تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: شرح كتاب القدر من صحيح البخاري (متجدد) .

  1. Post شرح كتاب القدر من صحيح البخاري (متجدد) .

    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران :102) .

    { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }(النساء:1).

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (الأحزاب : 71).

    أما بعد :فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد(صلى الله عليه وسلم) ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

    إنا لنحمد الله – تعالى – أن هيأ لنا أسباب تحصيل العلم ومن علينا بنعمة الأمن والإيمان، وإن من المقررات الشرعية أن الشكر قيد النعم قال – تعالى -:{ولئن شكرتم لأزيدنكم}، وإن نعمة الصحة والفراغ التي ينعم بها الكثير منا قد تزول إذا لم يؤد حق شكرها.

    وأعظم ما نشكر به الله – تعالى – على هذه النعم وغيرها أن نحرص على طلب العلم وذلك بمعرفة الواجب العيني و الكفائي.

    وأعظم الواجبات معرفة الإيمان بالله – تعالى – وذلك بالعلم بما يقتضي إفراده بما يجب له ويختص به من الربوبية والإلهية والأسماء والصفات.

    ومن حقوق الربوبية الإيمان بعلم الله الكامل وقدرته الشاملة وذلك بالإيمان "بالقدر خيره وشره وحلوه ومره وقليله وكثيره مقدور واقع من الله – عز وجل – على العباد في الوقت الذي أراد أن يقع لا يتقدم الوقت ولا يتأخر على ما سبق بذلك علم الله.

    وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وما تقدم لم يكن ليتأخر وما تأخر لم يكن ليتقدم
    "(الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة:ص/46).

    ما قضى الله كائن لا محاله والشقي الجهول من لام حاله

    فلهذا أحببنا أن يكون هذا الموضوع العقدي المهم موضوعا لدروسنا في هذه الدورة المباركة – بإذن الله - ، ووقع الاختيار على كتاب القدر من صحيح البخاري لأن الأصل في أبواب العقيدة بعامة والقدر بصورة خاصة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة.

    فنسأل الله – تعالى – التوفيق والسداد، والإخلاص والصدق في الأقوال والأعمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو حسبي ونعم الوكيل.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ

    ملاحظة :أصل هذا الشرح دروس في دورة علمية قبل أكثر من خمس سنوات رأيت من المناسب نشرها في هذا الصرح العلمي المبارك التماساً للأجر من الله - تعالى - ، ولم نتوسع فيه خشية فوات المقصود من الدرس ولأن المهم في الكتب الحديثية معرفة مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

  2. افتراضي

    الدرس الأول (أ)

    تمهيد


    بيان أهمية الموضوع وبعض المقدمات

    "اعلم أن القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن.قال – تعالى - : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أي: كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان.

    فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منه بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر".

    وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك، بحسب قوة المرض وضعفه.

    ومرض القلب نوعان:مرض شهوة، ومرض شبهة،وأردؤها مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يشعر به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.

    فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، و: ما لجرح بميت إيلام...

    وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب في النفس، وليس له أنفع منه، وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه، لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم. فالصابر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}."(شرح الطحاوية لابن أبي العز،ص/274-275).

    ولعظم الشبه في هذا الباب فإن كثيرا من الخلق قد ضلوا فيه ، فكم زلت به من أقدام وضلت به من أفهام والمعصوم من عصمه الله بفضله ومنه، عصمنا الله وإياكم من المضلات.

    وعلى رأس أولئك الضلال في هذا الباب إبليس أصل البلية، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في قصيدته التائية :

    سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية
    فهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية
    ومن يكن خصما للمهيمن يرجعن على أم رأس هاويا في الحفيرة
    ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طرا معشر القدرية


    ومن شدة استحكام فساد بعض الخلق بالشبه الكاسدة أخذوا يحتجون بالقدر على إسقاط الأمر والنهي والانسلاخ من الشريعة بالكلية فصاروا مكذبين للرسل كافرين برب العالمين، وقد وضح ابن القيم – رحمه الله – هذا المقام فقال : " وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من إبليس كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاق مغالبته حتى يقول قائل هؤلاء

    ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كل حال أيها الرائي
    ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء


    ويقول قائلهم :

    دعاني وسد الباب دوني فهل إلى ... دخولي سبيل بينوا لي قصتي


    ويقول الآخر :

    وضعوا اللحم للبزاة ... على ذروتي عدن
    ثم لاموا البزاة إذ ... خلعوا عنهم الرسن
    لو أرادوا صيانتي ... ستروا وجهك الحسن


    وقال بعضهم وقد ذكر له ما يخاف من إفساده فقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره.

    وصعد رجل يوما على سطح دار له فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من كل شيء أنت حر لوجه الله .

    ورأى آخر يفجر بامرأته فبادر ليأخذه فهرب فأقبل يضرب المرأة وهي تقول: القضاء والقدر فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا فقالت: أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت.

