رواية أرض الإله .. القفز على ثوابت العقيدة وحقائق التاريخ
بقلم / باهر سليمان

يعتبر من المشاكل في الكتابة التاريخية الأدبية المعاصرة هو الخلط بين حقائق التاريخ وبين الخيال الإبداعي للمؤلف ، فغالباً في الكتابة التاريخية الأدبية المعاصرة يتم تشويه التاريخ والعبث به تحت دعاوى الإبداع ، وهذا الخيط الدقيق بين الحفاظ على حقائق التاريخ وبين الإنطلاق الإبداعي للمؤلف لا يحسنه في الواقع كثير من الأدباء المعاصرين .

ومن هذه النوعية رواية " أرض الإله " للكاتب المصري أحمد مراد ، والصادره عن دار الشروق المصرية ، وفي هذه الرواية تم تزييف التاريخ بشكل فج ، والمشكلة الكبرى أن يكون هذا التاريخ ليس تاريخاً عادياً ، بل هو تاريخ مرتبط بالعقيدة في سيرة نبي من أولى العزم من الرسل وهو كليم الله موسي صلى الله عليه وسلم ، وتقديم بعض الرؤى المخالفة في سيرة هذا النبي العظيم مخالفة لما ثبت في القرآن الكريم وفي السيرة النبوية الصحيحة ، وفي أحيان أخرى وصل الأمر إلى حد التجاوز في حق هذا النبي الكريم ووصفه بصفات لا تليق به وضعها على لسان أخيه هارون عليه السلام .

تدور أحداث هذه الرواية في مصر القديمة أيام الحكم البطلمي حوالى 280 ق.م في عهد الملك بطلميوس الثاني ، حيث تبدأ الرواية بمقتل الكاهن الأعظم " مانيتون " في معبد الأسوار السبعة بسمنود ، ويكتشف هذه الجريمة تلميذه الكاهن " كاي " والذي يكتشف إختفاء برديات هامة كان قد كتبها الكاهن قبل موته ، ويعلم القصر الملكي بهذه الجريمة فيبعث الملك رئيس القصر والمقرب إليه " مردخاي " للتحقيق في مقتل الكاهن الذي كان قد كلَّفه الملك بكتابة تاريخ مصر القديمة.

يصل " مردخاي " إلى سمنود ويتحدث إلى " كاي " بوصفه أول من شاهد جثة الكاهن ، ويبدي " كاي " فطنة وذكاءً في تحليل مقتل الكاهن ويشير إلى أرقام معينة قد كتبها الكاهن بدمائه على الأرض قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، مما يدفع " مانيتون " إلى إصطحابه معه إلى الإسكندرية حتى يستكمل التحقيق في مقتل الكاهن ، وفي الطريق إلى الإسكندرية يحاول" مردخاي " اليهودي التخلص من " كاي " وسط دهشته ، ثم ينجو " كاي " من تلك المؤامرة وفي رأسه تساؤلات كثيرة أهمها لماذا يحاول رئيس القصر الملكي قتله ؟ وماذا أراد " مانيتون " من تلك الأرقام التي كتبها على الأرض قبل موته ؟ ، ثم تتوالى الأحداث ويعرف " مردخاي " بنجاة " كاي " من محاولة القتل فيتعقبه ويحاول التخلص منه مرات أخرى .

ثم تتكشف بعض الحقائق " لكاي " حيث يدرك أن الأرقام التي كتبها مانيتون قبل موته على الأرض ما هي إلا أرقام رف من أرفف مكتبة الإسكندرية ، وبعد مغامرات ومطاردات بينه وبين رجال " مردخاي " يصل إلى ذلك الرف الذي يحتوى على برديات أحتفظ بها مانيتون في هذا الرف ، ثم يتبين أن هذه البرديات قد كتبها من قديم الزمان نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم يحكي فيها تفاصيل قصته مع فرعون .

