الهَيْبَةُ الموْهُوْمَة

يولد الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ويبدأ في التعلم والفهم والمعرفة شيئاً فشيئاً، وفي كل مرحلة من مراحل حياته ينظر إلى من يكبره بالسن والعمر بنظرة الإجلال والهيبة؛ لزيادة علمهم ومعرفتهم مقارنة بعلمه ومعرفته، بل ربما ينظر إلى مجالات أخرى من العلوم والمخترعات والاكتشافات بنظر تخالطه مشاعر قد لا يستطيع تفسيرها، ولا التعبير عنها، وفي بعض نواحي ذلك الإجلال والرهبة تقف هيبة جهله بالأمر المراد، وإذا قيل : (الإنسان عدو ما يجهل)، فكذلك يقال:(الإنسان يهاب ما يجهل)، فإذا كانت من أسباب العداوة الجهل؛ فكذلك من أسباب المهابة والخشية الجهل أيضاً، فالصبي الصغير في بدايته قد تمر به حالات من الخوف من بعض الناس الذين لا يألفهم، وربما يخاف من الأصوات أو الصور التي لا يألفها، ولكنه مع الأيام والتجارب وازدياد المعارف تتغير طباعه، ويتغير سلوكه وتصوراته تجاه تلك المعارف بل تجاه الوجود بأجمعه، وهنا قصة طريفة حصلت لأحد الأدباء الكبار في صغره ألا وهو المبرد، فقد قيل في أحد أسباب تسميته بالمبرد ما ذكره أبو هلال العسكري فقال:« دخل الجاحظ على المازنى وعنده المبرد- وهو غلام- فأخفى شخصه فى جب عن الجاحظ، وجلسا يتحدثان فعطس المبرد من مكمنه، فقال الجاحظ: من هذا المبرد منا؟»(الأوائل، 276)، لم تنته القصة بعد فهذا الطفل الذي هاب الجاحظ وخاف منه واختبأ!، إذا به يصبح من طلاب الجاحظ في لاحق الأيام!. وسواء أكان اختباء المبرد من الجاحظ هيبة من الكبير، أم هيبة ممن هو أعلم منه؛ فإنها تدل على أن حاجز الرهبة والخوف سببه الجهل بالشيء، فحينما يحصل العلم بالشيء ويرسخ؛ تزال معه أكثر العقبات والعوائق.
وهكذا الحال مع مراحل الإنسان فيما بعد الطفولة فقد تلازمه تلك الحالة حتى في كبره، وكم من الناس من تمر به حالات من الرهاب والخوف، لكن الحال يتغير بتغير النظرة تجاه تلك العلوم والمعارف، فكلما ازداد الإنسان منها علماً وإدراكاً ومعرفة؛ كلما تحرر من رهبتها وخشيتها، ولا يلبث ذلك الإنسان الجاهل بكثير من الأمور والعلوم والمعارف حتى يزداد دربة وجرأة؛ وذلك حينما يخوض ميدان التجارب التي تبين له الحال عن قرب، وإذا بذلك الإنسان ليس هو الذي كان من قبل، فقد انطلقت مواهبه، وتزايدت مهاراته، وسبحان الله الخالق الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، وجعل في فطرته القبول للتعلم، وهداه طريق النجدين.
ومن تلك العلوم التي يحصل للمبتدء فيها هيبة ورهبة؛ علم الفلسفة وما يتبعها من نظريات وأفكار ومقولات ومناهج، فما يكاد بعض المبتدئين في هذه العلوم يسلك طريق الطلب فيها؛ إلا ويحصل له نوع من تلك الرهبة والهيبة، وتتنازعه الخشية والخوف منها حتى يطأطأ رأسه خنوعاً وإذعاناً، بل ربما ورَّثته فتنةً في قلبه حتى تستحكم من هواه وتبلغ مبلغاً عظيماً .