    ورأى آخر رجلا آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا فقالت: هذا قضاء الله وقدره فقال: الخيرة فيما قضى الله فلقب: (بالخيرة فيما قضى الله) وكان إذا دعي به غضب .

    وقيل لبعض هؤلاء أليس هو يقول: {ولا يرضى لعباده الكفر} فقال: دعنا من هذا رضيه وأحبه وأراده ومن أفسدنا غيره.

    ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة وإنما مثلنا في ذلك كما قيل:

    إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

    وبلغ بعض هؤلاء أن عليا أمر بقتلى النهروان فقال: بؤسا لكم لقد ضركم من غركم فقيل من غرهم فقال: الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والأماني فقال هذا القائل: كان علي قدريا وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد .

    واجتمع جماعة من هؤلاء يوما فتذاكروا القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله {وزين لهم الشيطان أعمالهم} فقال: كان الهدهد قدريا أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان وجميع ذلك فعل الله.

    وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} أيمنعه ثم يسأله ما منعه، قال: نعم قضى عليه في السر ما منعه في العلانية ولعنه عليه قال له: فما معنى قوله {وماذا عليهم لو آمنوا بالله} إذا كان هو الذي منعهم قال استهزاء بهم قال فما معنى قوله {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} قال قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه وليس للآية معنى.

    وقال بعض هؤلاء وقد عوتب على ارتكابه معاصي الله فقال: إن كنت عاصيا لأمره فأنا مطيع لإرادته .

    وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه فقال: إلى متى هذا اللوم ولو خلي لسجد ولكن منع وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين: تبا لك سائر اليوم أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن.

    وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه فلما رجع قال: كنت أصلح بين قوم فقيل له: أصلحت بينهم قال: أصلحت إن لم يفسد الله فقيل له: بؤسا لك أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك .

    ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين مظلوم أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها .

    وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده مالا يطيقون ثم يعذبهم عليه، قال: والله قد فعل ذلك ولكن لا نجسر أن نتكلم .

    وأراد رجل من هؤلاء السفر فودع أهله وبكى فقيل: استودعهم الله واستحفظهم إياه فقال: ما أخاف عليهم غيره.

    وقال بعض هؤلاء: ذنبة أذنبها أحب إلي من عبادة الملائكة قيل: لم؟ قال لعلمي بأن الله قضاها علي وقدرها ولم يقضها إلا والخيرة لي فيها .

    وقال بعض هؤلاء العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر.

    ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدا فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور فجعل يقول كيف أنتم في قدر الله.

    وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء، فقال لي: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراد فأي شيء أبغض منه، قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم فأحببتهم أنت وواليتهم أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له؟ قال: فكأنما ألقم حجرا.

    وقرأ قارئ بحضرة بعض هؤلاء قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فقال: هو والله منعه ولو قال إبليس: ذلك لكان صادقا وقد أخطأ إبليس الحجة ولو كنت حاضرا لقلت له أنت منعته .

    وسمع بعض هؤلاء قارئا يقرأ {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} فقال: ليس من هذا شيء بل أضلهم وأعماهم قالوا فما معنى الآية قال مخرقة يمخرق بها .

    فيقال الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقا الذين ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه ولا نزهوه عما لا يليق به وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم وهؤلاء خصماء الله حقا"(طريق الهجرتين،ص/114-117).

    فمن رأى مثل هذه الكفريات علم يقينا أنه واجب الإيمان بقدر الله – تعالى - وذلك بمعرفة النصوص الشرعية المحذرة من التكذيب بالقدر ومنها:

     ما رواه أبو محجن أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "أخاف على أمتي من بعدي ثلاثا: حيف الأئمة وإيمانا بالنجوم وتكذيبا بالقدر"
    (صحيح الجامع، رقم/214)

     وعن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : "أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيبا بالقدر وتصديقا بالنجوم"
    (صحيح الجامع، رقم/215).

     وجاء عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "أخر الكلام في القدر لشرار أمتي في آخر الزمان"
    (صحيح الجامع، رقم/226).

     وعن ابن عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :" إن أمر هذه الأمة لا يزال مقاربا حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر"
    (صحيح الجامع، رقم/2003).

     وعن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم"
    (صحيح الجامع، رقم/5163)، ومن حديث جابر في: (صحيح سنن ابن ماجه، رقم/92).

     وعن علي قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: بالله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وبالبعث بعد الموت، والقدر"
    (صحيح سنن ابن ماجه، رقم/81). ونحوه في: (صحيح سنن الترمذي، رقم/ 2145).

     وعن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: " يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين بالقدر "
    (صحيح سنن الترمذي، رقم/2153).

    ( يتبع إن شاء الله )




  3. افتراضي


    الدرس الأول ( ب )


    مقدمات


    المقدمة الأولى/ الأصل في هذا الباب النصوص الشرعية وما علية السلف الصالح.

