27-07-2014 | يحيي البوليني
فكان اجتهاد الصوفية الأول عند أبي بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّاني [1]، الذي فصل نقل عنه توصيفا للألقاب والدرجات وبعض أعمالها وأعدادها فقال: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمدُ أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعُمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العُمدُ، ثمّ أجيبوا، وإلاّ ابتهل الغوث، فَلاَ يُتِمُّ مسألته حتى تُجاب دعوته" [2].


على الرغم من الظهور العلني الصوفي على هيئة غير مرتبة من الناحية الإدارية أو التنظيمية، وظهورهم كجماعات منفصلة على هيئة الدوائر التي تلتف كل منها حول شيخ يسمى بشيخ الطريقة أو ما يلقبونه بالعارف بالله, إلا أنه وعلى الرغم من ذلك فان لهم ما يشبه النظام الصارم في الرتب والدرجات بحيث يترقى احدهم من مرتبة إلى أخرى حتى يصل إلى الدرجات التي لا يرتقي لها إلا أشخاص معدودون على مستوى العالم ممن يتبعون الطريقة، أو ممن يتبعون نفس المدرسة.
الرتب والدرجات الصوفية
باعتبار أن هذا التقسيم ليس له سند من قرآن أو سنة, وليس له أي دليل صحيح ولا حتى ضعيف على وجود مثل هذا التقسيمات في دين الإسلام, من اجل ذلك اختلف كبراء الصوفية كل حسب هواه في تقسيم الناس على درجات شتى.
ولم تظهر هذا البدعة في القرون الثلاثة الأولى، فلم يذكرها السلف من الصحابة والتابعين أو أتباعهم، ولم يعتقدوا بوجودها ولا بأهميتها كما يعتقد ذلك الصوفية, فكان أول ظهورها في كتابات متناثرة في القرن الرابع على يد عدد من علمائهم ومفكريهم.
فكان اجتهاد الصوفية الأول عند أبي بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّاني [1]، الذي فصل نقل عنه توصيفا للألقاب والدرجات وبعض أعمالها وأعدادها فقال: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمدُ أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعُمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العُمدُ، ثمّ أجيبوا، وإلاّ ابتهل الغوث، فَلاَ يُتِمُّ مسألته حتى تُجاب دعوته" [2].
فكان هذا هو الظهور الأول للألقاب: النقباء والنجباء والبدلاء أو الأبدال والقطب والغوث والسياحون والعمد وغيرها من الألقاب المستمرة إلى اليوم.
ويأتي بعده في أواخر القرن الرابع أبو طالب المكي الذي عبّر عنها بقوله: "القطب اليوم الذي هو إمام الأثافي الثلاثة والأوتاد السبعة والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاث مائة كلهم في ميزانه وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدلٌ من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والأثافي الثلاثة بعده إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده، والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاث مائة وثلاثة عشر إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين" [3] .
وهنا نلاحظ وجود بعض الاختلافات الطفيفة بينهما فيضع أبو طالب "الأثافي الثلاثة" مكان "العمد الأربعة"، و"الأوتاد" مكان "الأخيار"، والأربعين والسبعين وثلاث مائة جعلهم كلهم "أبدالاً"، ولم يقسمهم إلى "بدلاء" و"نجباء" و"نقباء".
وفي نهاية القرن الخامس يضع الهجويرى بعض التفصيلات فيقول أن: "أهل الحل والعقد وقادة حضرة الحق جلَّ جلاله، فثلاث مائة يُدْعَون الأخيار، وأربعون آخرون يُسَمَّون الأبدال، وسبعة آخرون يقال لهم الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعًا يعرفون أحدهم الآخر، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض" [4] .
ورغم هذه الاجتهادات الصوفية إلا أن في القرن السابع الهجري يضع محي الدين ابن عربي فيلسوف الصوفية وشيخهم الأكبر الذي يعتبر أول من نظَّر لهذا التقسيم ووضع نظامًا للأولياء ورجال الغيب، ورتبهم وصفهم في مراتب ودرجات ووضع لكل مرتبة نظامها وعلومها وصفاتها ووظائفها حتى وضع العدد الأقصى لشاغليها, وفتح بذلك الباب لمن بعده من الصوفية لكي يدلي كل منهم بدلوه, فزادوا وفصلوا زيادات وتوضيحات ليس لها أي أساس من دين أو شرع وليس فيها إلا ما تمليه عليهم أهواؤهم" [5].