ومن هنا يبدأ " كاي " في ترجمة هذه البرديات وسط مطاردات مردخاي اليهودي الذي يرى في ترجمة هذه البرديات خطر على الوضع اليهودي في المجتمع حيث يتبين في قرب منتصف الرواية أن هذه البرديات تبين أن فرعون من الهكسوس وليس مصرياً ، فى الوقت الذي يزعم فيه اليهود في المجتمع أن فرعون كان من الجيبتيين ليُحَمِّلوا المصريين إثم إضطهادهم ، كما تبين البرديات أن الجيبتيين كانوا موحدين ولم يكونوا كفار أو وَثَنيين ، وما بين محاولة كاي لترجمة هذه البرديات ووضعها في مكتبة الإسكندرية لفضح اليهود ومطاردة " مردخاي " له بكل ما يملكه من سلطة لمنعه من ترجمة تلك البرديات وتدميرها تدور أحداث هذه الرواية .

هذه هي الفكرة العامة للرواية ، وأقول أن أخطر ما فيها هو الأجزاء الخاصة بقصة سيدنا موسى عليه السلام والتزوير والإفتراء في أجزاء كثيرة على سيرة هذا النبي الكريم ، ويمكن إجمال بعض هذه الأخطاء في النقاط التالية :
أولاً : بينت القصة أن السيدة آسية بنت مزاحم رضي الله عنها زوجة فرعون ماتت قبل بعثة موسى عليه السلام وأنها ماتت ميتة عادية على فراشها ، وهو غير صحيح بل الذي يدل عليه القرآن والسنة النبوية أنها آمنت بموسى صلى الله عليه وسلم ، ففى القرآن أنها قالت ( رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم:11] ، فهذه الأية تدل بمعناها ودلالتها على أنها عرفت الله عز وجل وآمنت بموسى عليه السلام ، وفي الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) لفظ البخاري برقم 3230 ولفظ مسلم نفسه برقم 4459 .

ومن هنا يتبين عظمة هذه الشخصية الرائعة التي رفضت الجاه والسلطة والخدم وآثرت الإيمان بالله عز وجل ورسوله عليه السلام ، بينما القصة تُظهِرها بصورة سلبية لا دور لها سوى إلتقاط موسى عليه السلام من الماء ، بل يتمادى المؤلف في تعميق هذه الصورة السلبية عندما يجعل إمتناع فرعون عن قتل الرضيع يرجع الفضل فيه إلى إبنته " راحيل " المصابة بالبرص والتي منعت أباها من قتل موسى الرضيع لرؤية رأتها أنَّ شِفَاءَها من هذا البرص في لعاب هذا الرضيع ، بينما الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم أن الفضل في إمتناع فرعون عن قتل الرضيع بعد الله عز وجل يرجع إلى زوجته " آسية بنت مزاحم " ، ففي القرآن ( وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) [ القصص : 9 ] ، يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره لهذه الأية في كتابه التحرير والتنوير " وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدر الله نجاة موسى بسببها " أ.هـ

ولا نرى سبباً منطقياً لهذه المغالطات التاريخية في حق السيدة العظيمة " آسية بنت مزاحم " برغم أن حياة هذه الشخصية وفق التعبير السينمائي بها " حياة درامية " مليئة بالتشويق والإثارة من سيدة مُنَعمَة في قصر عظيم وزوجة لفرعون مصر إلى سيدة مُعَذَبَةٍ ومضطهدة بسبب إيمانها بالله عز وجل ، فلا نرى سبباً لهذا الشطط إلا محاولة تقديم أى رؤية مخالفة لما هو سائد ، حتى ولو كان هذا السائد ثابت بالطرق التي لا يتطرق إليها الشك لمجرد إحداث بلبلة وقيل وقال .

ثانياً : الإدعاء بأن يوسف عليه السلام مات مقتولاً على يد بني إسرائيل ، وفي الواقع أن كون نبي من الأنبياء يموت مقتولاً ليس فيه ما يقدح في مقام النبوة في شىء ، وقد أثبت القرآن الكريم أن اليهود هم قتلة الأنبياء ، ولكن دعوى أن يوسف عليه السلام مات مقتولاً هى دعوى لا يقوم بها دليل ، ولعل الكاتب إعتمد على لفظ " هلك " الوارد في القرآن الكريم عن سيدنا يوسف عليه السلام ، (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) [ غافر : 34 ] ، فربما فهم الكاتب أن لفظ " هلك " تعنى الموت قتلاً ، وهو معنى لم يقل به المفسرون وهم الأعلم باللغة العربية من مؤلف القصة ، حيث أن علماء التفسير قالوا أن هلك بمعنى مات ، ولهذا اللفظ نظائر في القرآن الكريم ، فنجد في سورة النساء (إِنْ امْرُؤٌ هَلَك) (النساء: من الآية: 17) يعني: مات(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه) [القصص: من الآية: 88] يعني: ميت .

