موسوعة ( شعراء العربية ) م 4جـ 2
الشاعر السري الرفاء
بقلم د فالح الحجية

السري هو ابو الحسن السري بن احمد الكندي
ولد في الموصل سنة \ 312 هجرية- /922 ميلادية ونشأ فيها وتعلم القرآن الكريم في الكتاتيب كما هي العادة المتبعة عند المسلمين، ثم أسلمه والده للرفّائين في صباه فتعلم فكان يرفو ويطرِّز الثياب ولكنه احب الادب والشعر فكان يتردد على مجالس العلماء والأدباء والشعراء مما مكّنه بعد مدة قصيرة من ممارسة نظم الشعر ويعزّز هذه الملكة التي احس بها في نفسه ونمّاها بمطالعة دواوين الشعراء وقصائدهم فنبغ في الشعر وقاله . الا أنه كان يتظلّم من مهنته ويحتقر ما تدره عليه من الرزق القليل فيضيف إلى هذا المورد ما كان يكسبه مما يقوله في الشعر من مدحٍ لبعض أغنياء بلده الذين يهبون له بعض العطايا يقول في المدح:
ولاحَ لنا نَهْجٌ خَفِيٌّ كأنَّه
إذا اطَّرَدَتْ أثناؤُه حيَّةٌ تَسعى
إلى سيِّدٍ يُعطي على الحمدِ مالَه
فيأخُذُ ما يَبقى ويُعطي الذي يَفنى
وأبيضَ يَحمي كلَّ أبيضَ ماجِدٍ
إذا لاحَ فرداً فهو صاحبُه الأدنى
طلعْتَ عليه والذوابلُ تَلتوي
أسنَّتُها في نحرِ كلِّ فتىً ألوى
وأسفْرتَ والألوانُ تَرْبَدُّ خِيفَةً
وبيضُ الظُّبا تَدْمَى وسُمْرُ القَنا تَفْنَى
تَقَيَّلْتَ عبدَ اللهِ في البأسِ والنَّدى
فما حِدْتَ يوماً عن طريقتِه المُثلى
وأنتَ رفعتَ الشَّعْرَ بعدَ انخِفاضِهِ
بجودكَ حتى صار في ذِروةِ الشِّعرى
ولكن دَخْله من مهنته ومن هبات الأغنياء لم يكن ليكفي متطلبات حياته فيصف رزقه ويقول :
وكانت الإبرة فيما مضى
صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا
كأنه من ثقبها جاري
ولما سمع بجود سيف الدولة الحمداني وكرمه وفضائله ومحبته للشعر والشعراء قصده في حلب فأخذ يمدحه ويمدح كبار رجال الدولة الحمدانية ، فقرَّبه اليه الامير سيف الدولة وأغدق عليه العطاء لما لمسه فيه من شاعرية فذة من خلال قصائده في مدحه يقول في احداها :
و سيفٌ من سيوفِ اللّهِ مُغرًى
بسَفـْـكِ دِما العِدى منه الفرارُ
حضرْنا والملوكُ له قيامٌ
تَغُضُّ نواظراً فيها انكسارُ
فكان لجوْهرِ المجْدِ انتظامٌ
وكان لجوْهَرِ المدحِ انتِثَارُ
بعثـْــتَ إلى الثغورِ سحابَ عدلٍ
و بَذلٍ لا يَغُبُّ له انهمارُ
و أسكنْتَ السكينة َ ساحَتيها
فقرَّتْ بعدَما امتنعَ القَرارُ
و علَّمْتَ النَّفيرَ بها رجالاً
عَداهُم عن عدوِّهمُ نِفارُ
و فِضْتَ على عدوِّهمُ فقـُـلنا
أفاضَ البحرُ أَم سحَّ القُطارُ
مكارمُ يَعجَزُ المُدَّاحُ عنها
فجُلُّ مديحِهم فيها اختصارُ
وقد ناصبه البغض والحسد الى حد العداء الشاعران الخالديان وهما محمد وسعيد ابنا هاشم و نغَّصَا عليه معيشته عند سيف الدولة وجَرَتْ بينه وبينهما مهاجاة ومحاسدات واتهامات كثيرة .