وعليه جعل ابن عربي الطبقات كما حكى إجماعا على ذلك من أهل الطريق كما يقول فجعلهم ستّ طبقات أمهات: أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء, كما جعلهم لسان الدين ابن الخطيب سبع طبقات [6]. وجعلهم عمر الفوتي سبعاً أيضا مع اختلاف في الأسماء [7], وأوصلهم داود القيصري [8] وحسن العِدْوى الحمزاوي إلى عشر طبقات[9], وهكذا دون دليل شرعي واحد مع أي منهم يستند عليه في هذه المراتب التي لم تأت في كتاب ولا سنة ولا عند سلف الأمة, فكان مستند اختلافهم بل منشأ هذا التصنيف والتقسيم هو الهوى والخرافة لا غير.
معاني هذه المراتب والدرجات الصوفية
ويحسن بنا ان نقف على معاني هذه الطبقات بحسب ما فسرها أعلام الصوفية على الرغم من اختلافهم الكبير في معانيها أيضا، وسنستند في هذه التعريفات على جمع عبد الوهاب الشعراني[10] لأقوال ابن عربي في "الفتوحات المكية"، مع أقوال غيره من ائمة الصوفية للوقوف على تعريف شبه مجمع عليه لهذه الرتب والدرجات, ونعوذ بالله من هذا الضلال, وحاش لله ان يكون ما يقولونه هذا في ملكه أو في دينه.
1- القطب
هو الواحد الذي يكون موضع نظر الله من العالم في كل زمان، ويقال له "الغوث " [11], وهو الذي أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته" [12]
ويقولون أن "اسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة، وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية وصاحب الوقت وعين الزمان وصاحب علم سر القدر، وله علم دهر الدهور، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء [13] " .
ويقولون "ولم يخل زمان من الأقطاب، وقد عدَّ ابن عربي خمسة وعشرين قطباً من عهد آدم عليه السلام إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسمَّاهم" [14] .
فهل يمكن بهذه الصفات أن يكون قطبهم المزعوم بشرا؟ وهل يمكن ان يكون بذلك عبدا من العباد؟ بل أضفيت عليه سمات الألوهية في اخص خصائصها, فهي هم يعبدون الله حقا أم يعبدون القطب؟
ولنا في هذا النص الأخير جلاء الحقيقة فيقول التيجاني "أعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقًا في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الربّ إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثمّ قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شىء كائناً ما كان من الحق إلاّ بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق في ذلك وتوصيله كل قسمة إلى محلّها، ثمّ قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملةً وتفصيلا، فترى الكون كلّه أشباحاً لا حركة لها، ْ وإنما هو الروح القائم فيها جملةً وتفصيلا" [15] .
علامات القطب وخصائصه
لتبيان هذا الضلال الذي هم فيه وضع الصوفية علامات يعرف بها عندهم القطب أو يمكن تسميتها بخصائصه ومميزاته, ثم لننظر لها لنعلم عن أي بشر يمكن أن تكون هذه صفاته, وأين رب العزة سبحانه في دينهم؟
فيقولون من خصائصه وإمكانياته وعلومه أنه يُكشَف له عن حقيقة الذات الإلهية، ويحيط علماً بصفات الله تعالى، وأن علم القطب لا حدود له، فلا يخفى عليه شيء من الدنيا والآخرة. ويحيط بمعرفة أحكام الشريعة ولو كان أميّاً، وهو أكمل الخلق وأفضل جماعة المسلمين في كل عصر، ولا حدود لمرتبته فهو محيط بجميع المراتب، ويُبصِر بجميع أجزاء بدنه ما عدا العين، ولا يطيق رؤيته إلاّ الخواص وأنه يدور في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء، وهو بجسده حيث شاء من الأرض واشترط بعضهم أن يكون قطب الأقطاب من أهل البيت، وذكروا أنه يستقر بمكة.
وظائف القطب وقدراته في الكون
أما عن وظائفه في الكون فمنها: التصرف في الكون والتأثير في حوادثه والحكم الشامل التام في جميع المملكة الإلهية، ووقاية مريديه من السؤال والحساب في الآخرة، ولا يجري في عالم المخلوقات شىء إلاّ بإذنه حتى ولو كان جريانه في القلوب.
