مسائل مهمة في التوحيد" هذه المسائل هي جزء من رسالتى في إقرار المشركين للربوبية"

المسألة الأولى: أهمية التوحيد.

إن التوحيد من أسنى المطالب وأهمّ ما يعتنى به ، ومن أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، وفي تحقيقه قطع الأنبياء والصالحون الأولاد، وفارقوا البلاد ، ونصب لهم العداءَ كثيرٌ من مجرمي الجن والعباد على اختلاف المشارب والأجساد، دفاعاً منهم للوثنة والأنداد ، فلقى الأنبياء منهم كثيراً من المصاعب والأنصاب، وفي ذلك يقول نبينا صلى الله عليه وسلم لعائشة:" " لقد لقيت من قومكِ ما لقيتُ.." أخرجه الشيخان، وقال تعالى"{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}[ الأنعام: 112].
وكانت مهمة الرُسل جميعاً الدعوة إلى هذا التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}[النحل36].
وأول رسول أرسله الله إلى البشرية نوح عليه السلام وكان يقول لقومه ما قصه الله لنا في القرآن {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }[الأعراف:59].
وكذلك يقول كل رسول لقومه كما قال تعالى {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (65) }
وقال تعالى:{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}[الأعراف:73].
وقال:{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}[الأعراف:85].

المسألة الثانية : الأصل في الناس التوحيد والإسلام
ومن أجل هذا التوحيد خلق الله الخلق، وأمر العباد بالإخلاص والإفراد له بالطاعة إذ كان التوحيد أصلاً لهم وفطرة فطرهم الله تعالى عليهم كما جاء في"صحيح مسلم"(2865) عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم في خطبته: " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".
وأخرج البخاري (1359)ومسلم (2658) عن هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، أو يمجسانه، ..».
وهذا دليل قوي على أن الله تعالى خلق خلقه بالتوحيد والاستقامة والفطرة والإسلام، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }[الروم:30].قال الإمام البخاري (بعد الرقم 4774):والفطرة الإسلام "اهـ .
وقال الحافظ في " الفتح"(3/ 248): وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال بن عبد البر - في"التمهيد"(18/ 72)- وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها الإسلام.. اهــ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(10/ 135):"فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفاً بالله، محباً له، عابداً له وحده..اهــ.

المسألة الثالثة: أول ما بداية الشرك كان في قوم نوح وكان أصله المغالاة في الصالحين.
وقد كان الناس أمة واحدة على الاستقامة والسلامة إلى عهد نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام فحينها تغيرت الفطرة واضمحلت السلامة فأخرج الإمام الحاكم في " المستدرك" (2/ 480 الرقم 3654): عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فلما اختلفوا بعث الله النبيين والمرسلين وأنزل كتابه فكانوا أمة واحدة» قال الحاكم :" صحيح على شرط البخاري" ووافقه الذهبي .
وبدأ الشرك يتغلغل في الأمة وكان بدايته الغلو في الصالحين كما أخرج البخاري(الرقم4920) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف، عند سبإ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت» .
وفي هذا الأثر الجليلِ بيان في بداية الشرك وأنه بدأ أول ما بدأ من رجالٍ من قوم نوح عليه السلام وأن هؤلاء الرجال كانوا صالحين ثم تقاسمت العرب هذه الأصنام ، فكان أول بداية الشرك المغالاة في الصالحين .

المسألة الرابعة : في بيان الكيف التى اتخذ الناس الأصنام والأحجار آلهة من دون الله؟.
فكانت بداية الشرك المغالاة في الصالحين وكيفيته أن هؤلاء الجهال الكفار من قوم نوح قدروا وضع هذه الأحجار والأشجار موضع معبود غائب كما ذكره ابن الأثير -وسيأتي إن شاء الله-، قال الإمام الشهرساني في " الملل والنحل"(3/104-105): عُلم أن الأصناف التي ذكرنا مذاهبهم يرجعون آخر الأمر إلى عبادة الأصنام، إذا كان لا يستمر لهم طريقة إلا بشخص حاضر ينظرون إليه ويعكفون عليه، وعن هذا اتخذت أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها.
وبالجملة وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبا منابه وقائما مقامه، وإلا فنعلم قطعا أن عاقلا ما، لا ينحت جسما بيده ويصوره صورة ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه، وإله الكل وخالق الكل، إذ كان وجوده مسبوقا بوجود صانعه، وشكله يحدث بصنعة ناحته.
لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها؛ كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها. وعن هذا كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب.اهــ .
وكلام الشهرساني صريح في أنهم لم يعتقدوا الأصنام أنها الآلهة الحقيقية وأنها هي الأرباب ، وإنما كانت الأصنام بمثابة الوسائط لرب الأرباب وسياتي كلامه إن شاء الله.
وذكر فخر الدين الرازي أن هذه الأصنام كانت بمثابة الأنبياء والأكابر ولم تكن مجرد أحجارٍ وأشجارٍ، فقال في تفسيره " مفاتيح الغيب" (17/227 سورة يونس الآية: 18) :..إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى.. اهـ.
ومثله ذكره أيضاً الإمام أبو محمد موفق الدين ابن قدامة المقدسي(ت: 620هـ) أن بدايته كانت تعظيم الأموات يقول – رحمه الله-:..تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها ، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام : تعظيم الأموات باتخاذ صُوَرهم ومسحها والصلاة عندها "اهـ."المغنى"(2/ 193).
وفي ترجمة السيدة نفيسة وتعليق ما يفعله الجهال عند قبرها مما سيأتي في كلام الحافظ الذهبي قريباً، يقول الحافظ ابن كثير في" البداية والنهاية"(10/ 286):والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام.اهـ.

المسألة الخامسة : عودة الشرك إلى الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم
ولخطر الشرك وكثرة التلبيسات الشيطانية كان نبينا صلى الله عليه وسلم شديد الحرص في بيان التوحيد وتحقيق العبادة لله تعالى، لما بعثه الله تعالى بدين الحق، بشراً ونذيراً وأمره بالدعوة إليه جهاراً ، فأعرض أكثر الناس وكان لا يألو جهداً في بيانه والتحذير من مداخل الشيطان وشركه.
ومع هذه المتاعب والمشاق التى تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم و– بأبي هو وأمي – وكذلك والصالحون؛فإن من المؤسف والمحزن جداً أن كثيراً من الناس قد رجعوا إلى الشرك والوثنة من جديد، وقد ذكر -صلى الله عليه وسلم- عودةَ الشرك إلى الأمة، وهذا من دلائل نبويته، فأخرج البخاري(الرقم: 7116) في باب" تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان "،ومسلم (2906)،واللفظ له عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس، حول ذي الخلصة» وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة . "تبالة" اسم موضعٍ .
قال الإمام ابن الجوزي في" كشف مشكل الصحيحين"(3/324):وذو الخلصة: بيت كان فيه صنم يقال له الخلصة، وكان لدوس وخثعم، وكان يسمى الكعبة اليمانية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله لهدمه، وعقد له لواء، فهدمه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الناس يعودون في آخر الزمان إلى عبادة الأوثان. وإنما ذكر اضطراب الأليات ليصف قوة الحرص على السعي حول ذلك الصنم الذي كان يعبد حتى حرص النساء إلى أن تضطرب أعضاؤهن لشدة الحركة.اهـ
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (رقم الحديث (2906): والمراد يضطربن من الطواف حول ذي الخلصة أي يكفرون ويرجعون إلى عبادة الأصنام وتعظيمها.. اهـــ
وأخرج الإمام أحمد(22453)وأبو داود(4252) عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "..إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله ".
وقد جاءت أدلة كثيرة تدل على هذا المعنى، فلذا كان الشرك يتسلل إلى بعض المسلمين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وحياته لجهلهم بمعاني التوحيد وقرب عهدهم من الشرك فقد أخرج الإمام أحمد (21897) والترمذي (الرقم2180) وابن حبان في"صحيحه" (6702)عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وكلما كثر الجهل والبعد عن الشرع يكثر الشرك والبدع في الأمة، وكم يكثر هذا النوع وأشدَّ منه في بلاد المسلمين؟!! فكم فيها من أشجار يتبرك ويعتكف عندها، ويجتمع لها في السنة مرة أو مرتين؟!!،
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي (ت: 520هـ) في" الحوادث والبدع" (ص: 39):فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق؛ فهي ذات أنواط؛ فاقطعوها.اهـ
وقال الإمام السوطي في" الاتباع والنهي عن الابتداع"(ص: 106):قوله " ينوطون " أي يعقلون وهذا أمر منكر قبيح؛ فإن هذا يشبه عبادة الأوثان وهو ذريعة إليها، ونوع من عبادة الأوثان؛ إذ عبدة الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يرجون الخير بقصدها. ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض. وسواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعوا أو ليقرأ، أو ليذكر الله، أو ليذبح عندها ذبيحة، أو يخصها بنوع من العبادات.اهــ .
ومما يدل تسلل الشرك إلى بعض المسلمين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه النسائي (3776) وقواه الحافظ في الفتح (11/ 92) عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته، فقال لي: " قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان، ثلاث مرات، واتفل عن يسارك، ثلاث مرات، ولا تعد له ".
فانظر كيف حلف هذا الصحابي باللات والعزي، ثم انظر كيف حكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالكفر والردة، وكيف لقّنه النبي – صلى الله عليه وسلم- التوحيدَ مرة أخرى، فإذا كان الجهل يفعل من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بما ترى من الكفر والجاهلية الأولى؛ فكيف من بعُد من منبع الرسالة وإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم.

المسألة السادسة: كلام بعض العلماء الذين عاصروا أنواعاً من الشرك مما يشهد لعودته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
كان أهل العلم والمعرفة من بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- يشددون في هذا الباب ويحذرون من جميع الذرائع والوسائل الموصلة إليه، وأعظم أبوابه المغالاة في الصالحين، كما سبق أو تعظيم الأماكن التى يرجى منها البركة كما كان المشركون يرجون البركة من السدرة .
ولهذا نسي المسلمون الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها في بيعة الرضوان، فقد أخرج البخاري (4163) ومسلم (1859) واللفظ للبخاري عن طارق بن عبد الرحمن، قال: انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد، حدثني أبي " أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها "، فقال سعيد: «إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم»".
وهذا النسيان كان رحمة من الله لعباده كما بين ذلك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر فأخرج البخاري(2958) عن نافع، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: «رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله».
قال الإمام النووي في" شرح مسلم"(13/ص5):قال العلماء سبب خفائها أن لا يفتتن الناس بها لما جرى تحتها من الخير ونزول الرضوان والسكينة وغير ذلك فلو بقيت ظاهرة معلومة لخيف تعظيم الأعراب والجهال إياها وعبادتهم لها فكان خفاؤها رحمة من الله تعالى.اهـ.
وقال الحافظ في الفتح(6/ 118):وبيان الحكمة في ذلك وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها وإلى ذلك أشار بن عمر بقوله كانت رحمة من الله أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى..اهـ.
وقد روى أن عمر بن الخطاب هو الذي قطع هذه الشجرة، ولذا كان الصالحون من بعده يقتدون به في قطع مثل هذه الأشجار، وما يفتتن به العامة، وقد أعجبني ما أعجب الإمام أبا شامة الشافعي شيخ الإمام النووي (ت:665هـ) فإنه ذكر قصة في كتابه " الباعث على إنكار البدع"(ص: 27)قال:ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبيناني رحمه الله تعالى أحد الصالحين ببلاد إفريقية في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب، أنه كان الى جانبه عين تسمى عين العافيه، كانت العامة قد افتتنوا بها، ياتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد، قالت: امضوا بي الى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فانا في السحر ذات ليلة اذ سمعت أذان إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبحَ عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس الى الآن.اهـ.

وعلى كلٍ ما شاهده الحافظ من اعتقاد بعض الجهال في الأشجار – وهو المسمى عندنا بالمولع- فقد شاهد الرازي الأشعري أيضاً قريباً منه؛ فإنه عد الاستشفاع بالأموات وتعظيم قبور الأكابر نفس شرك الجاهلية، وذكر أن هذا كان من اشتغال كثيرٍ من الخلق في وقته، قال الرازي (ت: 606هـ) قال في تفسيره " مفاتيح الغيب" (17/227 تفسير سورة يونس الآية: 18) وهو يعدد كيفية اتخاذ الأصنام شفعاء عند الله،
قال:...إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى،
ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله..اهــ
بل عاصر الإمام القرافي المالكي قوماً يدّعون بأنهم اعطوا كلمة التكوين والإيجاد (كن) كما عاصرتُ أنا من يقول إن الشيخ يتكلم بلسان الألوهية، فلا تعجب إذا رأيتَ في كتاب "المناقب" وباسمه الآخر "الفيوضات الربانية في الأوراد القادرية" (وأمري أمر الله إن قلتُ كن يكن.. ).
يقول الإمام القرافي في" الفروق" (4/262 مع الأنوار):...إن تعظم حماقة الداعي وتجرؤه فيسأل الله تعالى أن يفوض إليه من أمور العالم ما هو مختص بالقدرة والإرادة الربانية من الإيجاد والإعدام والقضاء النافذ المحتم،
وقد دل القاطع العقلي على استحالة ثبوت ذلك ‫‏لغير الله تعالى فيكون طلب ذلك طلبا ‫للشركة مع الله تعالى في الملك وهو ‫‏كفر.
وقد وقع ذلك لجماعة من جهال الصوفية فيقولون فلان أعطي كلمة كن ويسألون أن يعطوا كلمة كن التي في قوله تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].
وما يعلمون معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى ولا يعلمون ما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت،
وهذه أغوار بعيدة الروم على العلماء المحصلين فضلا عن الصوفية المتخرصين فيهلكون من حيث لا يشعرون ‫ويعتقدون أنهم إلى الله تعالى ‫‏متقربون وهم عنه ‫‏متباعدون عصمنا الله تعالى من الفتن وأسبابها والجهالات وشبهها.اهــ
وكذلك الحافظ الذهبي عاصر مثل هذه المظاهر الشركية حيث قال الإمام شمس الدين الذهبي (المتوفى : 748هـ) في" سير أعلام النبلاء" (10/106) في ترجمة السيدة نفيسة :ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية اهـــــــ .
ولذا فلا تعجب إذا رأيتَ الإمام أبا الوفاء ابن عقيل الحنبلي(ت:515ه)،يك فر هؤلاء فقد نقل عنه الإمام ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص: 354)،وابن القيم في" إغاثة اللهفان"(1/ 195)،أنه قال: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندى كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاى افعل بى كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور..اهـ.