ولكن مقامه عند سيف الدولة لم يدم طويلاً اذ سعى الحاسدون بإلصاق مجموعة من التهم به وقد ناصبه البغض والحسد الى حد العداء الخالديان وهما محمد وسعيد ابنا هاشم و نغَّصَا عليه معيشته عند سيف الدولة وجَرَتْ بينه وبينهما ومهاجاة ومحاسدات واتهامات كثيرة مما حمل سيف الدولة على النفور منه ثم وانتهت علاقتهما حيث مات سيف الدولة الحمداني . فرحل الشاعر عن حلب متوجهاً إلى بغداد فأقام فيها يمدح الوزراء والقادة ووصل إلى الوزيرالمهلبي ومدحه فقال فيه :
يا سيِّدَ الوزراءِ نِلْتَ من العُلى
والمجدِ ما يَعيا به الوزراءُ
هي ليلةٌ لا زِلْتَ تَلبَسُ مثلَها
في نِعمَةٍ وُصِلَتْ بها السَّرَّاءُ
أغنيتَ قوماً حينَ هَزَّ غناؤُها
عِطْفَيْكَ رُبَّ غِنىً حَداه غِناءُ
وقطعتَها والليلُ يصدعُ قلبَه
ضدانِ نارٌ تستنيرُ وماءُ
نَعَمَ البريَّةُ في بَقائِكَ فلتَدُمْ
لهُمُ بطولِ بقائِك النَّعماءُ

وقيل ان السري الرفاء كان منغمساً في الفسق وشرب الخمر والسعي وراء الملذات إلى حدٍّ كبير مما أورثه الفقر وضيق ذات اليد ولحقه الدَّيْن فاضطر إلى ممارسة صيد السمك في نهر دجلة وبيعه وكذلك لجأ إلى مهنة الوراقة فكان ينسخ ديوان شعره أو شعر غيره من الشعراء فيبيعه بثمن مرتفع وليثبت دعواه بأن الخالديين كانا يسرقان شعره و شعر الآخرين بدليل أن ما يدعيانه من شعر موجود في دواوين الآخرين ومن قوله فيهما :
يا سارِقَ الشُّعَراءِ ما نَظَمُوهُ من
دُرٍّ كَزَاهِرَة ِ النُّجومِ مُفَصَّلِ
إن كانَ شِعْري في إِسارِكَ مُوثَقاً
ما بينَ مَغلولٍ وبينَ مُكَبَّلِ
لو كُنتَ لا تُعْطي الأمانَ مَدائحي
من وَثْبة ٍأو غارَة ٍ لا تَنْجَلي
فخَفِ الإلَهَو ما أظُنُّكَ خَائِفاً
أن تَدَّعي سُوَرَ الكِتابِ المُنزَلِ
فالناسُ مِنْكَ مُحَيَّرونَ تَخوُّفاً
أن تَمْتَحِي سُنَنَ النَّبيِّ المُرسَلِ
يا خالديُّو كلُّ خِزْيِكَ خالدٌ
لا يَنْقَضي للناظرِ المُتأمِّلِ
ما زِلْتَ إنْ عُدَّ الفَضائِلُ خامِلاً
لكنَّ نَقصَكَ ظاهِرٌ لم يَخمُلِ
و قد ناصره الثعالبي في كتابه(يتيمة الدهر) فأورد شيئاً من أشعار الخالديين التي زعم السري الرفاء أنها مسروقة وقد ترجم الثعالبي له ترجمة مطوّلة أكثرها أبيات من شعره إلا أنه كان كثيراً ما يشير إلى سرقات السري من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه فملأ صفحات في بيان ذلك.
و بقيت حياته قلقة في بغداد فلم ينعم بالغنى وراحة البال
و كثرت قصائده في الشكوى :
أُسَلِّمُ للأَيَّامِ أَم لا أُسَلِّمُ
و أَحمِلُ ظُلْمَ الدَّهْرِ أَمْ أتظَلَّمُ
بَكَيتُ على شِعْرٍ أُصيبَ كما بكى
على مالكٍ لمَّا أُصيبَ مُتَمِّمُ
تَعزَّيْتُ عن نَيْلِ الثَّراءِ بِفَضْلِهِ
و ما مُعْدِ مٌأثرى من الفَضْلِ مُعْدِمُ
أُجانِبُ فيه لذَّتي ومَكاسبي
و أهجُرُ فيه النَّومَو الناسُ نُوَّمُ
إذا ما المعاني أَومَضَتْ لي بُروقٌها
و ساعَدَها وَشْيُ الكَلامِ المُنَمنَمُ
فظل كما يقول الخطيب البغدادي في شقاء دائم وفقر متواصل الا
انه بقي مسترسلاً في ملذاته.
توفي في بغداد. سنة \ 366 هجرية -- 976 ميلادية
كان السري شاعراً مطبوعاً عذب الألفاظ، مليح المأخذ كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف يمتاز شعره بصدق العاطفة وقوتها والطبع الادبي والشعري بعيدا عن التصنع وخاصة في تمثيله للحياة العادية والطبقة العامة وكذلك يمتاز شعره بالسهولة والوضوح مع شيء من الصناعة والبلاغة في البديع والتشبيهات والاستعارة . وعلى العموم يتميز شعره بسهولة اللفظ وجزالته وغلبة الصناعة عليه اذ كانت سمة العصر لدى الشعراء قال الشعر في المدح والغزل :

و من قوله في الغزل-
بنفسي من اجود له بنفسي
ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامن في مقلتيه
كمون الموت في حد الحسام
وكذلك ابدع في الوصف و الرثاء وكان وصفه جميلا رائعا :
مرحباً بالصبوح في الظلماء
وبعذراء من يدي عذراء
وبسكرين من لحاظ غزال
ساجر لحظه ومن صهباء
واحمرار الكؤوس في كف ساق
صيغ من ماء وردة بيضاء
ضحكت أوجه اللذاذات بالفطـ
ـر ولاحت طوالع السراء

ومن اثاره التي خلفها بعده الكتب الاتية :
1 - ديوان شعر كله جيد
2- كتاب المحب والمحبوب والمشموم والمشروب
3-كتاب الديرة.
ومن روائع شعره هذه القصيدة :
أمِنَ العيونِ ترومُ فَقْدَ عَنائِه
هَيهاتِ ضَنَّ سَقامُها بشِفائِه
ما كان هذا البينُ أوَّلَ جَمرةٍ
أذكَتْ لهيبَ الشَّوقِ في أحشائه
لولا مساعدةُ الدموعِ ودَفْعُها
خوفُ الفِراقِ أتى على حَوبائِه
وأنا الفداءُ لمن مَخِيلَةُ بَرقِه
حظِّي وحظُّ سواي من أنوائِه
قمرٌ إذا ما الوشيُ صِينَ أذالَه
كيما يَصونَ بهاءَه ببهائِه
خَفِرُ الشَّمائلِ لو مَلَكتُ عِناقَه
يومَ الوَداعِ وَهَبْتُهُ لحَيائِه
ضَعُفَتْ معاقِدُ خصرِه وعهودُه
فكأنّ عَقْدَ الخصرِ عَقْدُ وَفَائِه
أدنو إلى الرُّقَباءِ لا من حبِّهم
وأصدُّ عنه وليس من بَغضائِه
للهِ أيُّ محاجرٍ عنَّتْ لنا
بمُحَجَّرٍ إذ ريعَ سِربُ ظِبائِه
ونواظرٍ وجدَ المحبُّ فتورَها
لمّا استقلَّ الحيُّ في أعضائِه
وَحيَاً أرقتُ لبرقِه فكأنه
قَدَحُ الزِّنادِ يطيرُ في أرجائِه
حنَّتْ رواعِدُه فأسبل دمعُهُ
كالصَّبِّ أتبعَ شدوَه ببكائِه
امير البيان العربي
د فالح نصيف الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
***********************