر القديم بين روايته وتدوينه ، وما نجده لا يمثل عمل الشعراء أنفسهم على شعرهم ، بل ما خلفه لنا الرواة والجامعون عنه. ولو عدنا الى المتوافر من مجموعات الشعر العربي الأقدم لوجدنا أن ما وصلنا منها لا يوفر لنا في أحوال عديدة مدونات الرواة أو الجامعين الأوائل ، بل مدونات لاحقة ترقى خصوصا الى عمل المصنفين في القرنين الثالث والرابع الهجريين. وما نعرفه عن شعر امريء القيس وحسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي هو ما أبتاه لنا جامعون ورواة ، ولا تصل نهاية سلسلة الاسناد في الروايات المختلفة الى الشاعر نفسه في أغلب الأحوال. إلا أن هاتين الصعوبتين لا تعدمان ، مع ذلك سبيل البحث ، وان تجعلانا نقيم في ميدان للدرس غير أكيد المعالم ، خصوصا في مرحلة ما قبل التدوين.
لن نجد الشعر، في أخباره أو في مدوناته ، إلا في عمل رواته ، بوصفهم جامعين له بعد أن كانوا منشأين له ، وذلك في "كتب" و"أشعار" و"دواوين" ، حسب التسميات التي وصلتنا عن أعمالهم. ولقد عمل عدد من الدارسين ، من كارل بروكلمان الى ناصر الدين الأسد وغيرهما، على التحقق من مجموعات الشعر العربي في مراحل تدوينه أو تقييده الأول. وتوصلوا ، ولاسيما الأسد، الى التحقق من أن الرواة _ الجامعين الأوائل في القرن الهجري الثاني عملوا على ترتيب كتبهم بدءا من كتب ومدونات توافرت لهم ، بالاضافة الى ما حفظوه من. هذا الشعر شفاها، ويوجه الأسد أن بعض الشعر الجاهلي "كتب في صحائف متفرقة أو في دواوين مجموعة منذ عهد مبكر جدا، وربما كتب بعضه منذ العصر الجاهلي"(1)وأن بعض هذه المدونات بلغ علماء الطبقة الأولى من الرواة ، واعتمدوها مصدرا من مصادر تدوينهم لهذه الكتب التي رواها عنهم تلامذتهم. وان هؤلاء العلماء الرواة في القرن الهجري الثاني كانوا يعودون ، هم وتلامذتهم الى نسخ مكتوبة من هذا الكتب في مجالس علمهم وحلقات دروسهم ، وأن رواية هذه الكتب التي بين. أيدينا – حين يكون الكتاب مسندا – تنتهي الى أحد هؤلاء العلماء من رواة الطبقة الأولى أو الى أحد تلاميذهم ,ثم تقف عندهم ولا تتجاوزهم.
هكذا نعرف،على سبيل المثال ، أن الوليد بن يزيد طمع في جمع "ديوان العرب " فاستدعى، على ما تقول المرويات ، حماد الراوية وجناد بن واصل واستعار منهما كتبا ودواوين كانت في حرزتهما، منها كتابا ثقيف وقريش في الشعر, و"ديوان العرب" وجزء من شعر الأنصار، عند حماد الرواية. كما نعرف أيضا أن المفضل الضبي اختار قصائدا عن دواوين وكتب كانت في حوزتهم كذلك. وهناك أخبار أخرى تفيد كلها و تؤكد ما سبق أن قلناه وهو أن جامعي الشعر الأوائل عملوا على مدونات سابقة عليهم ، وتعود في بعضها أن مرحلة ما قبل الاسلام.
