تناولت الصوفية مفهوم السبب من منطلق تصوراتها لثلاثة أمور :
أولاً : مفهوم القدر .
ثانياً : مفهوم التوكل .
ثالثاً : مفهوم الركود والولاية .
أولاً : القضاء والقدر عند الصوفية :
استغرق الصوفية في معاني توحيد الربوبية ، والتأمل في الأسماء والصفات
حتى شذوا في تلك المعاني ، وخرجوا بها عن المقصود منها كتعبير عن كمال الله
سبحانه وجوانب عظمته وقدرته وسائر صفاته ، وما تضفيه تلك المعاني على المسلم
من مشاعر المحبة والتوكل والخضوع وتمام الاطمئنان لحكمة الله وقدرته -سبحانه-
وهو ما يستلزمه توحيد الألوهية والقيام بحق العبادة على وجهها الأكمل في كافة
جنبات الحياة الإنسانية .
كان لذلك الاستغراق في معانى توحيد الربوبية والشطط والغلو في مفاهيمها
ومراميها ، أن خلطت الصوفية في مسألة القدر الإلهي وحدود الإرادة الإنسانية التي
أتاحها الله للإنسان ليجعله بها مكلفاً ، ومعرضاً للثواب والعقاب ، ولم يميزوا بين
إرادة الله النافذة التي لا يقع شيء في الكون مخالفاً لها ، وبين إرادته التي بيّنها في
أمره ونهيه ، حسب ما يحبه ويرضاه ، أو يكرهه ويأباه ، فأخذوا بقول الجبرية في
أن الإنسان كالريشة في مهب الريح ، مسيّر بإرادة الله تعالى دون إرادة منه أو
استطاعة ، والمؤمن الحق - عندهم - هو من يشهد هذه الحقيقة ، ويرى قدر الله
النافذ فيه وفي الناس حين يفعلون الخير أو يأتون الشر ، بل تطرف بعضهم فذهب
إلى أن الكافر حين يكفر فهو يسير علي القدر الإلهي السابق ، وهو مطيع لله بكفره ! والكوارث والمجاعات والمصائب والمظالم التي تصيب الناس ، لا داعي
للتخلص منها أو إزالتها ، والاستسلام لها هو عين الاستسلام لقدر الله النافذ
والخضوع لمشيئته ، وهو قمة الإيمان والتوحيد ، ولا يخفي ما في هذا التصور من
ابتعاد عن الله ، وتهديد للوجود الإسلامي أصلاً .
ثانياً : الصوفية ومفهوم الكرامة :
كان لإلغاء دور العقل في الحياة الإنسانية- بما زعموه من أن تربية الروح
هي مقصودهم الأول والأوحد - أثر واسع في التعلق بالكثير من الخرافات
والخروج بالعديد من الظواهر الدنيوية أو الشرعية عن حدودها المعلومة
والصحيحة ، استنامة للأحلام التي يهيم فيها (العاشقون) المتدرجون في مراتب الشوق و الدهشة و الانبهار وما إلى ذلك من مسالك لا يدركها إلا السالك ! ومن تلك ال ظواهر ظاهرة الكرامة التي يختص الله - سبحانه - بها بعضاً من عباده الأتقياء الأولياء على الحقيقة ، فيجري على أيديهم ما يخرق العادة الجارية والعلل السائرة إكراماً لهم ، وتثبيتاً لإيمان بعض من يحتاج إيمانه إلى ذلك التثبيت ،
وإظهاراً لعموم القدرة الإلهية التي خلقت النواميس ، والتي تقدر على خرقها في أي وقت شاءت .
والصوفية -ولله الحمد من قبل ومن بعد - أولياؤهم عديدون ، ودرجة الولاية
تنال عندهم بلبس الخرق والمرقعات ، والسلاسل والرقص في الحضرات ، وحفظ
الأوراد المبتدعة والإتيان بالأفعال الشاذة .. والكرامة متاحة للعديد منهم بمناسبة
وبدون مناسبة ، بحق أو بباطل ، لوليّ أو دعيّ طالما هو سائر على دربهم ذاك .
هذا يخطو خطوة فينتقل من الشام إلى الكعبة فيزور البيت ويعود إلى مجلسه
من ساعته ، وذاك يخرج إلى الصحراء دون عدة أو عتاد فيلاقي الوحش فينفخ فيه
فيكون كالقط الأليف وذاك يخرج للحج فإذا به يرى الكعبة قادمة في الطريق فيسألها
إلى أين هي ذاهبة (أي الكعبة ؟ ) فتقول (الكعبة كذلك ! ) إلى فلانة العابدة لتطوف
بي ثم أعود ! ! وهناك إحدى الروايات التي يرددها أهل بعض القرى في صعيد
مصر عن عائلة من العائلات التي يتوارث أولادها الولاية عن آبائهم ، وكيف أن
أحد أطفال هذه العائلة أوقف قطاراً مندفعاً بيده ليركب فيه ! ! أي والله يحكيها الكبير
المتعلم قبل الغر الجاهل ! وليرجع القارىء - إن شاء- إلى رسالة للقشيري أو
إحياء علوم الدين للغزالي أو غير ذلك من الكتب المملوءة بمثل تلك الروايات .