    نقل الحافظ في "الفتح،(15/6)" عن أبي المظفر ابن السمعاني قوله :"سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله – تعالى – أختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها انتهى "

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : "أصل هذه المسألة: أن يعلم الإنسان أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان"(مجموعة الفتاوى: 8/449).

    المقدمة الثانية/الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة.

    لحديث جبريل الثابت في الصحيحين :"قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت"

    قال العلامة ابن عثيمين – رحمه الله - :"أن الإيمان بالقدر خيره وشره أحد أركان الإيمان التي لا تصح العقيدة إلا بها "(التعليق على صحيح مسلم، 1/97).

    المقدمة الثالثة/ قال ابن عثيمين – رحمه الله - :"أنه من تمام الإيمان بالربوبية ، لأن قدر الله من أفعاله" (شرح العقيدة الواسطية، 2/174).

    المقدمة الرابعة/ أول من أنكر القدر.

    جاء في صحيح مسلم أن أول من أظهر القول بنفي القدر وإنكار علم الله بأعمال العباد هو معبد الجهني.

    ومعبد أخذ هذا القول عن رجل يقال له سنسوية ، قال الأوزاعي :" أول من نطق في القدر رجل من العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد" (شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 3/750).

    المقدمة الخامسة/
    أول من أظهر الجبر.

    أول من أظهر هذه البدعة الشنيعة هو الجهم بن صفوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :"وكان ظهور جهم ومقالته في تعطيل الصفات وفي الجبر والإرجاء في أواخر دولة بني أمية بعد حدوث القدرية والمعتزلة وغيرهم فإن القدرية حدثوا قبل ذلك في أواخر عصر الصحابة فلما حدثت مقالته المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف والأئمة كما أنكروا قول القدرية والمعتزلة وغيرهم وبدعوا الطائفتين"(مجموعة الفتاوى، 8/273).


    ***

  4. افتراضي



    الدرس الثاني

    قال البخاري – رحمه الله – تعالى - :

    { بسم الله الرحمن الرحيم . كتاب القدر }

    الشرح :

    فيه عدة مطالب :

    المطلب الأول/ حكم البدء بالبسملة.

    البداءة بالبسملة سنة ماضية وذلك :

    1. أن القرآن مبدوء بها.

    2. وكذلك جرت عادة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على البداءة بها في مراسلاته وكتبه.

    3. استقرار عمل الأئمة المصنفين على ذلك .

    قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :" وقد استقر عمل الأئمة المصنفين افتتاح كتب العلم بالبسملة،
    وكذا معظم كتب الرسائل.


    واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرا.

    • فجاء عن الشعبي منع ذلك وعن الزهري قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم.

    • وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور.وقال الخطيب: هو المختار."
    (فتح الباري:1/9).

    وقال السفاريني – رحمه الله - :"قال بعض العلماء: الراجح عند الجمهور طلب البسملة في ابتداء الشعر ما لم يكن حراما أو مكروها، قال: وأما ما يتعلق بالعلوم فمحل اتفاق"
    (لوامع الأنوار البهية ...،1/34).

    المطلب الثاني/ تعريف كلمة [ كتاب ].

    أ*- لغة : الجمع والضم.

    يقال: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا ، ويقال كتيبة الخيل لجماعة الخيل ، وسمي الكتاب كتابا: لجمعه الحروف والكلمات، فهو كتاب بمعنى مكتوب، أي: مجموع ؛ لأن (فعال) تأتي بمعنى :(مفعول).
    مثل: فراش بمعنى مفروش، وإله بمعنى مألوه أي: معبود.


    ب*- اصطلاحا: اسم لجملة مختصة من العلم تشتمل على أبواب وفصول ومسائل غالبا.

    المطلب الثالث/ وفيه مسائل:

    المسألة الأولى: تعريف كلمة [ القدر ].

    أ*- لغة: مبلغ الشيء وكنهه ونهايته.

    ومنه: القضاء والحكم، فالقدر: ما يقدره الله – عز وجل – من القضاء ويحكم به، وهو قضاؤه الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها.

    لطيفة
    وهي أن القدر هو القضاء الموفق، فإذا وافق الشيء شيئا قيل جاء على قدره. ومن الباب (الأقدر) من الخيل، وهو: الذي تقع رجلاه مواقع يديه.

    ب*- معناه عند أهل السنة والجماعة (السلف الصالح).

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (مجموعة الفتاوى:4/266-267): " أصل هذه المسألة: أن يعلم الإنسان أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وفي غيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو:

    أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد، وغير أفعال العباد.

    وأنه – سبحانه – ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه.

    وأنه – سبحانه – يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها.

    وقدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة."

    المسألة الثانية: تتمة ببيان معنى كلمة: [ قضاء ].