وعلى كل حال إن كان يمكن قبول مسألة قتل نبي الله يوسف عليه السلام على يد بني إسرائيل تحت دعوى الخيال الإبداعي حيث لا تمثل نقصاً في مقام النبوة ، فلا يمكن أبداً قبول ما فعله المؤلف من إنتهاك لجسد هذا النبي الكريم حيث في أحد فصول القصة يأتي " مردخاي " اليهودي رئيس قصر الحاكم بتابوت فيه جسد يوسف عليه السلام ثم ينزع من الجسد القلب ويلقيه في كأس الملك حتى يكتسب الملك قدسية يوسف عليه السلام ، فهذا تمثيل وعدوان بجسد نبي من أنبياء الله عز وجل لا يُقبَل ولا يُتَصور وقد كرّم الله عز وجل الأنبياء بأن الأرض لا تأكل أجسادهم تكريماً لهم ، فلا يتصور أن يُسَلِط الله عز وجل أحداً من الناس على أجسادهم تمثيلاً وتقطيعاً ، فهذا غير متحقق ، ولا نقبل هذا من مؤلف القصة إذ يُعتبر هذا تطاول في حق نبي من أنبياء الله عز وجل ، كما أنه في قصة عجوز بني إسرائيل والتي صححها الألباني رحمه الله تثبت أن موسى عليه السلام أخرج جسد يوسف من مصر أثناء خروجه منها .

ثالثاً : من طامات هذه الرواية الزعم بأن موسى عليه السلام تعبد لمدة ثلاثة أيام في معبد كهنة "أون" طالباً للعلم والحكمة في ذلك المعبد ، وينطلق مراد في هذا الزعم من أساس أن المصريين القدماء أو كما يسميهم بالجيبتيين لم يكونوا كفاراً أو وثنيين وإنما كانوا موحدين ، وهو زعم باطل قطعاً فالمصريين القدماء كانوا عبدة أوثان تشهد على ذلك معابدهم وبردياتهم وما خلفوه من آثار ، بل يستدل مؤلف القصة على وجود التوحيد بينهم بإرسال نبي الله إدريس لهم ، ونقول أن إرسال نبي الله إدريس عليه السلام إلى أهل مصر لا يلزم أن أهل مصر في فترة موسى عليه السلام كانوا يعرفون التوحيد ، بل الذى حدث هو إنهيار وتبديل وتحريف لتعاليم نبي الله إدريس عليه السلام ، تقول الدكتورة هدى درويش في كتابها " نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية و الإسلام " ص 185: ( وما حدث في الديانة الإدريسية –الديانة المصرية القديمة – من انحدار إنما حدث على أيدي الكهنة الذين جعلوا تعاليم إدريس رموزاً وأسراراً مستورة ، حتى انقلبت إلى نصب حية أو جامدة ، وجعلوا من أمون إلهاً بعد أن كان رمز النور الشمسي فقط ، وبهذا أصبحت الديانة المصرية أساساً لما بعدها من ديانات وثنية أو مشركة ، كالدين الكلداني والفارسي والإغريقي والروماني إلى عهد الإسكندر . وظهور اليهودية والمسيحية والإسلام بعد ذلك كان رجوعاً بالحق إلى نصابه وبالتوحيد إلى نبعه ).