معلوماتنا عن فترة ما قيل التدوين، وعن تدوين الشعر في مجموعات أولى ، تبقى محدودة على أية حال. ولا تمكنتا كفاية عن التعرف المقرب والمدقق على العمليات هذه.إلا أننا لا نجد صعوبة ، فيما بلغنا عن أخيار ،التأكد عن أن الشعر عرف، هو مثل غيره ، وضعية آولى، شفوية ، جرى فيها تناقل الشعر عبر الألسن أو عبر رواة متمرسين (كثير عزة راوية جميل بثينة ، وجميل راوية هدبة بن خشرم ، وهدبة راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير، حسبما ورد في "الأغاني"). ونتحقق في هذه الوضعية من دور مخصوص للشعر هو، دور "الالقاء"، اذا جاز القول ، في لقاء، أو مناسبة ، أو حفل عام ، على أنه شكل وجود الشعر. وشكل تبادله في الجماعات أيضا، وتصاحبه تقاليد حفظ ورواية من منشدين ورواة ،هم الصيغة الأولى لناشري الشعر ومروجيه.
وما لبث الشعر أن عرف وضعية أخرى، تدوينية ، بعد "تعريب الدواوين" في العهد الأموي، وبعد انتشار الورق في مطالع العهد العباسي ، جرى فيها قيد الشعر في كتب ودواوين في صورة فريدة. ونتحقق في هذه الوضعية كذلك من أن الشعر لم يفارق دوره التخاطبي، إلا أن أوجه تبادله باتت تتعين أيضا في صيغ مادية يتم فيها التعرف عليه والتفاضل فيه ونقده وتثمينه سواء في البلاط والمجالس ، أو في حلقات الشعراء والعلماء والدارسين.
واذا كانت المعلوهات عن مرحلة التدوين الأول قليلة ، فإننا نفوز بعد ذلك بمعلومات أثمن وأوسع وأدق ، نتحقق فيها من انتشار تقاليد جمع الشعر في كتب بينة الترتيب. وهو ما يدعو الأسد الى القول "الدواوين كانت موجودة – مكتوبة مدونة- في القرن الثاني الهجري، أي من نهاية الربع الأول من القرن الثاني على التقريب الى مطلع القرن الثالث ،وهي الحقبة التي كان يحيا فيها هؤلاء العلماء الرواة من رجال الطبقة الأولى ، ويلغ فيها نشاطهم ذروته"(2). وهذا يعني واقعا. أن جمع الشعر في مجموعات يرقى الى القرن الهجري الأول. إذ عاد هؤلاء الرواة أن كتب سابقة عليهم. ونحن نعرف أن عددا من خلفاء بني أمية ، منذ معاوية بن أبي سفيان ، سعوا الى جمع الشعر وغيره أيضا من متبقيات العهد القديم في الجزيرة ، مثل "اللغات" و"الأخبار" و "الأنساب " وغيرها، في مجموعات ونتسأل: هل نجد في مساعي خلفاء بني أمية هذه طلبا لتأكيد "عربيتهم" في الوقت الذي كانت تمتزج فيه سلوكياتهم وتدابيرهم بغبرها من السجلات والمرجعيات الأخرى (البيزنطية، الفارسية. القبطية…" و أخذهم عنها؟: وهل يمكن وضع عمليات التجميع في سياق تقاليد أخرى تأكدت في الدولة الأموية ، وهي تأسيس تقاليد "ثبوتية " وسلطانية بالتالي ، من صك العملة لأول مرة في التاريخ الاسلامي الى ضبط قواعد عمل "الدواوين" بعد تعريبها. غير ذلك؟