    أ*- لغة : الحكم ، قضى عليه يقضي قضيا، وقضاء ، وقضية.
    وقضاء الشيء : إحكامه ، وإمضاؤه ، والفراغ منه ، فيكون بمعنى الخلق
    .

    ب*- أقوال العلماء في الفرق بين القدر والقضاء :

    منهم من قال: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق.

    ومنهم من قال – عكسه - : القدر هو الحكم السابق ، أي : التقدير، والقضاء : هو الخلق. وهذا القول هو الراجح، لقوله – تعالى - :{فقضاهن سبع سموات}.

    قال ابن عثيمين – رحمه الله - :"إن القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن تفرقا، على حد قول العلماء : هما كلمتان إن اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا.

    فإذا قيل: هذا قدر الله فهو شامل للقضاء، أما إذا ذكرا جميعا فلكل واحد منهما معنى:

    - فالتقدير: هو ما قدره الله – تعالى – في الأزل أن يكون في خلقه.

    - وأما القضاء: فهو ما قضى به الله – سبحانه وتعالى – في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير. وعلى هذا يكون التقدير سابقا
    "(شرح العقيدة الواسطية: 2/172).

    المسألة الثالثة: تأصيل حقيقة الإيمان بالقدر.

    وتتضمن أمرين:

    الأمر الأول/ أصل الإيمان بالقدر.

    الأمر الثاني/فقه الإيمان بالقدر.

    بيان الأمر الأول: التعريف بحقيقة الإيمان بالقدر.

    قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :" قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم" (الفتح:15/6).

    فللإيمان بالقدر أصلان:

    الأصل الأول/ علم الله الشامل المتضمن لكتابة المقادير.

    الأصل الثاني/قدرة الله الشاملة المتضمنة لخلقه ومشيئته.

    وقد ذكر هذين الأصلين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في العقيدة الواسطية، فمدار القدر على العلم والقدرة.

    لذلك جاء في تعريفه عند الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :"المراد أن الله – تعالى – علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته" (الفتح، 1/118).

    وللعلم والقدرة ارجع الشافعي – رحمه الله – حقيقة الإيمان بالقدر حيث قال:

    فما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت وإن لم تشأ لم يكن
    خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن
    على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وهذا لم تعن
    فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن


    ونحن نجد أن حقيقة قول المنكرين للقدر لا تخرج عن إنكار أحد هذين الأصلين، فقد جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :" الذين كذبوا بقضاء الله وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدتهم أنكروا عموم مشيئة الله وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم" (التدمرية،ص207).

    وبهذا نفهم دقة فهم الأئمة الكبار لمسائل القدر حيث ارجعوا الإيمان به إلى علم الله – تعالى – وقدرته، فإن مآل النافين للقدر:

    إما إلى إنكار العلم كما كان عليه غلاتهم .

    وإما إلى إنكار القدرة كما عليه متأخروهم .


    ***

  5. افتراضي



    الدرس الثالث

    تفصيل القول في ذلك:

    بالنسبة للعلم :


    إن أول من أظهروا بدعة القدر أنكروا علم الله – تعالى - المتضمن لإنكار القدرة من جهة أن ما لا يعلمه لا تتعلق به مشيئته ، وما لا تتعلق به مشيئته لا قدرة له عليه.

    فقد جاء في صحيح مسلم :"عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفرون العلم – وذكر من شأنهم – وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف.

    قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر" الحديث.

    الشاهد منه:
    قوله :" أنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ".

    قال النووي – رحمه الله - :"هو بضم الهمزة والنون، أي: مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله – تعالى – وإنما يعلمه بعد وقوعه"(شرح صحيح مسلم ص/81).

    وقد كان على هذا المذهب الفاسد رؤوس المعتزلة كواصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد.

    وهؤلاء الضلال لما شنع عليهم أهل السنة، وكفرهم الصحابة فمن بعدهم غيروا المذهب تلبيسا فاثبتوا العلم وأنكروا القدرة المتضمنة للخلق والمشيئة.

    فـ" ـقد نص الأئمة – كمالك والشافعي وأحمد - : أن من جحد هذا فقد كفر، بل يجب الإيمان أن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون، ويجب الإيمان بما أخبر به من أنه كتب ذلك وأخبر به قبل أن يكون"
    (مجموعة الفتاوى، 8/41-42).

    قال السعدي – رحمه الله - :" وكانت طائفة القدر – في أول أمرهم ينكرون العلم وينكرون القدر، فيقولون: إن الله لا يعلم أعمال العباد قبل أن يعملوها ولا تعلقت بها مشيئة الله فلما شنع عليهم المسلمون وكفروهم بذلك تحولوا من قولهم الأول فأثبتوا العلم وأنكروا القدر، ولهذا كان الأئمة – كأحمد وغيره – يقولون :"ناظروا القدرية بالعلم فإن أنكروا العلم كفروا وإن اعترفوا به خصموا" (الدرة البهية شرح القصيدة التائية ص/20-21).

