بارك الله فيكم جميعا .
قول العلامة ابن جبرين رحمه الله المنقول آنفا :
..وبكل حال ما أشكل من ذلك
-كما قال ابن قدامة:
(وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه)
يعني كيفيته،
هذا هو الصحيح، أما معانيه اللغوية فإنها ظاهرة، ونجعل عهدته على ناقليه ونثق بهم ..
فهم الشيخ رحمه الله من قول ابن قدامة أنه يقصد الكيف ولم يقصد ما يقول به المفوضة . ولعل هذا هو الراجح ، لما هو معلوم أن المصنف على عقيدة اهل السنة ، وقد ذكر شيخ الإسلام ذلك ، بل تابعه في العقيدة الواسطية في كلام كثير ، بل تابعه في حروف بعينها .
قال الشيخ يوسف الغفيص :
قال المصنف بعد تقريره لهذه القاعدة في الصفات: [وما أشكل من ذلك -أي: في باب الصفات- وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله] . هذه المسألة من أشد ما أخذ على الموفق رحمه الله ، وكما أسلفت فرسالته هذه ليس فيها غلط محض بيِّن، إنما فيها بعض الأحرف المحتملة، فهل هذه العبارة من المصنف تقرير للتفويض، أم لا؟ وقبل الجواب ينبغي أن يعلم أن الاعتبار دائماً يكون بتحقيق الحقائق، وأما أن هذا المعين من الناس يقول بهذا المذهب أو لا يقول به، فهو غير مهم، والمهم أن يكون بين لنا ومعلوم أن التفويض في الصفات طريق بدعيٌ لا أصل له في كلام السلف. فكما أن السلف رحمهم الله تركوا التأويل، وقالوا بوجوب البقاء على ظواهر النصوص، وأن النصوص معناها واحد، إلى غير ذلك، فإنهم تركوا قول المفوضة أيضاً، والمراد بالمفوضة: هم من زعموا أن هذه النصوص يُعمل بألفاظها وأما معانيها فليس هناك معنىً يُؤمن به، وإنما يفوض العلم بالمعنى إلى الله، وهذا مذهب غلط ومبتدع، وكما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن قول المفوضة من شر أقوال أهل البدع"......
وإنما كان التفويض ممتنعاً عقلاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أراد بهذه الأخبار التعريف به، فإذا كان معناها غير مُدرك فإن المعرفة به سبحانه لن تكون ممكنة، ولأن الله سبحانه وتعالى أراد بذكر الخبر معنىً معيناً، كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]فهذا خبر متضمن لإثبات صفة السمع صراحة، وإذا لم يكن هناك فقه وفهم للصفة، فإن العلم بهذا الخبر يكون علماً ممتنعاً؛ فالتفويض لهذا قول متعدٍ، ولكن مع كونه بدعة أو متعذراً في الشرع والعقل، فإن طائفة من الفقهاء المبتعدين عن علم الكلام امتدحوه، وظنوا أنه طريق للسلف أو لطائفة منهم، ولذلك يمكننا أن نقول: التأويل طريق المتكلمين ومن وافقهم أو تأثر بهم، والتفويض طريق جماعة من الفقهاء والصوفية المعظمين للسنة والأئمة، ولكنهم لم يحققوا مذهبهم.