والمسلم بما حباه الله من دين رباني عظيم؛ لايحتاج كما يحتاج غيره من بني البشر من المناهج العقلية، والطرق الفلسفية، لأن في الوحي كفاية وغناء إذ غاية الوحي الإيمان، وأما الفلسفة فهي نتاج العقول وهي وإن كان في غايتها الحكمة أو التفكير السليم أو النتائج الصائبة -كما يدعي أصحابها-؛ فإنها لا تثبت على أمر، ولا تستقر على قول أو مذهب، فكم من المناهج والأفكار والنظريات التي ظهرت في العصر الحديث وبعضها غيرت مجرى الفكر والتاريخ ثم لم تلبث أن رفضت ولفظت واستبدلت بمناهج ونظريات وأفكار أخرى،، وهكذا،، حتى أن الفلسفة التي كانت في يوم من الأيام تسمى أم العلوم إذا بها اليوم تنزوي في زوايا ضيقة في بعض مباحث ما يسمونه بفلسفة العلوم وفلسفة الدين.
لقد دخلت الفلسفة اليونانية على المسلمين قديماً في زمن المأمون وبعد ذلك التوقيت ظهرت أنواع حادثة من البدع والآراء المخالفة لأقوال السلف وكان أصحاب الأهواء قبل ذلك الزمن وقبل حركة الترجمة يستندون إلى مناهج مخالفة لكنها في الإطار العام لا تخرج عن الصورة الاستدلالية عند علماء المسلمين، كاستدلالهم على نفي الصفات بشبهات من النصوص الشرعية، أو بوجوه من اللغة، أو بأبيات من الشعر، أو بالتأويل العقلي المحض. لكن حينما دخلت الفلسفة تلقفها كثير من أهل الأهواء وظنوا أنهم عثروا على قانون يعصم الذهن عن الوقوع في الخطأ، وسموه بالمنطق، وعلى ما يبلغهم اليقين ووسموه بـالحكمة، وقاربوا بينها وبين علم الشريعة، وقد كان ما كان لهذا الأمر من المفاسد العظيمة، فقد أدى ذلك إلى ظهور مقولات غريبة لا تحقق لها في الخارج، وإنما هي موجودة في الأذهان لا تحقق لها في الأعيان(حسب تعبير ابن تيمية رحمه الله)، ومن تلك المفاسد ظهور المذاهب الباطلة كالباطنية والقرامطة وغلاة الصوفية، حتى أدَّى ذلك إلى انحطاط الأمة وتأخرها وذلك بعد الانشغال بعلم الكلام وليد الفلسفة، وأصبح علماء الكلام يشغلون الناس بقضايا لا تنفعهم في أمر دينهم ولا تقيم لهم أمر دنياهم، فهي إلى الشك أقرب منها لليقين.
وقد ظهرت في تلك الأيام حركة الزنادقة وما يعرف بإخوان الصفا وخلان الوفا؛ وكانت تلك الحركة الواجهة الفلسفية والأدبية للحركات الباطنية، وقد اعتمدوا في نشر مذهبهم على التصورات الفلسفية، واستعملوا أساليب الترغيب والترهيب، كما كان يفعله الحشاشون والقرامطة مع أتباعهم، إذ كان لألفاظهم ومصطلحاتهم رهبة لمن يقرأها أو يسمعها، وكذلك الأمر مع صور دعاة الباطنية وهيئاتهم الظاهرة لها رهبة وخشية للناظر -الجاهل بحالهم- لأول وهلة. ولإدراكهم أن المصطلحات لوحدها ليست بكافية للرهبة والإذعان، فلابد من عرفان يُرهب القلوب ويَخْلِب العقول، وقد اقترب منهم أحد علماء اليمن (محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي) بعد اختلاف الناس حول أمر الصليحي؛ فدخل في مذهبهم ليستخبره ويعلم فحوى دعوته، يقول بعد اطلاعه على طوامهم:«ينصبون للناس الحبائل، ويكيدون لهم بالغوائل، وينقبضون عن كل عاقل، ويلبِّسون على كل جاهل، بكلمة حق يراد بها الباطل». ويقول:«فيوهمون على من لا يعرف لزوم الشريعة والقرآن وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقع هذا من ذلك المخدوع بموقع الاتفاق والموافقة لأنه مذهب الراحة والإباحة، يريحهم مما تلزمهم الشرائع من طاعة الله ويبيح لهم ما حظر عليهم من محارم الله».ويقول:«فأفسد بتمويهه قلوب الجهال وزين لهم الكفر والضلال»، ويقول عن أبي طاهر الجنابي:«كان فيلسوفاً ملعوناً ملك البحرين واليمامة والأحساء وادّعى فيها أنه المهدي القائم بدين الله»، ويقول عن المقنع:« وكان حكيماً فيلسوفاً ملعوناً».ويقول عن الصليحي:«وذلك أن الصليحي ومن هو على مذهبه يدعون إلى ناموس خفي كل جهول غبي بعهود مؤكدة، ومواثيق مغلظة مشددة على كتمان ما بويع عليه، ودعي إليه وأنه لا يكشف لهم سراً ولا يظهر لهم أمراً، ثم يطلعه على علوم مموهة، وروايات مشبهة، يدعوه في بدء الأمر إلى الله ورسوله، كلمة حق يراد بها الباطل ثم يأخذه بعد ذلك بالرفض والبغض لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»(كشف أسرار الباطنية:ص22، 24، 33، 38، 39، 74 ).