    وكذلك "قال الإمام الشافعي – رحمه الله – ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروا كفروا" (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص/271).

    ومن ذلك مناظرة عمر بن عبد العزيز لغيلان الدمشقي، فقد قال أبو جعفر الخطمي:"شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر، فقال له : ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟

    قال : يكذب علي يا أمير المؤمنين، ويقال علي ما لا أقول.

    قال : ما تقول في العلم؟ قال : نفذ العلم.

    قال : أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت. يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت ، وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحد فتكفر.

    ثم قال له: أتقرأ (يس) ؟ فقال : نعم، قال : أقرأ.

    قال : فقرأ : {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله :{لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون}. قال : قف، كيف ترى؟

    قال : كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين.

    قال : زد. فقرأ :{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا}.

    فقال له عمر : قل :{سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}. قال : كيف ترى؟

    قال : كأني لم أقرأ هذه الآيات قط وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا.

    قال : اذهب فلما ولى قال : اللهم إن كان كاذبا بما قال فأذقه حر السلاح.

    قال : فلم يتكلم زمن عمر فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلا لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه. قال : فتكلم غيلان.

    فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له : أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبدا.

    قال : أقلني فوالله لا أعود.

    قال : لا أقالني الله إن أقلتك. هل تقرأ: فاتحة الكتاب؟

    قال : نعم . قال : أقرأ :{الحمد لله رب العالمين}.

    فقرأ :{الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين}. قال : قف على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك أو بيدك. اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه"
    (شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص/713-715).

    وبالنسبة للقدرة :

    فإنهم لما آل إنكارهم للقدر إلى إنكار قدرة الله الشاملة لخلقه ومشيئته جعل السلف الكرام الإيمان بالقدر هو الإيمان بقدرة الله – تعالى - .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :"والقدر هو قدرة الله كما قال الإمام أحمد" (مجموعة الفتاوى، 8/186).

    وقال ابن القيم – رحمه الله - :"واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا، وقال : هذا يدل على دقة أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكاره إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها" (شفاء العليل ص/49)

    ونظم معناه في نونيته فقال:

    فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرحمن
    واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد لما حكاه عن الرضى الربان
    له قال الإمام شفى القلوب بلفظة ذات اختصار وهي ذات بيان


    ويبين هذا المعنى بوضوح شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في قوله :"من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرا كالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة المجبرة والنافية : حقيقة قولهم أنه ليس قادرا وليس له الملك" (مجموعة الفتاوى:8/308).

    ومن ذلك المناظرة التي ذكرها السبكي بين الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والقاضي عبد الجبار المعتزلي :

    "قال القاضي عبد الجبار – في ابتداء جلوسه للمناظرة -: سبحان من تنزه عن الفحشاء.

    فقال الأستاذ مجيبا : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

    فقال عبد الجبار : أفيشاء ربنا أن يعصى؟

    فقال الأستاذ : أيعصى ربنا قهرا؟

    فقال عبد الجبار : أفرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى أحسن إلي أم أساء؟

    فقال الأستاذ
    : إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء".
    (طبقات الشافعية: 4/261-262، نقلا عن محقق الدرة البهية).


    ***


  6. افتراضي




    الدرس الرابع


    وقابل هؤلاء طائفة غلوا في إثبات القدر وهم : ( الجبرية ) .

    وهم مذهبان :

    المذهب الأول / الجهمية وغلاة الصوفية .

    قالوا : " إن العبد لا قدرة له على عمله ، ولا إرادة ، ولا اختيار له فيه ، وأن العباد مجبورون على أفعالهم . وحركاتهم فيها كحركة الأشجار عند مهب الريح ، وكحركة المرتعش ، وكنبض العروق ، وأنهم مجبورون على الطاعة والمعصية وإنما تنسب أفعالهم إليهم على سبيل المجاز وهو على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله بمنزلة قول القائل : مات وكبر ، وسال الوادي ، وطلعت الشمس . (ينظر : الفرق بين الفرق للبغدادي ص/211 ، وشفاء العليل :1/149 ) .

    وأفضى هذا المذهب الفاسد إلى أقوال شنيعة ؛ منها :

    1) أن تكاليف الرب لعباده كلها تكليف ما لا يطاق .

    2) وأنه عاقبهم على ما لم يفعلوه ، وأثابهم على ما لم يتقربوا به .

    3) وأنه ليس في الكون معصية ؛ لأن الفاعل مطيع للإرادة الكونية .

    ومقالة هذا الفريق تؤدي إلى الكفر بالله ، والتكذيب بما جاء في كتبه وأخبرت به رسله ، كما قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَمْ يُثْبِتْ الْقَدَرَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ بَلْ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْكُفَّارِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْكُتُبِ وَكَانَ عِنْدَهُ آدَمَ وَإِبْلِيسُ سَوَاءً وَنُوحٌ وَقَوْمُهُ سَوَاءً وَمُوسَى وَفِرْعَوْنُ سَوَاءً وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَكُفَّارُ مَكَّةَ سَوَاءً " (مجموع الفتاوى : 8/100) .

    المذهب الثاني /الماتريدية والأشاعرة ، القائلين بنظرية الكسب ، ومؤداها : إثبات قدرة غير مؤثرة .

    وقد قرر مذهبهم الإيجي في المواقف ، فقال : - المقصد الأوّل في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد".

    ثم عرف الكسب المذكور بقوله: "والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون منه تأثير".

    وقد أراد الأشاعرة ومن وافقهم بإثبات الكسب محاولة التوسط بين مذهب الجبرية، ومذهب القدرية بجعلهم للعبد قدرة حادثة غير مؤثرة في فعله بخلاف ما ذهب إليه الجبرية من نفي قدرة العبد أصلاً، وما ذهب إليه القدرية من إثبات قدرة بها يخلق الإنسان فعله، إلا أن هذه محاولة يائسة؛ لأن مذهب الكسب يعود إلى مذهب الجبرية إذ النتيجة واحدة، لأن إثبات قدرة لا أثر لها إنما هو نفي للقدرة أصلاً، ولهذا قيل عن كسب الأشعري هذا إنه من الأمور التي لا تعقل،

    وحقيقة هذا المذهب يعود إلى قول الجهمية الجبرية ، كما وضحه شيخ الإسلام – رحمه الله – بقوله : " قدرة العبد عندهم لا تتعلق إلا بفعل في محلها مع أنها عند شيخهم – أي: الأشعري - غير مؤثرة في المقدور ، ولا يقول إن العبد فاعل في الحقيقة بل كاسب ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقا معقولاً . بل حقيقة قولهم قول جهم أن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب والله عندهم فاعل فعل العبد " (النبوات ، ص/104) .

    ولهذا عدهم بعض العلماء من أصناف الجبرية ، كما ذهب إلى ذلك الجرجاني في قوله : " الجبرية اثنان : متوسطة تثبت للعبد كسباً ، كالأشعرية ، وخالصة لا تثبته كالجهمية " ( التعريفات ، ص/ 106) .

    تنبيه :لفظ الجبر من الألفاظ المحدثة وليس من ألفاظ الكتاب والسنة .

    قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " تَرْجَمَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ فَقَالَ: الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي، ثُمَّ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي َّ عَنْ الْجَبْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبَرَ أَوْ يُعْضَلَ، وَلَكِنْ يَقْضِي وَيُقَدِّرُ، وَيَخْلُقُ وَيَجْبُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ وَالْخَلْقُ وَالْجَبْلُ، فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وَضَعْت هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَابَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ.
    فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ.
    " (مجموع الفتاوى : 1/149 – 150) .

    بيان الأمر الثاني:
    فقه الإيمان بالقدر.

    قال – تعالى - :{ألا له الخلق والأمر}.

    قال السعدي – رحمه الله - :"أي: له وصفا وفعلا الخلق الشامل لكل مخلوق والأمر الشامل لجميع الأحكام الشرعية" (الدرة البهية ص/32).

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :

    ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة مـن المنكري آياته المستقيمة
    بل الحق أن الحكم لله وحده له الخلق والأمر الذي في الشريعة


    فحقيقة الإيمان بالقدر توجب الشكر وتحقق العبودية امتثالا للمأمور واجتنابا للمحذور إذ كلاهما مختص بالله نافذ أمره بهما في عباده كونا وشرعا، فليس للعبد أن يحتج بالقدر على الله لإبطال الشرع.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :"بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صبارا شكورا، صبورا على البلاء شكورا على الرخاء إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره سواء كانت النعمة حسنة فعلها أو كانت خيرا حصل بسبب سعيها فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات وهو الذي تفضل بالثواب عليها فله الحمد في ذلك كله.

    وإذا أصابته مصيبة صبر عليها وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص وهو الذي خلق أفعاله وكانت مكتوبة على العبد
    "(مجموعة الفتاوى: 8/144).

    ولذا قال الطحاوي – رحمه الله - في عقيدته - :"خلق الخلق بعلمه وقدر لهم أقدارا وضرب لهم آجالا ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته".

    قال ابن أبي العز – رحمه الله – في الشرح - :"ذكر الشيخ الأمر والنهي بعد ذكره الخلق والقدر إشارة إلى أن الله – تعالى – خلق الخلق لعبادته كما قال – تعالى - :{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال – تعالى - :{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}."(شرح العقيدة الطحاوية ص/145).

    وكذلك فعل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في العقيدة الواسطية، حيث قال – بعد ذكره مراتب القدر - : "ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته" (الواسطية بشرح ابن عثيمين: 2/195).

    فمن أدرك حقيقة الإيمان بالقدر فقه أنه سبب لتحقيق العبودية.