تبرئة المصنف من مذهب المفوضة
مسألة: هل ابن قدامة يعتنق مذهب التفويض أم لا؟ يقال: هذه مسألة محتملة، ولكن الأظهر في طريقته رحمه الله أنه لا يوافقهم، وإن كانت بعض ألفاظه المجملة قد تشعر بشيء من ذلك، والدليل على أن الموفق رحمه الله ليس مفوضاً أنه جعل القاعدة في الأسماء والصفات هي الإثبات بالتسليم والقبول والإيمان، وترك التعرض لأدلة الصفات بالرد والتأويل؛ وهذا كله وغيره تقرير للإثبات المعروف عند السلف. ثم إن هذا التقرير الذي ابتدأ به هو الذي فصَّله في رسالته هذه وفي غيرها من رسائله التي كتبها في أصول الدين؛ فقد ذكر تفصيل الإثبات للقرآن وأنه كلام الله، وتفصيل الإثبات لصفاته الأخرى سبحانه وتعالى ، ولهذا فإنه قال: [وما أشكل من ذلك] فبهذا يُعلم قطعاً أن الموفق ليس مفوضاً، إنما المحتمل أن يكون عنده شيء من التفويض، وفرق بين من دخل عليه شيء من التفويض وبين من طريقته في الأصل طريقة المفوضة. وعليه فما علَّقه بعض المعاصرين: من أن صاحب الرسالة يذهب إلى مذهب المفوضة، وهو مذهب مخالف لمذهب السلف لا شك أن هذا الكلام فيه مبالغة وخلط، فالحقائق يجب أن تكون معتدلة، أما أن مذهب المفوضة مخالف للسلف فنعم، لكن أن يفتات على إمام من الأئمة ويطعن فيه من باب ضبط السنة، فهذا ليس بلازم، فإنه يمكنك أن تضبط السنة من غير أن تطعن في أئمتها وحملتها. فالإمام ابن قدامة قال: [وما أشكل من ذلك] فدل على أن جمهور الأدلة في الصفات غير مشكل، والذي هو غير مشكل لم يذكر فيه تفويضاً إنما ذكر التفويض في المشكل، فدل على أن غير المشكل عنده على معناه الحقيقي، وأن المشكل ليس قاعدة مطردة، وهذا قدر لا بد أن يُضبط ..... والظاهر أن ابن قدامة رحمه الله كان يبتعد عن أهل هذه الطريقة، ويرى أن ما زاد عن كلام السلف والأئمة، فإنه يجب التوقف فيه، والمعاني التي يسأل عنها الناس مما زاد على تقرير السلف يفوض علمها إلى الله سبحانه وتعالى..... لم يقصد المصنف بهذا الكلام أن سائر آيات الصفات هي من المتشابه الذي يفوض عن معناه، والدليل على أنه لم يرد ذلك: أنه فصَّل في رسالته هذه -كما فصل في غيرها- ذكر الأسماء والصفات ومعانيها... وما إلى ذلك، ولهذا لما ذكر الإمام ابن تيمية الحنابلة قال: "إنهم ثلاثة أقسام: قسم يميل إلى شيء من طرق المتكلمين كبعض التميميين كابن عقيل وأمثاله. وقسم يبالغون في الإثبات ويزيدون فيه، كأبي عبد الله بن حامد ". ثم قال: "وقسم من أصحابنا محققون لطريقة الأئمة كأحمد وغيره، وطريقته هي طريقة أهل الحديث المحضة؛ كالشيخ أبي محمد "، ويقصد بالشيخ أبي محمد الموفق ابن قدامة صاحب هذه الرسالة، فحكم شيخ الإسلام عليه حكم عادل، ولهذا لو كان الموفق مفوضاً لما فات شيخ الإسلام ذلك، ولا سيما أن هذه الرسالة: "اللمعة" قد وضع ابن تيمية نفسه رسالته "الواسطية" على نسجها، ومن يتأمل رسالة الموفق ورسالة الإمام ابن تيمية ، يجد تشابهاً بيناً بين الرسالتين، حتى أنه كرر بعض الأحرف، ورتب بعض المسائل على نفس المنوال. وكذلك العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ، فإنه بعدما علّق على قول ابن قدامة : "وجب إثباته لفظاً" قال:"... والمصنف رحمه الله إمام في السنة، وهو أبعد الناس عن مذهب المفوضة وغيرهم من المبتدعة، والله أعلم". اهـ.
ومن يقرأ ما قبل لفظة المصنف وما بعدها يدرك أنه أراد ترك التعرض للكيفية، ولذا قال : وما أشكل من ذلك .
وإن كان الأولى ترك هذه اللفظة الموهمة .