15-02-2015 | يحيي بركات
ولهذا لا تكتمل هذه الثلاثة جوانب من قوة علم في باطل وحسن بيان وهوى الزعامة والسيطرة في إنسان إلا وصار داعيا لفتنة مسعرا لها يجب الانتباه له والاعتناء بخطره وبضرره فلا ندفن رؤوسنا في الرمال ثم ننتظر حتى تعظم فتنته وتقوى شوكته وحينها لا تصلح الحلول التي كان يمكن أن تصلح في البدايات وستكون المعالجة اشد ألما وأكثر خسارة.

(*) كانت الفتنة الفكرية للخوارج الفتنة الأولى للمسلمين الذين لم يعهدوا قبلا التأويلات الباطنية ولا الشبهات العقلية، فكان يكفي أحدهم في أي مسألة أن يسمع كلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوقف عن قوله وينتهي إلى قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
فيقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأذاننا .."، وخاصم ابن عمر ولده بلالا فلم يكلمه حتى مات لأنه حاول أن يقول رأيه بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" قال بلال بعد أن رأى الفتنة وتغير الأحوال "والله لنمنعهن" فأقبل إليه عبد الله فسبه سبا شديدا ما سبه مثله قط وقال له: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا إماء الله) وتقول: والله لنمنعهن! فهجره.
وجاءت فتنة الخوارج كحالة لم يألفها المسلمون ولم يعرفوها فأنكروها إنكار شديدا.
وهنا نتدرج مع مسعرها نافع بن الأزرق لنشهد بداية تكوينه الفكري والنفسي والقيادي، الذي استغله في باطله فحق له أن يكون رأسا للفتنة مسعرا لها، ليقدم من تبعه يوم القيامة فيسيروا خلفه في الآخرة كما ساروا خلفه في الدنيا.
الجانب الأول: الجانب العلمي:
المؤهل الأول لجمع الناس على الحق أو على الباطل هو العلم سواء كان حقيقة أو ادعاء، فعادة الناس أن تسير خلف من يظنونهم في قرارة أنفسهم علماء، فمعظم الناس وخاصة البسطاء يسلمون قيادهم لمن يثقون في علمهم.
فعلى الرغم من أن ترجمان القران عبد الله بن عباس كان أعلم من حوله في آيات الكتاب فيقول الحسن البصري عنه: "ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها" إلا أن نافع بن الأزرق قد اتخذ منهجا تأويليا غير مسبوق في آيات القران الكريم، فالتقى بابن عباس في أكثر من مناسبة وعرض عليه أسئلته وتأويلاته الباطلة وحاجه ابن عباس واثبت خطأ منهجه مرارا.
ففي إحدى مساجلاته لابن عباس ما سأله فيه عن معنى الورود "فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوُرُودُ الدُّخُولُ فَقَالَ نَافِعٌ لَا، فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] أَوَرَدُوهَا أَمْ لَا وَقَالَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هُودٍ: 98] أَوَرَدُوهَا أَمْ لَا أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا، وَمَا أَرَى اللَّهَ تَعَالَى مُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ، فَضَحِكَ نَافِعٌ " (1) أي استهزاء (2).
وفي مسالة أخرى يقول ابن كثير رحمه الله "حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج، يقال له (نافع بن الأزرق)، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا ابن عباس، غلبت اليوم، قال: ولم؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابا، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي. فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس، لما أجبته: فقال له: ويحك، إنه إذا نزل القدر عمى البصر، وذهب الحذر، فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا " (3).
ويقول السيوطي رحمه الله "وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ مَا قَاسَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ نافع بن الأزرق، وَمَا أَسْمَعَهُ مِنَ الْأَذَى وَمَا تَعَنَّتَهُ بِهِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ، وَأَسْئِلَةُ نافع بن الأزرق لِابْنِ عَبَّاسٍ مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ لَنَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ، مُدَوَّنَةٌ فِي ثَلَاثِ كَرَارِيسَ، وَقَدْ سُقْتُ غَالِبَهَا فِي الْإِتْقَانِ، وَقَوْلُ نافع لِرَفِيقِهِ لَمَّا أَرَادَ تَعَنُّتَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي نَصَبَ نَفْسَهُ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَتَّى نَسْأَلَهُ. وَرَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ رَدٍّ " (4).
وبمثل هذه المسائل التي كان نافع يثير اللغط بها حول آي القرآن الكريم وسؤاله ومناظرته لأهل العلم اغتر به وبما يظن السذج البسطاء قليلو العلم والفهم والإدراك انه يحمل علما، فاتبعوه وصدقوا قوله وصار مقدما فيهم ينتهون عند قوله فلا مراجعة ولا تدقيق فصار يتلاعب بأتباعه يدخلهم ويخرجهم حيث يشاء برأيه وبهواه.
ففي أكثر من موقف يبدل فيه مواقفه دون أدنى اعتراض من القوم مثلما حدث مع ابن الزبير رضي الله عنهما حينما اجتمع نافع بالخوارج الذين يرون رأيه وطلب إليهم أن ينضموا إلى ابن الزبير لمقاتلة جيوش أهل الشام قائلا لهم من خطبة له: "وقد جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولوا العداء والغشم وهذا من ثار بمكة فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل" فأطاعوه وخرجوا إلى مكة، فَقَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ حَتَّى مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَانْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ.
ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي صَنَعْتُمْ أَمْسِ لَغَيْرُ رَأْيٍ، تُقَاتِلُونَ مَعَ رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكُمْ، وَقَدْ كَانَ أَمْسِ يُقَاتِلُكُمْ هُوَ وَأَبُوهُ وَيُنَادِي: يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ! فَأْتُوهُ وَاسْأَلُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنْ بَرِئَ مِنْهُ كَانَ وَلِيَّكُمْ، وَإِنْ أَبَى كَانَ عَدُوَّكُمْ"(5)، فأثنى عليه خيرا فأمر أتباعه بالخروج عن ابن الزبير ومعاداته بل وتكفيره وحارب عماله وقتل منهم وسبى.
ولهذا يجب على كل عالم أن يستند إلى الكتاب والسنة الصحيحة ويترك هواه جانبا حتى لا يضل بنفسه أو أن يسهم في إضلال غيره فيكون رأسا للفتنة.
الجانب الثاني: جانب الفصاحة والبلاغة:
لا يجمع الناس على الحق ولا على الباطل إلا إعلام قوي ومؤثر يدفع الناس دفعا لاتخاذ مواقف والإيمان بأفكار سواء كانت صحيحة حقيقية أو باطلة مزعومة، ولقد كانت الفصاحة ولازالت هي المعول الأول إعلاميا، فحسن صياغة الكلمة والتعبير وقوة المتحدث وانطلاقه بلا تلعثم وقوة معاني كلماته تدفع غيره للإيمان به واتباع ما يقول، فإذا أضيفت البلاغة إلى الجانب الأول وهو العلم وسخر ذلك في الباطل استشرى خطر هذا الشخص وعظم في عين أتباعه وصار أمره أكثر ضررا عن ذي قبل.
ولقد اجتمعت في نافع بن الأزرق هذه الصفة أيضا مع التي قبلها، فكان خطيبا مفوها جزل العبارة سلس التعبير وجيده، فيقول المبرد في الكامل عن كلامه بأنه كان "كلاما عذبا أخاذا عليه فصاحة العرب وقوة حجتهم" وساق جانبا من كتاب له إلى أهل البصرة له، فتعجب من كونه مشهورا بسفك الدماء وإذا به في كتاب له يذم الدنيا!! ، قائلا: "فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافذة ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغترارا وأظهرت حبره وأضمرت عبره، فليس آكل منها أكلة تسره ولا شارب شربة تؤنقه إلا دنا بها درجة إلى أجله وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله دارا لمن تزود منها إلى النعيم المقيم والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارا ولا حليم بها قرارا، فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"(6).
فعلى كل صاحب منبر إعلامي وعلى كل صاحب كلمة مسموعة ومؤثرة أن يعلم أنه على ثغر من ثغور الدين وانه يمكن له بمنبره أن يكون داعية إلى هدى أو إلى ضلال وأنه لن تغنيه كثرة الأتباع أمام الله شيئا إن كان داعية إلى باطل.
الجانب الثالث: هوى الزعامة:
قد تجتمع قوة العلم مع حسن البيان في شخصية لا تطمح للزعامة والصدارة ومنازعة الأمر أهله وخاصة إن كان في القوم من يقوم بالمهمة خير منه، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ الإسلامي وأكثر من أن تحصر بعدد، فعلى سبيل المثال اجتمعت تلك المواهب في شخصية سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله ولكن ما نازع سلطانا في سلطانه فاختار أن يكون ردءا للصالح إسماعيل يناصحه فلما ضج إسماعيل به ذهب إلى مصر واختار نفس الموقف مع ولاتها ، والأمثلة غيره كثير.
ولكن نافع بن الأزرق كان يحمل نفسها بها من الأهواء والمطامع الكثير فآثر أن يختار عداوة من رضي الله عنهم وانزل في كتابه آيات تتلى في فضلهم، فعاداهم وكفرهم واستحل دماءهم وأموالهم وأعراضهم لا لشيء إلا ليحثث لنفسه الزعامة الفارغة التافهة.
وكان من سماته بهذه النفسية التي كان يحملها أنه كان يكفر كل من خرج عليه ومن لم يوافقه أو يطعه حتى لو كان يشترك معه في عدد من الأفكار الباطلة، فاعتبر أن الأرض التي يقيم فيها مع جماعته الضالة هي الوحيدة التي تستحق أن يطلق عليها ارض الإيمان وما سواها ارض كفر يجوز فيها قتل الأطفال والنساء وهم في نظرهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان بل كفر أيضا القعدة من أتباعه وهم الذين آمنوا بما يقول ولكنهم قعدوا عن اللحاق به فجعلهم في جانب الكافرين لا المؤمنين، وما هذا إلا بتأثير النفسية شديدة الغلو وشديدة حب السيطرة على الأتباع والانحراف والانجراف بهم في أي طريق دون أدنى اعتراض منهم.
ولهذا لا تكتمل هذه الثلاثة جوانب من قوة علم في باطل وحسن بيان وهوى الزعامة والسيطرة في إنسان إلا وصار داعيا لفتنة مسعرا لها يجب الانتباه له والاعتناء بخطره وبضرره فلا ندفن رؤوسنا في الرمال ثم ننتظر حتى تعظم فتنته وتقوى شوكته وحينها لا تصلح الحلول التي كان يمكن أن تصلح في البدايات وستكون المعالجة اشد ألما وأكثر خسارة.
ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(*)أرجو متابعة مقدمة الموضوع في هذا الرابط:http://www.taseel.com/display/pub/de...3457&ct=4&ax=5
(1) أخرجه عبد الرزاق وابن جرير 16/ 108 109 وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وفيه رجل مبهم، ويشهد له الذي بعده.
(2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول المؤلف : حافظ بن أحمد بن علي الحكمي.
(3) تفسير ابن كثير (6/ 195).
(4) الحاوي للفتاوي للسيوطي (3/449).
(5) الكامل في التاريخ ابن الأثير مجلد : 3 صفحه : 254.
(6) ((الكامل)) للمبرد (2/ 179).