    والرد على هذه الطوائف المنحرفة سيأتي تفصيله في ثنايا الشرح والله الموفق لا رب سواه .



    ***

  7. افتراضي



    الدرس الخامس

    قال البخاري – رحمه الله - :

    { - بَاب فِي الْقَدَرِ
    6594- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا" قَالَ آدَمُ: إِلاَّ ذِرَاعٌ"

    6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"}.

    الشرح :

    هذان الحديثان متفق على صحتهما وفيهما مسائل :

    المسألة الأولى/ المعنى العام للحديثين.

    "اعلم أن هذا الحديث جامع لجميع أحوال الشخص إذ فيه من الأحكام بيان حال المبدأ وهو ذاته ذكرا وأنثى وحال المعاد وهو السعادة والشقاوة وما بينهما وهو الأجل وما يتصرف فيه وهو الرزق" (عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني الحنفي:5/460 شاملة).

    "وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَبَقَ الْكِتَابُ بِمَا يَعْمَلُ وَبِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ عَمَلًا صَالِحًا ، ثُمَّ فِي آخِرِهِ عَمَلًا سَيِّئًا ، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَيْهِ وَيَنْقَلِبُ إِلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ عَمَلًا سَيِّئًا وَفِي آخِرِهِ عَمَلًا صَالِحًا ، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ ".(المنتقى شرح الموطأ: 4/278 شاملة).

    المسألة الثانية/ معاني بعض المفردات، وما يتعلق بها.

    1) [الصادق المصدوق]: "فمعناه الصادق في قوله المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم"(النووي، مسلم). والصادق كذلك"يطلق على الفعل، يقال: صدق القتال وهو صادق فيه" (الفتح:15/7).

    2) [إن أحدكم]: "فبكسر الهمزة على حكاية لفظه صلى الله عليه و سلم"(النووي، مسلم:16/190).

    3) [يجمع في بطن أمه]: "المراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار"(الفتح/15/9). وقع في رواية زيادة: (نطفة) ، "فبين أن الذي يجمع هو النطفة"(الفتح:15/9).
    "قال القرطبي في (المفهم): المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم" (الفتح:15/9).

    4) [نطفة]: "المراد بالنطفة المني، وأصله الماء الصافي القليل"(الفتح:15/9).
    "والصواب أن النطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، خلافا لمن زعم: أنها من ماء الرجل وحده"(أضواء البيان:5/21).
    وقوله: (أي رب نطفة ...) "أي: يقول كل كلمة من ذلك في الوقت الذي تصير فيه كذلك"،"وفائدة ذلك أنه يستفهم هل يتكون منها أو لا؟ " (الفتح:15/24-25).

    5) [أربعين يوما] بغير شك، وفي بعض روايات الحديث (أو أربعين ليلة) بالشك، وفي رواية: (أربعين ليلة) بغير شك، "ويجمع بأن المراد يوم بليلته، أو ليلة بيومها" (الفتح:15/9).

    6) [علقة]: "بفتح اللام، قال الأزهري - في التهذيب - :العلقة الدم الجامد الغليظ ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة لأنها حمراء كالدم"(عمدة القاري:5/453).

    7) [مضغة]: "والمضغة قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ"(الفتح:15/12).

    8) [يبعث الله ملكا]: وفي لفظ لمسلم: (ثم يرسل الله)، فمعناه: "ثم يرسل إليه الملك قال القاضي المراد بإرساله في هذه الأشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الأفعال وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم وأنه يقول يا رب نطفة يا رب علقة...". (الديباج على مسلم)، (عمدة القاري:6/6).

    ونصر هذا القول الحافظ فقال: "فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك"(الفتح15/13).

    9) [فيؤمر بأربع] وفي رواية: (بأربعة) "والمعدود إذا أبهم جاز تذكيره وتأنيثه"، وفي رواية: (فيؤمر بأربع كلمات) "والمراد بالكلمات القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة" (الفتح:15/13).

    10) [برزقه وأجله وشقي أو سعيد]: كذا وقع في هذه الرواية ونقص منها ذكر العمل وبه تتم الأربع، وقد ثبت قوله: (وعمله) في رواية أخرى. (الفتح:15/13).

    11) [رزقه]: الرزق: ما ينتفع به العبد. قال السفاريني:
    والرزق ما ينفع من حلال أو ضده فحل عن المحال
    لأنه رازق كل الخــلق وليس مخـلوق بغير رزق


    12) [أجله]: "الأجل: هو الزمان الذي علم الله أن الشخص يموت فيه، أو: مدة حياته؛ لأنه يطلق على غاية المدة، وعلى المدة" (عمدة القاري:5/495).

    13) [شقي أو سعيد]: "ومعنى (شقي): عاص لله – تعالى - ،و (سعيد): أي: مطيع له" ،"شقي أو سعيد مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي: وهو شقي أو سعيد (النووي، مسلم).