نخلص من هذا الى القول أن أشكال جمع الشعر. أو التعرف على وجوده في التبادل بين الجماعات ، بقيت منفصلة عن الشاعر، وتحكم بها وسطاء غيره ، ما يكشف عن خططهم هم في المقام الأول, لا عن خططه هو في تقديم شعره، وقد يكشف أحيانا عن تلاعبهم بنتاجه وتحكمهم في.تصريفه و"نحله" ربما: ففي غير رواية عن الرواة نتحقق من كون بعضهم كانوا يجتمعون أحيانا لمقارنة ما بلغهم من الأشعار والأخبار فيصححونها وينقدونها ويعدلونها بالتالي. أي أن الوسطاء سعوا الى تقديم شعر الشعراء، والى شرحه بعد وقت. دون أن نتبين صلات بين.مقاصد الشعراء في قول الشعر وبين مقاصد الرواة في تجميعه. أو أن مقاصدهما ليست متطابقة على أية حال. أين ينتهي عمل الشاعر، وأين يبدأ عمل الراوي هل يقوم دور الراوي على النقل فقط ، وعلى حفظ ما قام بتسجيله في الذاكرة أو في مدونة؟ هل ينتهي عمل الشاعر بعد وضع قصيدته ، بل بعد إلقائها؟ هذا يصح من دون شك في شعر المدائح ، وربما الهجاء. ولكن ماذا نقول عن شعر الوصف أو الطرديات أو الغزل وغيرها؟ كيف كان يتم تناقلها وتداولها؟ ما فعل المتنبي، على سبيل المثال ، بعد أن وضع قصيدة "الحمى" وبعد أن حفظها في مدونة خاصة به؟ هل أخذها عنه بعض النساخ أم سمعها البعض الآخر؟ وكيف وصلت الى ابن جنى وأبي بكر الصولي لكي يدرجاها في "ديوان المتنبي؟
يمكننا أن نسوق أسئلة عديدة من دون أن نحظي بأجوبة أكيدة دوما، مكتفين في غالب الأحوال بالتخمينات والترجيحات ، ولو كانت المعلومات متوافرة لكانت أفادتنا من دون شك في التعرف على كيفيات تداول الشعر، وعلى المغازي المطلوبة من تدوينه ، وعلى مقاصد الشاعر خصوصا في جمع شعره وترتيبه وغيرها. وقد نحظي أحيانا بمعلومة ثمينة تتحدث على سبيل المثال ، عن إقدام أبي فراس الحمداني ( 320- 356هـ) على جمع شعره وترتيبه في ديوان قبل وفاته بنفسه ، إلا أننا لا نقوى على تثمين هذه المعلومة ، ولا على وضعها في سياق تفسيري طالما أننا نفتقر الى غيرها وقد نعلم على سبيل المثال أن أبا نواس راجع شعره ونقحا وحذف بعضا (على ما يقول ابن رشيق في "العمدة")، فهل يعني أنه هو الذي عمم أو نشر مدونات عن شعره "أجازها" بنفسه؟ لا نستطيع التقدم في هذا المجال ذلك أن ما وصلنا من شعر العديد من الشعراء، من أمثال ابن الرومي والبحتري وأبي تمام وابن المعتز وغيرهم ، لا يمثل صنيعهم أو تدبيرهم بل هو ثمرة العمل الذي قام به أبوبكر الصولي (-735هـ) تحديدا، بعد أن جمع المتفرق من قصائدهم ونقحها وشرحها.
باختصار ، نجد في عمل الجامعين والشراع مدونة عما ستكون عليه لاحقا كتب الشاعر، إلا أنها هيئة طباعية ليس إلا، أي لا نتبين في المادة المجموعة ما يدل عن خطة في الجمع وضعها الشاعر نفسه ، وتفيد مطلوبنا، وهو التعرف على "تكوين" القصائد. وما كانت بالتالي لفكرة الجمع فائدة تكوينية بل حفظية.
لذلك نقول أن دراستنا لما بلغنا من الشعر العربي في عهوده الأولى خصوصا، من وجهة نظر "تكوينية" تضيء خصوصا عمل الجامعين ، لا عمل الشعراء، وان أقاموا، مثل الحمداني وغيره ، على جمع شعرهم وترتيبه بأنفسهم فى لقد توصلنا بعد دراسة عدد من المدونات الشعرية التي بلغتنا الى التمييز بين عدد منها، وهي المحفوظ الجاهلي ، الجمع المتفرق المنتخب المعلل والجمع الأوفى.