فهل يمكن أن يرقى مخلوق لمثل هذا حتى لو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- الإمامان
والإمام لقب لرجلين يعتبران كاليدين للقطب أو الغوث أحدهما على يمينه ويعتبر نظره في عالم الملكوت أو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي هي مادة الوجود والبقاء؛ الثاني عن يساره ويعتبر نظره في الملك أو مرآة ما يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية، والغريب أن فكرة التيامن التي تبرز دوما في كل ما هو إسلامي مقلوبة هنا, فالذي عن يساره يعتبر أعلى مقاما من الآخر ويكون خليفة للقطب إذا مات [16]
3- الأوتاد
والأوتاد عندهم كالجبال, فهم الذين يحفظون الأرض من كل سوء وشر, وهم أربعة دوما في كل وقت لا يزيدون ولا ينقصون بحسب الأركان الأربعة الجغرافية في الكون "شرقا وغربا وشمالا وجنوبا", ويزعمون أن مع كل واحدٍ منهم مقام تلك الجهة، يحفظ الله بهم العالم، لهم روحانية إلهية, ولديهم علوم جمة كثيرة, أحدهم على قلب آدم والثاني على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب محمد" [17]
4- الأبدال أو البُدَلاء
ومصطلح الأبدال أو البدلاء يعني أنهم أيضا من الحفظة للكون ولكنهم يختلفون عن الأوتاد الذين يختصون بالجهات الأربعة الجغرافية, فالأبدال يحفظون الأقاليم السبعة في الأرض, فهم "سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكلِّ بدلٍ إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السماوات والأرض" [18], ومن هنا جاء التداخل بين الحدود الجغرافية, فمن الصوفية من قال بأن الأوتاد الأربعة من الأبدال, ومنهم من قال بأن السبعة الأبدال خارجون عن الأوتاد بحسب تخاريف الهوى الذي سيطر على عقولهم.
ويقول الصوفية في سبب تسميتهم بالأبدال لأنهم "أعطُوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، لأمر يقوم في نفوسهم على علمٍ منهم، فيرتحلون إلى بلد، ويقيمون فيَّ مَكانهم الأول شبحاً آخر شبيهاً بشبحهم الأصلي بدلاً منه، بحيث إن كلّ من رآه لا يشك أنه هو" [19].
5- النجباء
وهم أقل درجة من البدلاء وهم أربعون يحملون أثقال الخلق أي يحملون كل ما تنوء به البشرية عن حمله ويتصفون بكونهم "موفوري الشفقة والرحمة الفطرية، ولا يتصرفون إلاّ في حق الغير، إذ لا مزيد لهم في ترقياتهم إلا من هذا الباب" [20]. واختلف الصوفية في عددهم فزعم المناوي أنهم "ثمانية في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون، عليهم أعلام القبول في أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، أهل علم الصفات الثمانية، ومقامهم الكرسي، لا يتعدونه ما داموا نجباء، ولهم القدم في علم تسيير الكواكب كشفاً واطلاعاً، لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن" [21].
6- النقباء
وهم أول درجات ترقي الصوفية في علم الحقيقة بعد سلوكه الطريق كما يزعمون وهم أول مراتب الخواص, وهم كما يقول القشيري والمناوي والقاشاني "ثلاث مائة، وهم الذين تحققوا بالاسم الباطن، فأشرفوا على بواطن الناس، فاستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر. وهم ثلاثة أقسام: نفوس علوية، وهي الحقائق الأمرية، ونفوس سفلية، وهي الخلقية، ونفوس وسطية، وهي الحقائق الإنسانية، وللحق تعالى في كل نفس منها أمانة منطوية على أسرار إلهية وكونية" [22].
مستندهم الشرعي وبيان تهافته
لم يرد أي مصطلح سابق في الشرع من الكتاب والسنة إلا لفظ الأبدال أو البدلاء, فلم يرد هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب الستة إلاّ في حديث واحد عند أبي داود (4286)، وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة, أما عن ورود نفس اللفظ خارج الكتب الستة فورد في أحاديث متفرقة أكثرها مضطرب أو معل وقد أفرد لها السخاوى في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على الأبدال" وبيَّن فيه عللها, فمنها ما هو موضوع ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر, وضعَّفها القاضي أبو بكر ابن العربي في "سراج المريدين"، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع وذكرها في "الموضوعات", وقال ابن القيم: "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلةٌ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –". وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإنّ فيهم البدلاء، كلَّما مات رجلٌ منهم أبدلَ الله مكانَه رجلاً آخر". ذكره أحمد، ولا يصحُّ أيضًا، فإنّه منقطع [23].
فهذا كل اعتمادهم الفقهي والشرعي في المسألة, فبنوا خيالاتهم وخرافاتهم على لفظ الأبدال الوارد في حديث منقطع ضعيف لا تقوم به حجة على أي شئ، حتى لو افترضت صحته فلا دليل فيه على قيامهم بحفظ الأرض ولا التدخل في ملك الله ولا قضاء حوائج العباد ولا أي شئ من هذا التخبط العقدي والهذيان الفكري.
أما تسمية النقباء وهي أول درجات الخواص لديهم ربما يستندون فيها من قوله تعالى "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً" ومن اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم لاثني عشر نقيبا من الأنصار في بيعة العقبة وهذه ليس لها دلالة على قيام النقباء بشئ من شئون العباد أيضا سوى حثهم على الخير ونصحهم إذا انحرفوا عن الصواب, وهذا مختلف جدا عن فعل النقباء عند الصوفية.