    "وكان ظاهر السياق أن يقول: ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي"(الفتح:15/14).

    لطيفة: قال ابن القيم – رحمه الله - :"قال أبو الحسن علي بن عبيد الحافظ: سمعت أبا عبد الله بن أبي خيثمة يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: انحدرت من سر من رأى إلى بغداد في حاجة لي فبينما أنا أمشي في بعض الطريق فإذا بجمجمة قد نخرت فأخذتها فإذا على الجبهة مكتوب (شقي) والياء مكسورة إلى خلف" وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ، ذكره الطبري في السنة" (طريق الهجرتين ص/100).

    14) [بعمل]: الباء زائدة "للتأكيد، أو ضمن (يعمل) معنى يتلبس في عمله بعمل أهل النار" (الفتح:15/19).

    15) [غير باع أو ذراع]: "التعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت فيحال بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة" (الفتح:15/19).

    16) [فيسبق عليه الكتاب]: "الفاء في قوله: (فيسبق) إشارة إلى تعقيب ذلك بلا مهلة، وضمن يسبق معنى يغلب، قاله الطيبي" (الفتح:15/20).

    المسألة الثالثة/ لطيفة.

    قال ابن القيم – رحمه الله - :"ذكر الطبري عن الحسن بن علي أنبأنا محمد بن يزيد الأسفاطي محدث البصرة قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النوم فقلت: يا رسول الله، حديث عبد الله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق – أعني حديث القدر – فقال: أي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به، ورحم الله الأعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأعمش، ورحم الله من حدث به بعد الأعمش" (طريق الهجرتين ص/99-100).


    المسألة الرابعة/ ما يستفاد من الحديث.

    الفائدة الأولى: قال ابن رجب – رحمه الله - :" في هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب للسعادة والشقاوة" (جامع العلوم والحكم ص/144 .)

    وقال ابن عثيمين – رحمه الله - :"أن أحوال الإنسان تكتب عليه وهو في بطن أمه .. رزقه .. عمله .. أجله .. شقي أم سعيد , ومنها بيان حكمة الله عز وجل وأن كل شيء عنده بأجل مقدر وبكتاب لا يتقدم ولا يتأخر "(شرح الأربعين ، ص/15).

    الفائدة الثانية:
    في بيان وجه الجمع بين روايات الباب، قال ابن القيم – رحمه الله -: "الجمع بين الروايات: أن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها. فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله، وهو أعلم بها وبكلام الملك، فتصرفه في أوقات:

    _ أحدها: حين يخلقها الله نطفة، ثم ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا، وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني. ولهذا – والله أعلم – وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله :{اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق} إذ خلقه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية، وحينئذ يكتب: رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.

    _ ثم للملك فيه تصرف آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيته وهذا إنما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها، فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره.
    " (طريق الهجرتين ص/103-104).

    الفائدة الثالثة: قال الحافظ: "استدل الداودي بقوله: (فتدخل النار) على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يحبطه الكفر، وتعقب بأنه ليس في الحديث تعرض للإحباط وحمله على المعنى الأعم أولى فيتناول المؤمن حتى يختم له بعمل الكافر مثلا فيرتد فيموت على ذلك فنستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يختم له بعمل العاصي فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يخلد فيها أبدا بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين" (الفتح:15/23).

    الفائدة الرابعة: فيه :"أن للأرحام ملكا موكلا بها لقوله : " فيبعث إليه الملك " أي الملك الموكل بالأرحام " (شرح الأربعين للعثيمين).

    الفائدة الخامسة: "وفيه أن جميع الخير والشر بتقدير الله – تعالى – وإيجاده وخالف في ذلك القدرية والجبرية" (الفتح:15/23-24).

    الفائدة السادسة: "وفيه أن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة" (الفتح:15/23).

    الفائدة السابعة: "وفيه أنه – سبحانه – مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومقدرها لا أنه يحبها ويرضاها"(الفتح:15/23).

    الفائدة الثامنة: "وفي الحديث أن الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة" (الفتح:15/24).

    الفائدة التاسعة: "أن الجنين قبل أربعة أشهر لا يحكم بأنه إنسان حي , وبناء على ذلك لو سقط قبل تمام أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه , لأنه لم يكن إنسانا بعد ... أنه بعد أربعة أشهر تنفخ فيه الروح ويثبت له حكم الإنسان الحي , فلو سقط بعد ذلك فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه كلما لو كان ذلك بعد تمام تسعة أشهر " (شرح الأربعين للعثيمين ، ص / 16).

    الفائدة العاشرة: "أنه لا ينبغي لإنسان أن يقطع الرجاء فإن الإنسان قد يعمل بالمعاصي دهرا طويلا ثم يمن الله عليه بالهداية فيهتدي في آخر عمره " (شرح الأربعين للعثيمين ، ص / 16).



الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •