مغـالطـات

في الجاهلية تتقلص مساحة تعريف الشر وتضطرب، فتكبر مساحة الشر، حتى يصير الشرير قدوة بدلا من أن يكون عبرة، فيختلف الناس في دركات الشر عوض أن يتنافسوا في درجات الخير، ويُختزل الإنسان في كتلة من اللحم، وتقدر قيمته بحسب ما في جيبه، إنها حياة العبث.
وفي المجتمع القائم على الحق تقع مخالفات ونقائص، لكن من البشر لا من النظام، أما في المجتمع الجاهلي فتقع المخالفات من النظام نفسه، حيث يستحيل الإصلاح، لأن الأصل فاسد، وتقع المخالفات من البشر أيضا بصورة أوسع، حتى أنه لا يبقى هناك مجال للمقارنة.
لكن الجاهليين يتصورون الأمة المسلمة شيئا مثاليا، فإن أخطأ المسلمون يومًا أو ضعفوا قالوا أن هذا الدين غير واقعي، ولا يمكن تطبيقه في هذا العصر.
كما أنهم يعتبرون مخالفات الجاهلية مانعا صحيحا ومشروعا من الإسلام، ويعتبرون الكفر شرا لا بد منه، ولا يؤمنون بأن دين الله دين لكل زمان ومكان، وإن آمنوا بأن الله خالقهم، وما يؤول إليه المجتمع من الكفر وغيره من الفساد هو من تخطيطهم أو بسببهم على الأقل، لكنهم يستدلون به يا للعجب!
إن الخير ليس تصرفا حضاريا، فالحضارة لا تصنع الخير ولا الرجل الصالح، والعلوم لا علاقة لها بالأخلاق، فالعلوم مصدرها الدماغ والأخلاق مصدرها القلب، والتكنولوجيا ليست نموذج حياة كما يوهمون الناس، فقد تعيش في كل نماذج الحياة الإلهية أو البشرية الجاهلية، فالحضارة لا تقابل الهمجية كما يتصورها الغربيون منذ عهد الإغريق والرومان، بل الحضارة تقابل البداوة كما يقابل الغنى الفقر.
فهم يربطون التكنولوجيا بالعلمانية وبالعهر والدياثة، ولذلك لم يستطع الناس أن يتخلصوا من الفساد الخلقي لأنهم يعتقدون بأنه تحضر، ولو سموه باسمه لتركوه.
والفساد لا يرتبط بالفقر والضعف، كما أن الصلاح لا يرتبط بالغنى والقوة، بل الواقع يقول أن الإنسان إذا قوي نازعته نفسه لفعل الشر، وإذا ضعف واحتاج مال إلى الخير، يقول الله –تعالى-: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (العلق: 6/7).
إن كلمة "العصر" تعني فترة زمنية مجردة عن الحسن والقبح، ولا تعني نموذج حياة، مثلها مثل كلمة التطور، فالتطور مجرد تغير، وقد يكون باتجاه الأسوأ، وليس الأحسن دائما كما يريدون أن يصوروه، فيربطون كل ما هو عصري بالجاهلية الغربية، ليثبتوا أن الإسلام غير عصري، وأنه شيء من الماضي، مثل التقاليد البالية التي ترتبط عادة بكلمة "المحافظة"، كخير يسدونه إليها، فالتقاليد تعبير عن التمسك بالماضي، أما اتباع شرع الله فلا علاقة له بالماضي، فهو شيء دائم لا يحده زمان ولا مكان.
مثلما كان التقدم والتحرر يوما ما مرادفا للإشتراكية، أما الرجعية والظلم فكانت مرادفا لدين الله، هكذا كان يروّج على الناس ولا زال مع مذاهب أخرى، ومثلما تُقدَّم لنا السيجارة على أنها صورة من صور التحضر، ولو رأى الإنسان القديم كيف يحرق الإنسان المعاصر أحشاءه لسخر منه.
لقد ارتبطت العلمانية بالثورة الصناعية بسبب محاربة النصرانية للعلم التجريبي، ولذلك لم يتحضر الغربيون حتى تركوا النصرانية، أما الإسلام فكان أهله أقوياء فلما تركوه ضعفوا، لأن ديننا يدعو لإعمال العقل.