وأكثر ما يفتن الناظر في الفلسفة غموض المفاهيم، وتقعيد المناهج العقلية المستنبطة من العلوم النظرية والطبيعية، وغيرها من أسباب الإعجاب، والتي لا تخلو من الهيبة لها بالتسليم والقبول، وعدم الخروج عن المسار المألوف بدعوى اتباع المنهج أو التفكير المنطقي ونحو ذلك.
وابن تيمية رحمه الله من العلماء الذين تجاوزوا الهيبة الفلسفية المموهة، بما اتصف به من استعلاء إيماني، وتمسك بالكتاب والسنة، واتباع لهدي السلف الصالح، وأيضاً بمعرفته بالفلسفة والإلمام بدقائقها وتفاصيلها، وقد وهبه الله ذكاء حاداً، وبصيرة عجيبة، ولذا كان نقده للفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي من الرسوخ بمكان، ومقولته المعروفة في المنطق اليوناني تدل دلالةً واضحةً على تجاوزه الهيبة الموهومة إذ قال في المنطق:«فإني كنت دائماً أعلمُ أنَّ المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد».(الرد على المنطقيين:ص3).ويق ول:«فلا تجد أحداً التزم وضع هؤلاء واصطلاحهم إلا كان أكثر خطأً وأقل صواباً ممن لم يلتزم وضعهم وسلك إلى المطلوب بفطرة الله التي فطر عباده عليها ولهذا لا يوجد أحد ممن حقق علماً من العلوم كان ملتزماً لوضعه»(الرد على المنطقيين:297).
وكذلك أقواله الأخرى حول الفلسفة والفلاسفة وما يستعملونه من الألفاظ الموهمة، والتي تتصف بالإيهام والتهويل إذ يقول:«ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لا بد لها منه وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعوا أنه أصل المعرفة والتحقيق».(الرد على المنطقيين:ص31).
ويقول:«ولا ريب أن كلامهم في إثبات ذلك وإن كان مهيباً عند من لم يمعن النظر فيه فهو عند التحقيق في غاية الفساد والتناقض والاضطراب كما قد أوضحناه في غير هذا الموضع»(بغية المرتاد:192).
ويقول:«ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو من مشهورات أقوالها. ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة، ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم».(درء تعارض العقل والنقل، 4/ 181).
ويقول:«وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن رأى العدو المخذول، فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ، ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز»(درء تعارض العقل والنقل، 4/ 182).
ويبين رحمه الله أن الافتتان بهذه الأقوال تقع عند من قلَّ إيمانُه ومعرفته بالوحي من جهة، ومن جهة ثانية تقصيره عن معرفة جذور تلك المفاهيم الفلسفية يقول:«فهذا الكلام سيعظمه في بادئ الرأي أو مطلقاً من لم يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ولم يعلم حقيقة الفلسفة التي طبق هذا الكلام عليها وعبر عنها بعبارات المسلمين». (بغية المرتاد: 222).
ويقول:«والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدّعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح، وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن يفزعه ذلك من الصبيان، ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام، وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول، وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح، وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر، وفزعاً باطناً وظاهراً كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان».(درء تعارض العقل والنقل، 4/ 181).
وهناك بعض العلماء الذين فتنوا بالفلسفة أو علم الكلام ولم يتجاوزوا الهيبة الموهومة، ومن أولئك أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله، فقد تأثر بمذهب المعتزلة بعد مخالطته لهم، يقول عنه الذهبي:«وأخذ علم العقليات عن شيخي الاعتزال: أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة»، ويقول:«كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجسر على تأويل النصوص - نسأل الله السلامة -»(سير أعلام النبلاء 19/ 444، 447).
لقد فتن المسلمون في العصور الأخيرة بتلك النظريات والأفكار والفلسفات الموهومة التي ظهرت في سياقات أخرى، وبيئات مختلفة، وفي ظروف خاصة لا يمكن تطبيقها على تراث المسلمين ودينهم وحضارتهم، لاختلاف المرجعيات والمفاهيم والأديان، وإلا فإن الموقف عند علماء المسلمين من تعلم العلوم النافعة كالحساب والطب والهندسة والرياضيات والفلك وعلوم العمران والتقنية وغيرها مما يحتاجه الناس في أمور دنياهم، ويغلب عليها القضايا الصادقة والصحيحة؛ فهذه في تعلمها مندوحة، ومن فروض الكفايات، وهذا ابن تيمية رحمه الله يقول عن الهندسة والعلم الرياضي عند اليونان:«وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطَّردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية.
فإن علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المنفصل علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة مثل جمع الأعداد وقسمتها»(الرد على المنطقيين:ص133).
ويقول عن اللذة الحاصلة بتعلم العلم الرياضي، وما يحصل بالتعود عليه من التعود على العلم الصحيح، وتعلق بعض الفلاسفة بالعلم الرياضي لصدق قضاياه وبلوغها درجة اليقين، ويذكر عن بعض الفقهاء اشتغالهم وقت فراغهم بهذه العلوم:«قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك فإن الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه وسماع ما لم يكن سمعه إذا لم يكن مشغولاً عن ذلك بما هو أهم عنده منه، كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب.
وأيضا ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصادقة والقياس المستقيم فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك وتعويد النفس أنها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك.
ولهذا يقال أنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يُعلِّمون أولادهم العلم الرياضي، وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل لم يجد في ذلك ما هو حق أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي كما كان يجري مثل ذلك لمن هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره.
وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك لأن فيه تفريحا للنفس وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط»(الرد على المنطقيين:ص136).
فهذا ابن تيمية رحمه الله وما يراه في هذه العلوم النافعة التي لا تضر بعقيدة المسلم ولا تفسد عقله، وهذا ما ينبغي على المسلم فعله في هذه الأزمان أن يستفيد من العلوم النافعة التي تنمي ملكاته العقلية وليس لها مفاهيم موهمة وقضايا مغلوطة.
ومما يدل على وهم كثير من الاتجاهات الفكرية المعاصرة ما وقع لأصحابها المؤمنين بها من الارتكاسات والضياع والتشتت، بعد أن تعلقت آمالهم على تلك الأوهام حيناً من الدهر، ومن تلك النظريات والأفكار ؛الاشتراكية والشيوعية والماركسية فمن ذا الذي يسمع عن أهلها اليوم الذين علقوا عليها آمالهم وبنوا عليها مستقبلهم، بل من ذا الذي ينادي بها بيننا ويعلق عليها آماله؟، وكذلك الحال مع أتباع أوهام القومية العربية وحزب البعث أين هي اليوم ؟ وأين هي الآمال الكبيرة التي علقت على تلك الفلسفات والاتجاهات الموهومة؟.