ومن هنا يتبين أن الفرض بأن ديانة إدريس عليه السلام أو تعاليمه لم يصبها التحريف أو التبديل والتغير وأن المصريين ظلوا على تعاليمه الأولى النقية كما زعم مراد تبعاً للطبيب نديم السبار هو فرض خيالي يعوزه الدليل بل إن الدليل الشرعي والتاريخي على خلافه ، فلم يتعهد الله عز وجل بحفظ بدين من الديانات سوى الإسلام (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [ الحجر: 9] ، يقول ابن كثير في تفسيره (ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذكر ، وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل) .

فتعاليم إدريس التوحيدية نالها التحريف والتغيير مثلها في ذلك مثل النصرانية واليهودية، ويكفى نظرة على تاريخ الفراعنه المسجل على الجدران والبرديات لنعلم أنهم كانت لهم ألهة من بني البشر اعتقدوا حلول الإله فيها ، ويذكر الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفه بجامعه الازهر المولود فى أوائل القرن العشرين في كتابه ( الفلسفة الشرقية ) أن الإعتقاد بحلول روح الإله في البشر ظهر عندما وحد الملك مينا القطرين 3200 ق.م والذي أعلن في غير مواربة أن روح الأله حلت فيه ( راجع الكتاب ص 39- 40 ) ، وتم قبول هذه العقيدة في أوساط المصريين ، وكما يقول دكتور أحمد على عجيبة في كتابه ( دراسة في الأديان الوثنية القديمة ) الصادر على دار الأفاف العربية ص 93 : ( وقبول هذه العقيدة لم يشكل عبئاً على المصريين حيث إنهم كانوا يعتقدون بحلول الإله في الطيور والحيوانات والنباتات ) ، ويوضح في كتابه أن المصريين عبدوا مظاهر الطبيعية كالطائر أبيس ( أبي منجل ) ليرمز إلى أله القمر ، وجعلوا أله الشمس ( رع) حيث كانت الشمس أعظم الألهة عند المصريين وإله الخصوبة ( أوزيريس) وغيرهم ، فعبد المصريون هذه الظواهر لا لذاتها وإنما لأنها ترمز إلى الأرواح الإلهية التي تسيرها وتوجهها ، ولقد حاول أحمد مراد من خلال رواية " أرض الأله " أن يزعم توحيد المصريين تحت دعوى أنهم لم يعبدوها لذاتها وإنما كانت رمز للإله ، وأقول أنه لا فرق بين عبادتها لذاتها أو عبادتها لكونها رمز للإله ، والقرآن الكريم أثبت كفر الوثنيين من العرب الجاهليين الذين قالوا عن ألهتهم ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ) [ الزمر : 3 ] يقول الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان : (قوله تعالى هنا : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام ، إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى ، والزلفى : القرابة ، فقوله : زلفى ، ما ناب عن المطلق من قوله ليقربونا ، أي ليقربونا إليه قرابة تنفعنا بشفاعتهم في زعمهم ، ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وقد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : وابتغوا إليه الوسيلة أن هذا النوع من ادعاء الشفعاء ، واتخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفار)

ومن أجل تبرير هذا الفعل الوثني من المصريين القدماء وضع أحمد مراد على لسان موسى عليه السلام هذه الكلمات كذباً وزوراً في حواره مع السامري : ( يا أحمق ، إن تمثال العجل ما هو إلا تبجيل لقدرة الإله في هذا المخلوق ، تكريماً لبهيمة هي مصدر الخير ليس إلا ، مثل تمثال الجعران تبجيل لقدرة الخالق في البعث ) [ رواية أرض الإله ص : 373] .

ونحن ننزه نبي التوحيد موسى عليه السلام أن يكون نطق بهذا الكلام الكفري أو ننسب له هذا الكلام الكفري ولو من باب الخيال ، بل بدا من الحوار الذي إخترعه أحمد مراد بين موسى عليه السلام والسامري أن الأخير أكثر حرصاً على التوحيد من موسى عليه السلام وهو حوار يبين مدى ضحالة ضعف الفكر العقائدي عند صاحب الرواية ،وإننا نسأل ما هو الفرق بين من عبد ( رع) كصورة للإله أو ( تمثال العجل ) وبين من عبد ( اللات ) ليقربه إلى الله زلفى ؟! ، ما هو الضابط عند أحمد مراد وغيره ممن ذكرهم كمراجع له في الرواية أمثال الطبيب ( نديم السيار ) في جعل الأول موحداً وفي جعل الثاني مشركاً ؟! أعتقد أن هذا الضابط عنده هو " معرفة الله عز وجل " أو ما نسميه في علم العقيدة بتوحيد الربوبية ، ولكن هل هذا الضابط وحده كافي ؟! ، ومن قال أن شرك العرب في الجاهلية كان بسبب توحيد الربوبية ! فالعرب في الجاهلية لم تكن تنكر وجود الله عز وجل ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [ الزمر : 38 ] ، وبالتالي لم تكن العرب في الجاهلية تنكر وجود رب خالق للمساوات والأرض وإنما كان شركهم في صرفهم للعبادة لغير الله تعالى فعبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاء لنا عند الله عز وجل ، ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ يونس : 18 ] ، وبالتالي من عبد رع أو حورس أو حتحور كرمز للإله هو كمن عبد اللات والعزى فهم في الشرك سواء .

فمما سبق يتضح حجم التبديل والتحريف الذي أصاب تعاليم إدريس عليه السلام ، ولاسيما في الفترة الزمنية التي عاش فيها موسى عليه الصلاة والسلام ، ويكفى قراءة متعمقة للحال العقائدي في المجتمع المصري لنعرف أنهم أبعد ما يكونوا عن تعاليم إدريس عليه السلام ، بل إن اليهود المعاصرين لموسى عليه السلام تأثروا بهذه البيئة الوثنية الفاسدة فبمجرد عبورهم مع موسى عليه السلام البحر ووجدوا قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا لموسى عليه السلام أجعل لنا إلهاً كما لهم ألهة ، (جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [ الأعراف : 138 ] ، وهذا الفكر الوثني ناتج عن تأثر بالبيئة الوثنية التي عاشوا فيها في مصر ، مع أن تعاليم يعقوب ويوسف عليهم السلام هي الأقرب زمناً لفترة موسى عليه السلام من تعاليم إدريس عليه السلام ، ومع ذلك لا نلمس أثراً واضحاً لتلك التعاليم في عقيدة بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام ، فكيف بالتعاليم الأبعد زمناً وهي تعاليم إدريس عليه السلام .

لقد حاول مؤلف رواية ( أرض الإله ) الزعم بأن إتهام المصريين القدماء بأنهم عبدة أوثان هي مؤامرة يهودية لتشويه التاريخ المصري حتى يكون النبي موسى عليه السلام هو أول من دعى للتوحيد بين المصريين ، ونقول أن يكون موسى عليه السلام هو أول من دعى للتوحيد بين المصريين هى دعوى – إن صحت - لا تضيرنا في شىء ، بل نحن أولى بموسى عليه السلام منهم ، فلقد لقى موسى عليه السلام من اليهود في حياته العصيان والتعنت ، بل إننا نجد في التوراة المحرفة نصوص توصفه بأنه قاتل النساء والأطفال، والذي استحق غضب الرب بعدما خاصمه واتهمه بالخيانة ، تقول التوراة في سفر التثنية في حق موسى وأخيه هارون ( لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل) .

فلا يعظم الأنبياء في الواقع سوى المسلمون يكفي في ذلك أقل نظرة في العهد القديم أو الحديث للتأكد من هذا الأمر ، فالمسلمون في الحقيقة هم أتباع كل الأنبياء وهم الورثة والحافظون لحقيقة التوحيد الذي جاء به كل الأنبياء ، فثبوت دعوة أن موسى عليه السلام هو أول من دعى للتوحيد على أرض مصر لا تجعل لليهود علينا سبيل أو تسلط أو ما شابه من ذلك الكلام السخيف لأن دين موسى عليه السلام هو ديننا ونحن أتباعه ، أما اليهود اليوم فهم أتباع أحبارهم ورهبانهم الذين حرفوا دين موسى عليه السلام ، إلا أن هذه الدعوى – دعوة أن موسى عليه السلام أول من دعى للتوحيد على أرض مصر- لا تثبت ، بل الشاهد أن إدريس وإبراهيم عليهم السلام دعوا إلى التوحيد على أرض مصر ، ومن بعدهم يوسف عليه السلام ، كما أننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن الأصل على الأرض هو التوحيد وأن الطارىء على البشرية هو الشرك والوثنية عكس ما يقوله التطوريون حيث حدث إنحراف في العقيدة ، وهذا ينطبق على الفراعنة الذين حكموا مصر القديمة حيث بقيت عندهم بقايا تعاليم إدريس والأنبياء عليهم السلام الذين أرسلهم الله عز وجل إليهم ثم حدث إنحراف عن هذه التعاليم بعبادتهم للبشر وللحيوانات والتماثيل كقربى لله عز وجل ، هذا الإنحراف يشبه الذي حدث من بعد إسماعيل عليه السلام في الجزيرة العربية وانتشار عبادة الأصنام .

بعد هذا التأصيل يتبين حجم الإفتراء في الرواية عند الزعم بأن موسى تعبد ثلاثة أشهر في معبد كهنة أون طلباً للعلم والحكمة ، وفي موضع أخر من الرواية يجعل موسى عليه السلام يزور معبد حتحور الجيبتي ، فجعل المؤلف هذه الأماكن الوثنية مكان لتعبد موسى عليه السلام ، وجعل من هؤلاء الكهنة الضلال المحرفين لدين رب العالمين معلمين لموسى عليه السلام ، فأي ضلال وأى إفك قدمته هذه الرواية ؟! ،

ويبقى السؤال من أين أتى أحمد مراد بأن موسى عليه السلام تعبد في معابد الكهنة أو أخذ العلم عنهم ؟! ، هذا المصدر هو الطبيب نديم السيار في كتابه السقيم " قدماء المصرين أول الموحدين" فتحت عنوان " تعلم موسى على أيدي كهنة مصر " يذكر قوله تعالى عن موسى عليه السلام : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) [ القصص : 14 ] ، ثم ينقل أقوال " تشارلس ماكنتوش " أن موسى عليه السلام تهذب بكل حكمة المصريين وعلومهم ، ثم يذكر قول للشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه قصص الأنبياء مفاده أن البلاط الفرعوني قد تولى تربية موسى بواسطة الكهنة ، وينقل قول المؤرخ المصري شاروبيم الذى عاش في الفترة من 1861م إلى 1918 م قوله " ومن المقرر على ما رواه المحققون ..أن موسى النبي لما أخذته ابنه الفرعون أبقته في دار أبيها حتى ترعرع .. ثم أدخلته إحدى مدارس الكهنة " ( راجع كتاب قدماء المصرين أول الموحدين من ص 135- 137 ) .

وإن الإنسان ليعجب أبهذه ألأقوال المرسلة التي تفتقد إلى الدليل الشرعي الذي يثبت هذا الكلام تقام تلك الدعوى الخطيرة ! وهل شهد تشارلس ماكنتوش أو الشيخ عبد الوهاب النجار أو غيرهم موسى عليه السلام وهو يتلقى العلم عن الكهنة ! وهل بتفسير ظني للـ " العلم " الوارد في أية سورة القصص يتم نسج تلك الرواية الخيالية ! إنها فى الواقع دعوى لا تنهض بها أدلة شرعية أو حتى تاريخية ، وما اعجب قول نديم السيار " إذن فقد تعلم موسى العلم المصري والحكمة المصرية ، وبالطبع تم ذلك على أيدي معلمين من قدماء المصريين ..ذلك لأن الفرعون وقومه من البدو الرعاة لا ثقافة لهم ولا علم ولا حكمة ..هذا إلى جانب أن الذي تعلمه موسى كان علماً مصرياً وحكمة مصرية ، ومن الطبيعي أن الفرعون الهكسوسي قد عهد به إلى كهنة قدماء المصريين لتعليمه " ( راجع كتاب قدماء المصرين أول الموحدين من 137 ) ، وهذه الدعوى العجيبة من نديم
السيار إنما قائمة على أساس سبق بيان بطلانه وهو الزعم بأن قدماء المصريين كانوا موحدين على زمن موسي عليه السلام ، وهو زعم متهافت سبق الرد عليه ، فبيان وثنية عقائد المصريين وقت موسى عليه السلام يهدم فكرة تعبده أو تعلمه على أيدي الكهنة المصريين ، أضف إلى ذلك أنه وفقاً لإعتقاد السيار بتوحيد المصريين زمن موسى عليه السلام يناقض نفسه في تلك الدعوى حيث كيف يرسل فرعون الكافر بعقيدة التوحيد موسى عليه السلام ليتعلم العلم على أيدي كهنة يخالفهم عقائدياً ! ثم السؤال الأهم هل كانت هناك أصلاً معابد وكهنة في دولة فرعون ! إن وفقاً لدعوى السيار أن فرعون موسى من الهكسوس فلا معنى أن تكون المعابد والكهنة المصريين موجودين في دولة فرعون بل يكون الراجح – إن ثبت أن فرعون من الهكسوس – أن يكون الكهنة ومعابدهم خارج حدود دولة الهكسوس في جنوب مصر خارج حدود ملكهم.
والغريب أن تلك الأراء العجيبة التي قدمها السيار وتابعه مراد لا دليل عليها سوى الهوى والخيال الجامح ، فإننا لا نشم أثر لرائحة دليل شرعي أو حتى على أقل تقدير وثيقة تثبت هذا الكلام ! وكتابه كله على هذا المنوال تخرصات وكلام بلا علم .