لكن العلمانيين يحاولون أن يصوروا معركة وهمية كتلك التي وقعت بين النصرانية والحضارة ويلصقونها بالإسلام أيضا، وقد انشطرت حياة العلمانيين بتصديقهم للنصرانية في الغيبيات وتكذيبهم لها في الحسيات، أما الإسلام فكل قوانين الحياة موافقة له، لأن هذا شرع الله وذاك خلق الله.
ليس كل ما في الغرب حضارة، وإنما الحضارة في الجانب المادي البحت، أما الإعتقاد والسلوك فهو جاهلي، ولذلك لا بد من الفرز بينهما، وأي غموض في هذا المنحى إنما هو في صالح العلمانية، التي بنيت على الأكاذيب تفرضها فرضا، وقد نجحت في فرضها نجاحا باهرا مع الأسف، لكن حبل الكذب قصير .
فلربطهم الكفر بالحضارة يعتقدون أنه مادامت سبل العيش في تحسن مستمر فإن مبادئهم في تحسن أيضا، وأنه ليس هناك صراع بين الخير والشر، وإنما الصراع بين القوة والضعف، يحاولون أن يثبتوا أن الأكثر تحضرا هو الأصح منهجا والأقوم سبيلا.
نجد هذا الغموض حتى عند الكثير من المنتسبين لدعوة الإسلام، إذ يحتجون في غفلة أثناء محاربة الشرور بروح العصر ومبادئ التحضر وحضارة القرن الواحد والعشرين، الأمر الذي ينفي حجية الرسالات الإلهية، وهذا الإعتقاد نابع من قول الجاهليين بأن التوحيد مجرد مرحلة توصلت إليها البشرية بالتجارب.
إن خصائص الإنسان لازالت هي نفسها، ولا يمكن أن يخرج يوما عن نطاق الخير أو الشر، ولن ينال بوسائله صفة الإله، وإن الله إذ سخّر للإنسان ما في الأرض وضع له نظاما يسير عليه لا ليتركه إذا استغنى، وها هي الفكرة التي تعتبر التكنولوجيا نموذج حياة متكامل آخذة في الإنهيار، وقد بدأ الناس يعطونها قدرها المادي فقط، عكس ما كانت عليه قبل عقود.
إنهم يحذرون من النمو الديمغرافي لأنهم يعتبرون الإنسان مستهلكا غير منتج، وهذا نظرا لفشلهم في حل الأزمات وإشباع البطون الخاوية، فالإشتراكية ساوت بين الناس في الفقر، والرأسمالية زادت الفقراء فقرا والأغنياء غنى.
ومع ذلك يوهمون الناس بأن المسلمين يبنون حياتهم على الغيب، ويعيشون على البركة، بينما العلمانية تبني الحياة على التخطيط والحركة، ويجعلون الإسلام مرادفا للصوفية والرهبانية، حتى يتهمونه بمحاربة الحضارة، ويضعونه في موقف العداء لها، بينما هو يدعو للحضارة، ويرفض الفساد الذي علق بها دون ضرورة، وإنما هي الأهواء عمّت فأعمت، أي يريد حضارة في إطاره، ويأبى الفساد باسم التحضر، ويفرق بينهما لأنهما غير متلازمين، وقد أقام حضاراته دون فساد .
تلكم بعض أباطيل الجاهلية المعاصرة ومفاسدها التي هي أكثر من أن تحصر، والتي تعذب البشرية ما دام دين الله غائبا عن خوض الصراع ضدها لتخليص الناس من شقاء الدنيا والآخرة، وإن كان الواقع أكثر فسادًا مما نتصور، فإن قرائح عباقرة المفكرين لتعجز عن كشف كل خباياه، وإن ألسنة البلغاء والشعراء لتبقى عاجزة عن تصويره.
لقد فات البشرية خير كثير، وقد عرفته في فترات من تاريخها، لكن أهل الجاهلية لا يتفطنون لهذه المفاسد التي هم غارقون فيها، ما داموا لم يروا البديل في صورة أمة مسلمة، يرونها رأي العين.


محمد سلامي