1- أ- المحفوظ الجاهلي
يمكننا الحديث طبعا عن مدونات مختلفة جرى فيها جمع الشعر فوق حوامل مادية بعد تناقلها عبر الألسن والرواة ، إلا أننا لا نقوى على وضع ترتيب تاريخي تتابعي لصدور هذه المدونات المختلفة ، وان كنا نعتمد في عرضنا هذا سبيلا يكشف عن ميلنا الى ترجيح التتابع المذكور، وما نقوى على تأكيده ، بداية ، هو التمييز بين مرحلتين ، تتوزع فيهما المدونات المختلفة: مرحلة أولى قامت على جمع متبقيات الشعر الجاهلي ، في مجموعات تضم شعر الفحول أو شعر القبائل أو منتخبات شعرية منه ومرحلة ثانية قامت على جمع شعر العهود اللاحقة ، وعلى اختيار منتخبات معللة منه ، من جهة ، وعلى اعادة جمع أوفى للشعر الجاهلي ، من جهة ثانية. فماذا عن الجمع في المرحلة الأولى؟
لا يمكننا الحديث عن جمع الشعر في هذه المرحلة إلا في صيغه تناقله الشفاهي, في المجالس والمحافل والطقوس ، وعبر الرواة وربما في مدونات مادية خاصة ببعض الشعر الذي ميزته القبائل عن غيره ، والحامل من دون شك لمفاخرها وأيامها. ففي أخبار الجاهلية. كما في أشعارها ، أحاديث واشارات عن الكتب والتحبير والتنميق ، وعن الشعر نفسه ، وعن التباهي به بالاضافة الى أشكال التكسب الأولى (النابغة الذبياني عند النعمان بن المنذر، آخر ملوك الحيرة )، وغيرها مما يكشف عن "حياة" شعرية ناشطة ، لم تسلم من تدوين ربما، وان ظلت رواية الشعر وتناقله عبر الألسن الشكل الاجتماعي لتداوله. فاذا كانت المعلومات تفيد عن "كتب" شعرية متوافرة منذ الجاهلية في الجزيرة العربية ، فهذه الكتب تخص شعر القبائل من دون شك ، من دون أن تشتمل بالضرورة على مجمل شعر هذه القبيلة أو تلك ، فهذه الحاجة قد لا تكون مطلوبة في زمن المنازعات القبلية ، بل المطلوب هو التباهي والفخار ورفع أناشيد الجماعة في ماضيها وانتصاراتها (وهو ما يبدو بينا في مدة – عمرو بن كلثوم )، وهو ما يوفره بعض الشعر في كل قبيلة ، لا كله بالضرورة الى هذا فإن فعل الكتابة كان مخصصا في ذلك العهد ، على ما هو معروف ، الى أفعال جليلة وسامية ، مثل العهود وغيرها، فيصعب والحالة هذه تخيل إمكان تدوين شعر كل قبيلة في "كتاب"، بل مختارات منه على الأرجح. الى ذلك يمكننا القول أن جمع الشعر كاملا أو تاما يقتني وجود سعي في الاحاطة ، في التوضيب ، لا نتبينها في حاجات ذلك العهد، وفي غير مجال من مجالاته. إلا أن كلامنا هذا لا يعني أبدا في حسابنا أن جمع بعض شعر الشعراء، أو بعض قصائدهم ربما، لم يكن ميسرا أو مطلوبا في ذلك الوقت ، ولاسيما مع التنافسات في "سوق عكاظ" وغيرها ، كيف لا ونحن نجد في بعض الأخبار ما يفيد عن وجود بعض الشعر مدونا منذ العهد الجاهلي ، إذ يقول ابن سلام الجمحي:"وقد كان عند النعمان بن المنذر ) 580- 602م) منه ديوان فيه أشعار الفحول ، وما مدح هو وأهل بيته به ، فصار ذلك الى بني مروان أو صار منه"(3) كما يحدثنا كذلك عن "كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مئة سنة"(4).
واللافت في هذا العهد هو الحديث عن دور "الراوية" نفسه ، حيث إنه لم يكن ناقلا وحسب ، ولا وسيطا فقط ، وانما كان شاعرا "مبتدئا" إذ جاز القول ، يتمرس بكتابة الشعر وبالتعلم على فنونه ، تابعا أحد الشعراء أو عددا منهم ، على ما نعرفه من سير عدد من شعراء ما قبل الاسلام. ويشد انتباهنا في ذلك قول الجاحظ ، وتسميته للشعراء الفحول بـ "الشعراء الرواة"(5). وهذا ما نتأكد منه لو عدنا الى سلسلة الشعراء الرواة , فقد كان زهير بن أبي سلمى راوية أرس بن حجر وتلميذه ، ثم صار زهير أستاذا لابنه كعب وللخطيئة ثم جاء هدية بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار واويته ، ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهدية وروى شعر, وكان أخر من اجتمع له الشعر والرواية كثيرا، تلميذ جميل وراويته. وماذا عن شعر القبائل وعما أصاب بعضها بعد أن جرى انتخابه وتمييزه عن غيره ، وبعد أن تم حفظه ونقله جيلا بعد جيل ، مثل قصيدة عمرو بن كلثوم التي عظمها أهل قبيلته حتى صارت معرض نقد وهجاء؟ فقد جاء في شعر بكر بن وائل:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالهاعمرو بن كثوم
يروونها أبدا مذ كان أولهم ياللرجال لشعر غير مسئوم
تبقى معلوماتنا قليلة وضعيفة السند عن شعر الجاهلية ، ولعل بعضه وصل مدونا على حوامل مادية الى عدد من الرواة في القرن الهجري الأول. حسبما يرجح الأسد، إلا أن أكثر هذا الشعر وصل من دون شك عبر سلاسل الرواة.
1- ب – الجمع المتفرق
تقليد الرواة لم ينقطع مع مجيء الاسلام ، بل ازداد بفعل عوامل عديدة ، منها حاجة التفسير القرآني لمادة الشعر الجاهلي نفسها، على ما نعرفه عن ابن عباس ، "ترجمان القرآن". وأول المفسرين ، وهو أنه ما كان يفسر آية قرآنية دون الاحتكام الى الشعر الجاهلي ، كما أن حفظ الشعر كان السبيل أيضا الى تعلمه والتمرس به: هذا ما تحققنا منه في سيرة عدد من الشعراء الجاهليين ، وهو ما سنعرفه مع الاسلام ، منذ عهوده الأولى ، بدليل أن شعراء عديدين في القرن الهجري الأول ، مثل الفرزدق وجرير والطرماح وذي الرمة وغيرهم ، ما انقطعوا عن رواية الشعر، فأفادهم حفظه في تمثله وتقليده ونقد رواياته أحيانا.
فنحن نعرف أن ابن متربة كان راوية الفرزدق ، والحسين راوية جرير، والسائب بن ذكران راوية كثير عزة ، ومحمد بن سهل راوية الكميت بن زيد الأسدي، وانه كان للأحوص راويته، ولذي الرمة راويته. وتفيد الأخبار أنه كان للفرزدق غير راوية ، كما يرد في هذا الخبر عن أحد أقرباء الفرزدق: "فجئت الفرزدق (…) ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره ، فأخذت من شعره ما أردت (…)، ثم أتيت جريرا (…)وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد، فأخذت ما اردت "(7) والفرزدق ، حسبما نعلم روى كثيرا من أشعار وأخبار امريء القيس حتى أن بعضها متصل الاسناد حتى الجاهلية نفسها. هو الذي قال فيه الجاحظ إنه "راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم"(8).
غير أن الاستمرار في هذا التقليد لا يغيب ، أو لا يخفي، حقيقة النقلة الواسعة التي شهدها توالي العهود الاسلامية ، وتمثل في تبلور حاجات ناشئة ، تطلبتها الحياة الجديدة ، كما سهلها وقواها اتصال العرب بالورق والوراقة في مطالع العهد العباسي. وهي حاجات متباينة إلا أنها تلتقي كلها على بناء "مرجعية الفصحى"، وعنوانها العام إعادة جمع الشعر الجاهلي ،شعر الفحول والقبائل. فما الحاجات هذه؟
هي حاجات متعاظمة لحفظ الشعر وتوابعه ومتعلقاته من أخبار العرب وأنسابها ، سواء لأغراض السمر والثقافة العامة ، على ما نعرف من عادات معاوية ، أو لتأديب الأولاد به ، بعد أن ولدوا وترعرعوا بعيدا عن بيئات آبائهم وأجدادهم في الجزيرة. ففي المظان أخبار عديدة تفيد عن تعلق بني أمية بالمرويات القديمة ، منها ما قاله الأصمعي: "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب ، فيبردون فيه بريدا الى العراق"(9). وقال عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث ( 84هـ): "قدم عبدالملك – وكان يحب الشعر – فبعثت الى الرواة ، فما أتت علي سنة حتى رويت الشاهد والمثل وفضولا بعد ذلك "(10).. وعناية عبدالملك بالشعر معروفة ، ولاسيما في تربية أولاده ، إذ وردت عنه أخبار تؤكد على طلبه رواية الشعر في التأديب ، ومنها قوله: "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا". وفي الأخبار أيضا أنه كان لمعاوية رواة يرتبون له الأشعار والأحاديث ، وأنه كانت له مجالس ينشد هو فيها ما حفظه من شعر ويستنشأ الرواة والعلماء والشعراء. ونتحقق في الأخبار هذه من أنهم كانوا يحفظون الشعر ويتناقلونه ويدعون الى تعليمه في القرن الهجري الأول.
كما لبى حفظ الشعر، أو استدعته حاجات أخرى واقعة في الدين أو في العلوم اللغوية ، لتفسير القرآن الكريم ، ولاسيما لأقوام غير عربية أو للاستناد اليه في دراسة العلوم اللغوية المختلفة ، من "نوادر" و"غريب" وغيرها. وهو ما ننتبه اليه في نقد بعض العلماء لجمع الأصمعي ، إذ لاحظوا أنه لا يشتمل على الكثير من الغريب والنادر. يقول ابن النديم. "وعمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غريبها واختصار روايتها"(11).
فنحن ننتبه. منذ القرن الهجري الثاني، الى انصراف أعداد من العلماء الى جمع مواد واسعة في غير مجال ، كان الشعر واسطتها وعلامتها، واشتملت على مشافهات وعمليات جمع في البادية ، فأتت متفرقة ومختلطة أحيانا، كما في كتاب "النوادر" لأبي زيد الأنصاري، وأتت مبوبة ومصنفة أحيانا أخرى. وماذا عن جمع الشعر ضمن العملية هذه؟ يقول ابن سلام الجمحي:"وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية"(12). وفي كتابه ما يفيد دوما عن دور "اهل العلم " الذين باتوا يفحصون كل ما يردهم من روايات وأخبار وأحاديث وأشعار. ولقد ذكر ثعلب عن أبي عمرو الشيباني أنه "دخل البادية ومعه دستيجتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه من العرب "(13). ولقد وجدنا في أعمال الجمع الأولى سعيا الى توضيب "مرجعية الفصحى" كما أسميناها، واتخذ التوضيب أشكالا ثلاثة: "انتخاب" أشعار فاخرة لأغراض مختلفة في التأديب والسمر، جمع متفرق لشعر القبائل ولشعر الفحول.