إذن من أين جاء موسى عليه السلام بالعلم والحكمة الواردين بالأية ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ؟ والمقصود بالحكم هنا هو الحكمة ، ووسائل تحصيل هذه الحكمة قد تكون " فطرية " وقد تكون " مكتسبة " ، أما الحكمة المكتسبة فهي معروفة ووسائلها التفقه في الدين أو كثرة مجالسة أهل الصلاح وكثرة التجارب وغيرهم ، أما الحكمة الفطرية هي منة من الله عز وجل يؤتيها من يشاء من عبادة وهي المعنية في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري : "إن الحكمة ليست عن كبر السن ، ولكنه عطاء الله يعطيه من يشاء " [ ابن أبي الدنيا : الأشراف ص 112 وهو ضعيف لإعضاله ، وابن الجوزي : مناقب ص 186 ، والهندي : كنز العمال 16/ 265 ونسبه لأبن أبي الدنيا في كتاب الأشراف ، والدينوري ] ، وبالتالي الحكمة الواردة في أية القصص هي حكمة فطرية منَّ بها الله عز وجل على موسى عليه السلام ولم يأخذها عن الكهنة الفاسدين كما زعم السيار وتابعه أحمد مراد .

أما العلم الذي إكتسبه موسى عليه السلام فهو علم أبائه يوسف ويعقوب عليهنم الصلاة والسلام لا علم الكهنة الوثنيين وأساطيرهم الوثنية ، بل إن فرعون وحاشيته كانوا على علم بذكر يوسف عليه السلام وربما بقايا من تعاليمه فالأية (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) [ غافر : 34 ] تثبت معرفة فرعون وحاشيته بيوسف عليه السلام وببيناته أى تعاليمه وإلا لما كان لإحتجاج مؤمن أهل فرعون عليهم بهذا الكلام له معنى إذ كيف يحتج على فرعون بشخص لا يعرفه ولا يعرفه تعاليمه ! فإذا كان هذا العلم في حق فرعون مظنون فهو في حق موسى عليه السلام متحقق إذ هو من نسل الموحدين " يوسف " و " يعقوب " ، أما تفاصيل نقل هذا العلم إلى موسى عليه السلام فعلمه عند الله عز وجل .
بشكل عام الرواية بها أخطاء فادحة أكثر مما ذكرت بكثير كإنكاره موت فرعون موسى غرقاً وإنكاره طوفان نوح وتصويره على أنه دسيسة يهودية ، حلق موسى عليه السلام للحيته عندما تعبد في معبد أون وغيرها من الترهات ، ولكني أكتفى بهذا ، ونسأل الله عز وجل أن يلهمنا الصواب في القول والعمل وهو حسبنا فنعم المولى ونعم النصير .