إذن فما حاجتنا للسيارات والطائرات ؟ ! وما الداعي لاقتناء آلات الحرب أو
الدفاع ؟ ! وما الدافع إلى الخروج بحثاً عن الرزق والزاد وعمارة الدنيا ، والبحث
عن مكنونات الطبيعة وأسرارها المودعة فيها لصالح المسلمين وإعلاء كلمة الدين ..
الأمر أهون من ذلك ، فإنما هي صفقة باليد فإذا التخت ممدودة والموائد معمورة
والمسافات قد قصرت ، والأفكار قد اندفعت .. فحسبك أن تلبس الخرقة ، وترقص
بالحضرة ! ! ! قل لي بالله عليك - أيها القارىء العزيز - أي إهدار لقيمة اتخاذ
الأسباب أكبر من ذلك ؟ وأي محاولة للقضاء على الكيان الإسلامي أبعد أثراً من تلك
المحاولة .
ثالثاً : الصوفية والتوكل :
كان من نتيجة ما رأينا من الأفكار الصوفية عن مسائل القدر والكرامات
والاستغراق في توحيد الربوبية بجهل وابتداع دون النظر إلى ما يستلزمه من حق
العبادة ، أن اضطرب لدى الصوفية مفهوم التوكل على الله .. واستحال إلى التواكل
والاستنامة والبعد عن العمل واتخاذ السبب ، فصحة التوكل - عندهم - لا تكتمل
إلا بالنظر إلى مسبب الأسباب -سبحانه- ، وقطعوا النظر إلى الأسباب ذاتها
والانفضاض عنها .. وكلما ترقى المسلم الصوفي في مدارج الطريق كلما ازداد بعداً
عن الأخذ بالسبب مطلقاً ، بل إن النظر إلى الأسباب هو تلبيس من الشيطان على
أهل التفرقة ، فيجعلهم يعدّدون في المصدر والسبب ، ويرون أن للأفعال أسباباً
ظاهرة ناشئة عنها فالري لا يحدث إلا بالشرب مثلاً .. وهو وهم من أهل التفرقة ،
وتلبيس عليهم فالري يحدث بالشرب أو بدونه كما في الكرامة ، أو إذا صح التوكل - دون اكتساب لذلك - كما أن فعل الطاعات أو الإقامة عليها ليس نتيجة عمل
الشخص بل هي منسوبة لله تعالى ، سواء فعله أو الإثابة والعقاب عليه ، وإضافة
فعل الطاعة للعبد تلبيس على أهل التفرقة ! وغير ذلك كثير من الخلط والاضطراب
والابتداع الذي كان له ولاشك أكبر الأثر في صياغة تلك العقلية الإسلامية التي
يعاني منها الوجود الإسلامي في العصر الحاضر ، والتي كانت سبباً مباشراً- ولو
كره نفاة الأسباب ! - في تلك الأمراض ، والعلل التي يعاني منها المسلمون في هذا
العصر .
__________
(1) العلة الشرعية - كما عرفها علماء الأصول في مبحث القياس - هي التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً ، أى يوجد عند وجودها ، وينعدم عند عدمها ، ومثال ذلك : الإسكار علة لتحريم المشروب ، فإذا وجد الإسكار عند تناول المشروب (قليله أو كثيره) حرم المشروب ، وإن لم يوجد الإسكار لم يكن المشروب محرماً ، والعلة إما منصوص عليها ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لأجل الدافة " فبيّن علّة تحريم أكل لحوم الأضاحي في ذلك العام لسبب ورود الدافة حول المدينة ، أو مستنبط بطرق الاستنباط التي عدّدها الشوكاني أحد عشر مسلكاّ ، كما أن لها أوصافاً يجب أن تتحقق فيها لكي تكون علة مستنبطة للحكم ، وقد عددها الشوكاني كذلك أربعة وعشرين وصفاً إرشاد الفحول 207 - 222 ، أما العلة العقلية فالمقصود بها السبب الذي تنشأ عنه النتيجة في حكم العادة سواء في المجال النظري ، كما يقال : إن جمع المتفرقات علة في حدوث المركب ، أو المجال التجريبي كما في الظواهر الطبيعية عامة كما يقال النار علة الاحراق أو الأكل علة الشبع ، وكلاهما يطلق عليه علة عقلية .
(2) شفاء العليل لابن القيم /189 .
(3) إرشاد الفحول للشوكاني /207 .
(4) مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار /124 .
(5) تهافت الفلاسفة للغزالي /67 .
(6) الذين هم أهل السنة ! والحق أن بعضهم كصاحب منازل السائرين يزعم أن التلبيس من فعل الله -سبحانه وتعالى- ليضل به أهل التفرقة ، على أصلهم أن الإضلال من الله وليس للعبد به شأن .