الترتيب في آية الوضوء
التقدم بالأهمية المعنوية والفضل والشرف والزمن
تقوم اللغة على الاحتياج المعنوي والأهمية المعنوية ، والإنسان يتحدث بمستويات متعددة وبلغات متعددة تحت رعاية الاحتياج المعنوي غالبا واللفظي نادرا مع علامات أمن اللبس ليكون بعيدا عن اللبس والتناقض وهو غاية كل لغة من لغات العالم ،كما هو الحال في أية الوضوء التي تترتب بالأهمية المعنوية والفضل والشرف والزمن ، قال تعالى :"* ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين"*بنصب كلمة "أرجلكم " ،فهذه الآية الكريمة مبنية على كيفية الوضوء عند القيام للصلاة ، والمباني هي :غسل الوجه وغسل الأيدي ،ومسح الرؤوس وغسل الأرجل ، وقد تقدم غسل الوجه بالأهمية المعنوية لأن العبد ينبغي أن يكون بأبهى منظروهو يقف بين يدي الله ، يتوجه بوجهه في الصلاة للذي فطر السموات والأرض حيث يقول :وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ "، ولهذا تقدم نحو المبني عليه ، تلاه غسل الأيدي ، تلاها مسح الرأس ،ثم جاء أخيرا غسل الأرجل لضعف منزلة المعنى مع المبني عليه ، فالتقديم هنا بالأهمية المعنوية ،كما أن الآية الكريمة تترتب بالفضل والشرف ، فالوجه أشرف الأعضاء ،ولهذا تقدم نحو المبني عليه ، وهو الوضوء والصلاة ،وهي أحب الأعمال إلى الله ، وتأخرت الأرجل لضعف منزلة المعنى مع المبني عليه، والواو تفيد الترتيب الزمني كذلك للأسباب التالية التي جاءت في بدائع الفوائد:-
"الأول: أنه أدخل ممسوحاً بين مغسولين وقطع النظير عن نظيره، ولو أريد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات متسقة في النظم والممسوح بعدها فلما عدل عن ذلك دل على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله تعالى .
الثاني: أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحدٍ مأمور به وهو الوضوء فدخلت الواو عاطفة لأجزائه بعضها على بعض، والفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض فدخلت الواو بين الأجزاء للربط، فأفادت الترتيب إذ هو الربط المذكور في الآية ولا يلزمه من كونها لا تفيد الترتيب بين أفعال لا ارتباط بينهما نحو(أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أن لا تفيده بين أجزاء فعل مرتبطة بعضها ببعض، وهذا أرجح الأقوال.
الثالث: أن لبداءة الرب - تعالى - بالوجه دون سائر الأعضاء خاصة فيجب مراعاتها وأن لا تلغى وتهدر فيهدر ما اعتبره الله، ويؤخر ما قدمه الله وقد أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما قدمه الله فإنه ينبغي تقديمه ولا يؤخر، بل يقدم ما قدمه الله ويؤخرما أخره الله، فلما طاف بين الصفا والمروة بدأ بالصفا وقال نبدأ بما بدأ به الله وفي رواية للنسائي ابدأوا بما بدأ الله به فتأمل بداءته بالصفا معللا ذلك بكون الله بدأ به فلا ينبغي تأخيره وهكذا يقول المرتبون للوضوء سواء، نحن نبدأ بما بدأ الله به ولا يجوز تأخير ما قدمه الله ويتعين البداءة بما بدأ الله به وهذا هو الصواب لمواظبة المبين عن الله مراده صلى الله عليه وسلم على الوضوء المرتب فاتفق جميع من نقل عنه وضوءه كلهم على إيقاعه مرتباً، ولم ينقل عنه أحد قط أنه أخل بالترتيب مرة واحدة ، فلو كان الوضوء المنكوس مشروعاً لفعله ولو في عمره مرة واحدة لتبيين جوازه لأمته وهذا بحمد الله أوضح"(1)
.------------------------------------------------------------
1)ابن القيم - بدائع الفوائد ، ج1 ، ص 65-66، وكذلك السهيلي - نتائج الفكر- ص269