ومن الأمثلة المعاصرة على أوهام هذه الاتجاهات، وهم الحداثة وما يتعلق بها من أفكار ورؤى واتجاهات ومذاهب، والتي خلبت أنظار بعض الخلق، وانساق أبناء المسلمين خلفها يظنون أنهم قد ظفروا بما ينهض بهم من رقدتهم ونكستهم، وهذه شهادة أحد من كان يرهب الحداثة ويخشاها، ثم تبين له زيف هذا الوهم، يقول عبدالعزيز حمودة: «ولا أخفي على القارئ سراً، أنني بدأت بشعور الرهبة والخشية في بداية تعاملي مع الفكر الجديد، وهي نفس الرهبة والخشية التي يشعر بها القراء جميعاً، ولا شك، من خارج نادي نخبة النخبة الحداثي. ثم حدث أنني بعد أن تفرغت لدراسة الحداثة من داخلها بدرجة تكفي لفهمها، ومن مسافة تمنعني من الانضمام غير المشروط إلى نادي نخبة النخبة، وجدت نفسي وقد زايلتني الرهبة والخشية وأصبحت قادراً على التعامل مع البنيوية والتفكيك دون انبهار. بل أصبحت قادراً على كشف بعض غموضهما وفك طلاسمهما. » المرايا المحدبة(ص6).
وإذا كنت أخي القارئ من المتعلقين بسراب الفلسفة الموهومة، والعلوم الإنسانية المموهة، وتُعجب بأصحاب الفكر العربي، وتعاني من أزمة داخلية إما بسبب حال المسلمين، أو بسبب التخلف الحضاري، أو تشتغل على سؤال النهضة؛ إليك هذا النص لأحد أعلام عصر الأنوار، تلك الحقبة المقدسة عند بعض أصحاب الفكر العربي الموهوم، يقول جان جاك روسو عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه بأنه من أعظم المشرعين:«وإن النفس العظيمة التي للمشرع لهي المعجزة الحقيقية الدالة على رسالته. ما من إنسان إلا ويستطيع أن ينقش على ألواح من الحجر، أو أن يرشو عرافاً فيبتاع ذمته، أو أن يتظاهر بصلة خفية تصله ببعض الآلهة، أو أن يروض طائراً يهمس له، أو أن يتوسل أساليب أخرى فظة لغواية الشعب؛ بل إن الذي ليست له دراية بأي شيء عدا هذه الأساليب، يستطيع هو أن يجمع بالمصادفة لفيفاً من الحمقى؛ ولكنه لن يقيم ملكاً ذا شأن، وإنما تلفى أثره يزول بزواله. ألا إن الأبهات الباطلة لتؤلف عرى زائلة، ووحدها الحكمة تجعل العرى وثقى على الدوام. فأما الشريعة اليهودية، وهي الباقية على الدوام، وكذلك شريعة سليل إسماعيل، وهي التي تسوس شطر المعمورة منذ عشرة قرون، فما فتئتا إلى وقتنا هذا تخبران بعظمة من سنهما من الرجال؛ وبينما لا ترى الفلسفة المتكبرة، أي العصبية في هؤلاء الرجال إلا دجالين وأتاهم الحظ، فإن رجل السياسة الحقيقي يعجب بما تطفح به مؤسساتهم من عبقرية عظيمة ومقتدرة، تلك التي تسهر على التأسيسات المستديمة»، ويقول أيضاً:«ظلت الشعائر الدينية المقدسة على الدوام مستقلة عن صاحب السيادة، أو قل عادت مستقلة عنه كما كانت، لا تربطها بجسم الدولة رابطة ضرورية. وأما محمد فكانت له تصورات قويمة جداً، فإنه أحسن شد عرى نسقه السياسي؛ وطالما أن شكل الحكم كان واحداً هو هو تماماً، فكان لهذا السبب عينه حكماً صالحاً»(في العقد الاجتماعي:ص 129، 241).
والمتأمل في حال المسلمين اليوم وما حل بهم من ضعف وتخاذل واستلاب ليس إلا بسبب تلك الشعارات والفلسفات الموهومة، التي عاش عليها كثير من أبناء المسلمين ردحاً من الزمن، ولن يكون لهذه الأمة القوة والمنعة والرفعة إلا برسوخ إيماني وتمسك بالعقيدة الصافية، وهذا يتمثل في عودة الأمة إلى دين ربها وسنة نبيها، وكذلك بالتخلص من تلك الأوهام المموهة، وبذلك تعود الأمة للريادة والقيادة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عبدالغني الزهراني
19/ 4 / 1437هـ