01-12-2014 | رمضان الغنام
أما الطامة الكبرى والبلية التي ما بعدها بلية فهي اعتمادهم على مسألة الإلهام في تلقي هذه الأوراد، والإلهام عند الصوفية، هو "نور يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فيصبح علمًا وعالمًا ومعلومًا جميعًا"، وهي بحسب تعبير الشعراني "موارد من الرب على خاطر العبد".


لم يترك الإسلام مجالًا لمتقولٍ أو محرفٍ أو مشككٍ، فقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، بتصور كامل للحياة ومقومات الوصول بسلام لما بعد الحياة، والإسلام مع حرصه على إشباع رغبات الإنسان الجسدية، لم يهمل الجانب النفسي فيها، بل قدمه وخصَّه، فحضَّ على أمور، وأرشد إلى صنائع؛ لتطمئنة نفس المسلم، والذهاب بهمومها بمجرد الإتيان بتلك الصنائع وتعويد النفس عليها، ومن هذه الصنائع والعلاجات: الذكر؛ فالذكر سلاح ناجع للنفوس المؤمنة، فبه تذهب هموم النفس وكربها، وبه يتجدد إيمان النفوس وتزداد قربًا من ربها، وبه يُسمع العبد شكواه إلى مولاه وطلبه الذي يرجوه منه.


فالذكر حديثٌ نفسي شديد الخصوصية، بين العبد وربه، يلهج فيه العبد بما يريده من ربه، أو يثني عليه لجميل فضله ومنَّه وكرمه، وللأذكار عند الصوفية مكانة خاصة لا تنكر، حتى إن للقوم مجالس ذكر وأوراد وأحزاب ودعوات؛ لا تكاد تتوفر لغيرهم، فللذكر في حياة الصوفي مكانة خاصة، وطريقة خاصة، وهيئة خاصة، بل ودعوات وأوراد خاصة، ولكل طريقة من طرق المتصوفة أذكارها وأحزابها التي تميزها عن غيرها.


لكن الذي يعيب هذه الأوراد ويشين أصحابها احتواء كثير منها على كثير من الضلالات والبدع والأباطيل، ففيها إلحاد بأسماء الله، واختراع لطرائق بدعية في الذكر ما أنزل الله بها من سلطان، وفيها غموض وألفاظ لا يفهمها خواص الصوفية فضلاً عن عوامهم، وفيها من الغلو ما يشهد على فسادها، وتغبش مصدرها، وفساد منطلقاته.


فأكثر ما نعيبه على الصوفيه في مسألة الذكر والدعاء؛ استحداثهم لأوراد وأحزاب وأذكار لا سلف لهم فيها، ولا سند لها من نص قرآني كريم، أو قول نبوي شريف، فلكل طريقة أذكارها وأورادها الخاصة بها، فإن بحثت عن مصدر هذه الدعوات، لا تجد لها مصدرًا إلا شيخ طريقتهم أو أحد أوليائها وورثتها ممن يتلقونها بالإلهام أو الكشف أو الوحي؛ بحسب ما يدعون.


يقول صاحب كتاب ذكر ودعاء- وهو صوفي جلد- مبينًا طبيعة صُناع أوراد الصوفية: "واضعو هذه الأحزاب والأوراد إما أن يكونوا من مؤسسي الطرق الصوفية الرئيسية، أو من مؤسسي فروع هذه الطرق، ولكل عارف منهم أسلوب خاص به في الصلاة على إمام الهداة عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، هي مفتاح أنوار روح ذلك العارف، وسبيل كماله، وباب فتوحه الموصل إلى خزائن العلوم الاصطفائية، التي لا يطلع عليها سوى صفوة الله تعالى من خلقه"(1).


ويقول في موضع آخر موضحًا مصادر مشائخ الصوفية في تلقي هذه الأحزاب: "الأحزاب التي أقرها أساتذة الطرق الصوفية على ثلاثة أنواع: قسم خاص بما ورد في الحديث الشريف، وقسم سجل فيه العارف ما ألهمه الله عز وجل بعبارات واضحة، وقسم سجل فيه العارف ما أفيض عليه من الأنوار بعبارات ممتزجة بحروف لا يدري معانيها إلا من كان في مرتبته ومقامه، ومثال ذلك: الحروف الواردة في أوراد القطب الجيلاني والإمام الشاذلي والقطب الدسوقي.(2).


فأما ما ورد في الحديث الشريف من الأذكار والأوراد مما هو متداول في حضرات الصوفية ومجالس ذكرهم فدائر أغلبه ما بين الضعيف والموضوع، فعلى هذا الحال غالب أذكار الصوفية، فالقوم لا يبالون كثيرًا بمسألة الصحة والضعف، لأن الأمر عندهم محكوم بالذوق في المقام الأول، فما استحسنوه هو الصحيح المعمول به، وما لم يستحسنوه هو الضعيف المزهود فيه.


أما الطامة الكبرى والبلية التي ما بعدها بلية فهي اعتمادهم على مسألة الإلهام في تلقي هذه الأوراد، والإلهام عند الصوفية، هو "نور يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فيصبح علمًا وعالمًا ومعلومًا جميعًا"، وهي بحسب تعبير الشعراني "موارد من الرب على خاطر العبد"(3).


ولابن عربي نص صريح يعبر فيه عن هذه الحالة، نقله عنه الشعراني، يقول فيه: "جميع ما كتبته وأكتبه فى هذا الكتاب، إنما هو من إملاءٍ إلهىٍّ أو إلقاءٍ ربانىٍّ أو نفث روحانى فى كيانى، بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال"(4).


فانظر إلى التخليط، والعبث الديني والفكري الذي يؤصل له ابن عربي، فهو يدعي أن كل ما كتب من كلام رباني المصدر، ثم هو في ذات الوقت يدعي عدم الاستقلال والتبعية للأنبياء، فأي تبعية لرجل يدعي العصمة لكلامه؟ وهل لأحد أن يدعي هذا الادعاء إلا أن يكون نبيًا مرسلًا أو ملكًا كريمًا.


وادعاءات الصوفية علو المقام لأنفسهم ولمشائخ طرقهم أمر شائع، وليس بمستغرب، فللقوم أقوال تنص صراحة على علو مقامهم على مقام الأنبياء!! ومن كان هذا حاله هل يستحيل عليه الوحي المباشر فضلًا عن الإلهام؟ فعند الصوفية هاجس التقديس لمشايخهم؛ تقديس يرفع الشيخ أو الولي- بحسب عرفهم- إلى درجة النبي، بل قد يعلو مقام الولي عندهم على مقام النبوة، فيخصون هذا الشيخ أو ذاك بأمور لم يأت بها رسول أو نبي.


فقد نقلوا عن البسطامي أنه قال: "تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم، لوائي من نور تحته الجان والجن والإنس، كلهم من النبيين"(5).


وورد عن الجيلي قوله: "معاشر الأنبياء، أوتيتم اللقب، وأوتينا ما لم تؤتوه"(6).


فالإلهام عمدة في مسألة الأذكار والأوراد عند الصوفية، ولهذا تعددت أورادهم، بحيث صار لكل طريقة وردها الخاص بها، يردده المريد بذات الطريقة التي تلقاها عن شيخه، وبنفس العدد المروي عنه، كأن كلام الشيخ نص قرآني أو أثر شريف، وليت اتباعهم لما صح من ذكر كاتباعهم لما ابتدعه مشائخهم من أوراد.


خلاصة القول: إن الذكر عبادة جليلة، بل هو رأس العبادات، لكن الصوفيه ابتدعوا في الأمر وزادوا من عند أنفسهم أمورًا لا يصح العمل بها؛ لمفارقتها الاتباع، وعوزها للدليل، فتحديد ذكر معين بطريقة معينة وعدد معين، مهمة نبوية، لا يجرؤ عليها إلا من أوتي وحيًا من الله عز وجل.


فقد روي أن قومًا كانوا يجلسون حلقًا في المسجد، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فأتي ابن مسعود رضي الله عنه حقلة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة؟! قالوا والله: يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (إن قوما يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم! ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة[راوي الخبر]: فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج"(7).


وقد علق الألباني في سلسلته الصحيحه على هذه القصة بقوله: "إن فيها عبرة لأصحاب الطرق وحلقات الذكر على خلاف السنة، فإن هؤلاء إذا أنكر عليهم منكر ما هم فيه اتهموه بإنكار الذكر من أصله! وهذا كفر لا يقع فيه مسلم في الدنيا، وإنما المنكر ما ألصق به من الهيئات والتجمعات التي لم تكن مشروعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فما الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه على أصحاب تلك الحلقات؟ ليس هو إلا هذا التجمع في يوم معين، والذكر بعدد لم يرد، وإنما يحصره الشيخ صاحب الحلقة، ويأمرهم به من عند نفسه، وكأنه مشرع عن الله تعالى! (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)(8).


ولابن تيمية كلام موجز ردًا على سائل سأله عمن أحدث شيئًا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه،فأجاب رحمه الله بقوله: "لا ريب إن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والإتباع... وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادة راتبة، يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرمًا، لم يجز الجزم بتحريمه، لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به، وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت فهذا وأمثاله قريب. وأما اتخاذ ورد غير شرعى، واستنان ذكر غير شرعى، فهذا مما ينهى عنه، ومع هذا ففى الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة، إلا جاهل، أو مفرط، أو متعد"(9).


فما ذكره ابن تيمية من محاذير في فتواه السابقة تتطابق مع ما يأتي به المتصوفة في أورادهم وأحزابهم، فمن أين أتى مشائخ الصوفية بكل هذه الأوراد؟ ومن سن لهم تكرارها بعدد معين وبطريقة معينه؟ فإن كانت حجتهم الإلهام- وهي كذلك- فليس لأحد حق ادعاء الإلهام من الله إلا من حصل مقام النبوة؛ ومقام النبوة انتهى بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فكل من ادعى الوحي من الله أو الإلهام الذي يبيح له حق التشريع كاذب ومبدع لا محالة، وكل من اتبدع أحدًا هذا حاله سائر في ضلاله، ولن يفيده مع ابتداعه كثرة صيام أو صلاة أو ذكر، فنسأل الله الهداية والرشاد وحسن الاتباع والنجاة من الابتداع في الدين؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


ــــــــــ


الهوامش:


(1) ذكر ودعاء جمع عبد الله أحمد زينة: (ص:38).


(2) المرجع السابق: (ص:39).


(3) معجم ألفاظ الصوفية- د. حسن الشرقاوي- ص:53، نقلا عن: الإمام الشعراني- اليواقيت والجواهر- (الكبريت الأحمر هامش الكتاب) ص:3.


(4) المرجع السابق.


(5) الأخلاق للشعراني: (1/125).


(6) الإنسان الكامل للجيلي: (1/124).


(7) أخرجه الدارمي (1/68-69)، وهو في السلسة الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله: (2005).


(8) السلسة الصحيحة: حديث رقم (2005).


(9) مجموع الفتاوى لابن تيمية: (22/510-511).