الشيعة مصدر الفكرة الخبيثة
لاحظ كثير من الباحثين وجود تطابق بين التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية, وأكد ذلك بعض علماء الشيعة حيث قالوا: "أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحدٍ" [24]
وذكر ذلك أحمد أمين حيث قال "أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمَّته "قطبًا"، وكوَّنت مملكة من الأرواح على نمط مملكة الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع" [25].
وقال ابن خلدون في مقدمته: "كان سلفُهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يُعرَف لأولهم، فأشرِبَ كلُّ واحدٍ من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القولُ بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثمّ يورث مقامه لآخر من أهل العرفان" [26].
وسبقهم كثير من علماء الإسلام في نقد هذا الطرح الشائن لخطورتها على العقيدة كابن الصلاح والعز بن عبد السلام وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة واسعة لهم فبيَّن أن هذه الدعاوى كلها باطلة، فهي نفس ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب" والفلاسفة في "العقل الفعال" وذكر نصوصًا من الكتاب والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلاّ في أذهان الصوفية؟ وذلك في رسالة هامة وفتوى شهيرة لشيخ الإسلام للرد على هذه الدعاوى الباطلة, وسميت بـ "فتوى الأقطاب والأبدال".[27]
وبعد هذا الجمع والعرض المختصر لهذه الأفكار الباطلة والعقائد الضالة, فهل يمكن القول بان هذه العقيدة تمثل عقيدة المسلمين؟!!
ـــــــــــــــ ــــــــــــ
[1] (أحد مشايخ الصوفية - ت 322)
[2] رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/75- 76) بإسناده إليه. وفيه علي بن عبد الله بن جهضم، متهم بالكذب، كما في (الميزان) (3/143) و (اللسان) (4/238) . ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/300) من طريق الخطيب، وكذا نقلت عنه المصادر المتأخرة، مثل "المقاصد الحسنة" ص 10 و"الخبر الدال" (2/255) وغيرهما.
[3] "قوت القلوب" (2/78) .
[4] "كشف المحجوب " (الترجمة العربية) ص 447، 448.
[5] التفصيل في "الفتوحات المكية" (2/40)
[6] "روضة التعريف بالحب الشريف" (ص 432)
[7] "الرماح" (1/21)
[8] "شرح مقدمة التائية الكبرى" (ق 104 ب) .
[9] "النفحات الشاذلية" (2/99)
[10] في كتابه "اليواقيت والجواهر" (2/79- 83)
[11] "الفتوحات المكية" (3/244) . وانظر "اصطلاحات الصوفية" لعبد الرزاق القاشاني ص 141 (ط. كلكتا 1854 م) .
[12] "التعريفات" للشريف الجرجاني ص 185- 186 (ط. فلوجل)
[13] "اليواقيت والجواهر" (2/79) .
[14] "الفتوحات المكية" (2/362) .
[15] "جواهر المعاني (لعلي حرازم برادة (2/89- 90) .
[16] ذكر ذلك بتفاصيله في "الفتوحات المكية" (3/244) و"التعريفات " ص 36، و"التوقيف على مهمات التعاريف " ص 60 وغيرها.
[17] "الفتوحات المكية" (2/400، 401) ، و"التعريفات" ص41، و"التوقيف" ص 66؛ و"كشاف اصطلاحات الفنون" ص 1453، 1454.
[18] "الفتوحات المكية" (2/376) و"حلية الأبدال" ص 11.
[19] الفتوحات المكية (2/400) ، و"التعريفات" ص 44، و"التوقيف" ص 36؛ "مشتهى الخارف الجاني" ص 510، وغيرها.
[20] "الفتوحات المكية" (3/244) ، و"التعريفات" ص 259، و"اصطلاحات الشيخ محي الدين ابن عربي" ص 286.
[21] " التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي " ص 322.
[22] "التعريفات" ص 266، "اصطلاحات الصوفية" للقاشاني ص 96، "التوقيف" ص 329.
[23] "المنار المنيف" (ص 136)
[24] انظر"الفلسفة الشيعية" للآملي ص 223؛ و"الإسلام الشيعي" لمحمد حسين طباطبائي (الترجمة الإنجليزية) ص 114.
[25] "ضحى الإسلام" (3/245) .
[26] "مقدمة ابن خلدون" ص 473
[27] ويرجع لهذه الرسالة لكتاب : جامع المسائل لابن تيمية تحقيق : محمد عزير شمس إشراف : بكر بن عبد الله أبو زيد، الناشر : دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع​