تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: سكوتَ العالِم على وقوع مُنكر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    3,205

    افتراضي سكوتَ العالِم على وقوع مُنكر

    قال الصنعاني رحمه الله
    "ولا يَخفى على أحد يتأهَّل للنظر، ويعرفُ بارِقَةً مِن عِلم الكتاب والسنة والأثر، أنَّ سكوتَ العالِم أو العالم على وقوع مُنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر.ولنضْرِب لك مثلاً مِن ذلك؛ وهي هذه المكُوسُ المسمَّاة بالمجابي، المعلوم مِن ضَرورة الدِّين تَحريمُها، قد مَلأَت الدِّيارَ والبقاع، وصارت أمراً مأنوساً، لا يلج إنكارُها إلى سَمع مِن الأسماع، وقد امتدَّت أيدي المكَّاسين في أشرف البقاع، في مكة أمِّ القرى، يَقبضون مِن القاصدين لأداء فَريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كلَّ فِعل حرام، وسُكَّانها مِن فُضلاء الأنام، والعلماءُ والحكَّامُ ساكتون على الإنكار، مُعرضون عن الإيراد والإصدار، أَفيَكون السكوتُ من العلماء، بل من العالم دليلاً على حِلِّ أخذها وإحرازها؟ هذا لا يقولُه مَن له أدنى إدراك.
    بل أضرب لك مثلا آخر؛ هذا حَرَمُ الله الذي هو أفضلُ بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدَث فيه بعضُ ملوك الشراكسة الجهلة الضُّلال هذه المقامات الأربعة، التي فرَّقت عبادات العِباد، واشتملت على ما لا يُحصيه إلاَّ الله عز وجل من الفساد، وفرَّقت عبادات المسلمين، وصيَّرتهم كالمِلَلِ المختلفة في الدِّين، بدعةٌ قرَّت بها عينُ إبليس اللعين، وصيَّرت المسلمين ضحكةَ الشياطين، وقد سكتَ الناسُ عليها، ووفَد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها3، وشاهدها كلُّ ذي عينين، وسَمع بها كلُّ ذي أذنين.
    أفهذا السكوت دليلٌ على جوازها؟ هذا لا يقولُه مَن له إلْمَامٌ بشيء من المعارف"
    تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ويليه شرح الصدور في تحريم رفع القبور (ص: 78)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    3,205

    افتراضي رد: سكوتَ العالِم على وقوع مُنكر

    حكم كتم الحق عند خوف الفتنة
    يقول الحاكم: وهذا داخل في قولنا: إن الحسد إذا كان سبباً للقبيح قبح، يعني: تفريعاً على قاعدة: أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فسب آلهة الكفار حسنة؛ لكنه إذا أدى إلى قبيح وهو المقابلة بالمثل، فإنه يقبح.
    وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين من قوله: إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا لأن بعض العلم إذا ألقيته إلى غير أهله يسيء فهمه، فهناك من العلوم ما يكتم بحسب مستوى الشخص الذي تكلمه.
    فإذا فتحت عليه باب شبهة ربما أفسدت عليه دينه، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
    وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف ألا يقص رؤياه على إخوته، فلا معنى لزعم من يزعم أن العلم لا يحل كتمه، نقول: عليه أولاً أن ينظر إذا كان إظهار العلم مما يضر المخاطبين فإنه يكتم عنهم؛ لأن هناك من العلوم ما يحتاج إلى درجة معينة من الفهم، المقصود من هذا أن خوف شر الأشرار أمر معتبر شرعاً، وهو من الصوارف التي تجيز كتم الحق أحياناً.
    قال السيد المرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق): مما زاد الحق غموضاً وخفاءً خوف العارفين -مع قلتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور.
    إن هذا الاستبداد والظلم الحاصل من سلاطين الجور قد يكون عذراً لبعض الناس ألا يجهروا بالحق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] أو قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] وإجماع أهل الإسلام أيضاً على جواز ذلك، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق، وذكر من قبل في الاستدلال على التقية أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، ووصفه بالإيمان، مع أنه كان يكتم إيمانه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] وقد كان يكتم إيمانه تقية، وسميت به سورة غافر فهي تسمى أيضاً سورة المؤمن، أي مؤمن آل فرعون.
    وصح أمر عمار بالتقية وتقريره عليها حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عادوا فعد) ونزل فيه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين، أما أحدهما: فبثثته لكم -أي: نشرته فيكم وأعلمتكم به- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم) أي: من أمراء الجور والظلم إذا جهر بهذا العلم.
    ولذلك قال الغزالي في خطبة المقصد الأسنى: من جهل الحق جدير بأن يتعامى، لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى.
    ومن ثم كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى أن العالم ليس له أن يأخذ بالتقية؛ لأن العلماء العاملين الذين يعلمون الحق قلة، فإذا سكت العالم عن إظهار الحق الذي عنده مع جهل الناس؛ فمتى تقوم الحجة على هؤلاء الناس؟ والإمام أحمد أنكر أشد الإنكار على من اتقى القول في فتنة خلق القرآن، وصمد هو وقلة معه رحمه الله تعالى.
    ومن الشعر الذي قيل في علي بن المديني وهو إمام جليل رحمه الله تعالى
    [البحر الطويل]
    يَا ابْنَ الْمَدِينِيِّ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ ... دُنْيَا فَجَادَ بِدِينِهِ لِيَنَالَهَا
    مَاذَا دَعَاكَ إِلَى انْتِحَالِ مَقَالَةٍ ... قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ كَافِرًا مَنْ قَالَهَا

    فهذا من العتاب الذي يكون بين العلماء في قضية الصدع بالحق وعدم التقية، لكن أغلب العلماء يرون جواز التقية عند الإكراه.
    (من تفسير القرآن الكريم - د. محمد إسماعيل المقدم )

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    3,205

    افتراضي رد: سكوتَ العالِم على وقوع مُنكر

    عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ. وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[204]- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ. قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي. حَتَّى إِذَا كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ. فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي قَالَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، قَالَ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ، هَذِهِ اللَّيْلَةَ، سُورَةٌ. لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ، ثُمَّ قَرَأَ: " {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] "
    قال ابن عبد البر في الاستذكار (2/ 496)"وَفِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يُرِيدُ الْجَوَابَ فِيهِ إِنْ سَكَتَ وَلَا يُجِيبُ بِ نَعَمْ وَلَا بِ لَا وَرُبَّ كَلَامٍ جَوَابُهُ السُّكُوتُ
    وَفِيهِ مِنَ الْأَدَبِ أَنَّ سُكُوتَ الْعَالِمِ عَنِ الْجَوَابِ يُوجِبُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ تَرْكَ الْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ
    وَفِيهِ النَّدَمُ عَلَى إِيذَاءِ الْعَالَمِ وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ خَوْفَ غَضَبِهِ وَحِرْمَانِ فَائِدَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وقل ما أَغْضَبَ أَحَدٌ عَالِمًا إِلَّا حُرِمَ الْفَائِدَةَ مِنْهُ
    قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ رَفَقْتُ بِابْنِ عَبَّاسٍ لَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهُ عِلْمًا
    وَقَالُوا كان أبو سلمة يماري بن عَبَّاسٍ فَحُرِمَ بِذَلِكَ عِلْمًا كَثِيرًا
    وَفِيهِ مَا كان عليه عمر (رضي الله عنه) من التَّقْوَى وَخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا لِسُؤَالِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مرات كل ذلك لا يُجِيبُهُ وَالْمَعْلُومُ أَنَّ سُكُوتَ الْعَالِمِ عَنِ الْجَوَابِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ
    وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ السَّائِلِ يَعِزُّ عَلَيْهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي طَبَائِعِ النَّاسِ وَلِهَذَا أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعُمَرَ يُؤْنِسُهُ"

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    3,205

    افتراضي رد: سكوتَ العالِم على وقوع مُنكر

    وعن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»
    قال ابن حجر:
    "قَالَ بن بَطَّالٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ جَوَازُ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَفْتِ ي إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ لَا تُعْرَفُ أَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِالنَّاسِ إِلَيْهَا أَوْ كَانَتْ مِمَّا يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ أَوْ سُوءُ التَّأْوِيلِ "
    فتح الباري لابن حجر (13/ 131)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    3,205

    افتراضي ماذا يعني سكوت العلماء عند الفتن؟!

    ماذا يعني سكوت العلماء عند الفتن؟!

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    التكليف بالواجبات الشرعيّة العلميّة والعمليّة مشروط بالممكن من العلم والقدرة؛ لهذا يتعيَّن حَملُ كلام العلماء الربانيّين أو سكوتهم على أفضل الوجوه؛ لا سيَّما توقفهم وسكوتهم في حال التمكّن والاشتباه؛ فممَّا تقرر في الشريعة: (جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والتمكّن)، و(ما كلُّ حديث تحدَّث به العامّة)، و(من المسائل مسائل جوابها السكوت).

    فالعالم ينظر إلى المآلات والعواقب، فيمسك عن الكلام -أحياناً- خشية الفتنة؛ كما قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه-: ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (1)؛ ويُراعي -أيضاً- ضابط المصلحة، ومراعاة الأولويات، فهو في كلامه وسكوته يمر بمراحل ثلاث:

    الأولى: هل الأولى السكوت، أو الأولى الكلام؟

    الثانية: ثم هل الكلام على العموم، أم الكلام على الخصوص والتعيين؟

    الثالثة: عدم إهمال جانب المصالح، والنَّظر إلى المآلات.


    وقد أوضح الشَّاطبي -رحمه الله- هذا الأمر -عند حديثه- على أقسام العلم: منه ما هو مطلوب النَّشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص؛ فقال:

    ((وضابطه أنَّك تعرض مسألتك على الشَّريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنَّسبة إلى حال الزَّمان وأهله، فإنْ لم يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول (2)، فإنْ قَبِلَتْها؛ فلك أن تتكلم فيها: إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعيّة والعقليّة)) (3) ا. هـ.

    والمقصود: أن العالم الرباني تتعدد أجوبته بحسب نوع المسألة أو النَّازلة، وبحسب حال السائل، فتارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة ثالثة يسكت ويتوقف، وفي الصورة الأخيرة يقال: إن سكوت العلماء الربانيين الذين لهم لسان صدق في الأمَّة، وموافقة للسُّنّة المحضة في مواضع الفتن والاشتباه يعدُّ قرينة على أنَّه لا يصلح الجواب إلا بالسكوت، فسكوتهم جواب لبيان الحال وما آلت إليه الأحوال؛ فمن المسائل مسائل جوابها السكوت، والمقصود هو تحصيل الخير ودفع الشر، والخوض في حال الفتن واشتباه الأمور لا فائدة منه -في الغالب-؛ بل هو يزيد الشر وينقص الخير، ويضيّع رأس المال في دائرة السعي إلى الأرباح، فما دام أنه ناقض مقصود الشريعة، فتركه هو المقصود.

    وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا الأمر بياناً شافياً؛ فقال: ((فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة؛ كالأمر بالصلاح الخالص، أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأمّا إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكفّ والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء، حتى علا الإسلام وظهر.

    فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التّمكن؛ كما أخر الله -سبحانه- إنزال الآيات، وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها)) (4) .

    فظهر - من هذا- أن من أوجه جواب العالم: السُّكوت، والعالم لا يسكت إلا في حالتين:

    الحالة الأولى: إذا كان السكوت هو الأصلح؛ فيقال: -آنذاك-: ((من المسائل مسائل جوابها السكوت)).

    الحالة الثانيّة: أن يسكت العالم لعدم تمكنه من العلم
    بالمسألة أو النازلة؛ لا سيَّما إذا كانت من المباحث الجزئيّة الدّقيقة، أو أحياناً لعدم قدرته على الحق المشروع، وهو فيه معذور؛ وآنذاك يقال: ((لا ينسب إلى ساكت جواب)) .

    والقول: إن سكوت العلماء في مواضع الفتن والملاحم (5) يعدُّ جواباً محرراً وقولاً محققاً، يحتاج إلى تأصيل وتعليل وتفصيل؛ لإنزال هذه القاعدة في محلها؛ لذلك احتاج المقام إلى بيان بعض الأمور:

    الأمر الأول: أن العالم غالباً ما يُحذِّر ويتكلم عند إقبال الفتنة وقبل وقوعها؛ فإذا وقعت عجز عن الكلام وأمسك عن الخوض فيها(6) ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء عن دفع السفهاء، فصار الأكابر -رضي الله عنهم- عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال -تعالى-: ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال:25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله)) (7) اهـ.

    فالعالم يتكلم قبل وقوع الفتنة؛ فإذا وقعت سكت وأمسك؛ فهو يتحسَّس أسبابها قبل الوقوع، ويتفرس رجالها قبل الشروع، ويتبصَّر مقدماتها قبل فوات الأوان؛ بخلاف غير العالم الذي لا ينشط إلا بعد وقوع الفتنة.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فلما قتل -رضي الله عنه- [أي: عثمان] تفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزاً عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحبُّ إقامته)) (8) .

    الأمر الثاني: أنه إذا لم يكن للأمر والنَّهي مواضع قبول، وآذان صاغيّة عند المخاطبين؛ بل الضد من ذلك؛ فأنذاك يكون الكفُّ والإمساك عن الأمر والنَّهي هو الأصلح، ويشتغل المسلم بالممكن المستطاع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا رأيت شحَّاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام)) (9).

    الأمر الثالث: أن هذه القاعدة تتنزَّل عند تداخل الخير بالشر، والمنكر بالمعروف، والمصلحة بالمفسدة بالنسبة لبعض الأمور الجزئية المعيّنة؛ فتكون مصلحة السكوت راجحة على مصلحة الكلام؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند كلامه على مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ((فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعيّنة الواقعة)) (10).

    الأمر الرابع: ثم إنَّ العالم قد ينوِّع الجواب بحسب الحال فقد يتكلم مع طائفة ويسكت مع أخرى؛ لأن السكوت مع الأخيرة هو الأنفع والأصلح لها.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فإذا كان العلم (بهذه المسائل) قد يكون نافعاً وقد يكون ضاراً لبعض النّاس، تبيَّن لك أنَّ القول قد ينكَر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص، وأن العالم قد يقول القولين الصوابين، كلّ قول مع قوم؛ لأنّ ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعاً فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع)) (11) .

    الأمر الخامس: فإن سكوت العالم -أحياناً- يكون مناسباً عندما تتسيّس الآراء والمواقف، وتتحزّب الرجال على غير هدى من الله، وعندما ينطق الرويبضة، وعندما يحرص أهل الضلالة على تحجير دور العلماء، وعندما يكون مدار المنازعات على حظوظ دنيويّة وأغراض نفسيّة، فآنذاك يُعلم الفرق بين سكوت بعض العلماء وثرثرة كثيرٍ مِن الجهال.

    وإذا تقرر أنَّ السكوت: -أحياناً- يكون جواباً؛ ففرق بين السكوت الراجح، والتعطيل للعلم والدعوة، والعزلة المذمومة التي تفوِّت على الناس مصالحهم ودينهم وعقيدتهم؛ فالعالم إذا سكت عن مسألة معيّنة لمصلحة راجحة؛ فهو قد اشتغل بغيرها -تعليماً وتصنيفاً-؛ فانتقل من المفضول إلى الفاضل؛ بعد إذ أدرك أن القيام بوظائف العبوديّة -ظاهراً وباطناً-، وإحياء السنن النبويّة، والتطبب بالأدوية القرآنيّة، والتَّفقه على الآثار السلفيّة، فيه الغنية عن الخوض في الأمور المشتبه؛ والتَّعلق بالمصالح المظنونة.

    وبهذا يتبين أن السكوت -أحياناً- من صور الجواب الحكيم، فالموفق -في الفتن- يحسن الظن بالعلماء، ويعتبرهم من وسائل حفظ الشريعة، وهو لا يسأل عن مشروعيّة سكوتهم؛ بل يسألُ: لماذا سكتوا؟ ففرق بين السؤال عن مشروعيّة الفعل، وبين السؤال عن حكمة الفعل....

    والحمد لله ربِّ العالمين.

    بقلم الشيخ أبي عبدالله فتحي بن محمد سلطان، نقلا من مجلة الأصالة العدد الأخير.

    --------------------------------------------

    (1) رواه مسلم.

    (2) أي: العقول المحكومة بالفطرة الصحيحة والشرعة المنزّلة.

    (3) ((الموافقات)) (5/172)، تحقيق أخينا الشيخ مشهور حسن.

    (4) ((المجموع)) (20/58-59).

    (5) الفتن: ما يقع بين المسلمين من حروب واشتباه، أما الملاحم: فهي الحروب التي تقع بين المسلمين والكفار.

    (6) فاللغة السائدة في الفتنة هي لغة الجهل والظلم، لا لغة العلم والعدل.

    (7) ((منهاج السنّة)) (4/343).

    (8) ((المجموع)) (25/304) فتأمل كلامه يا رعاك الله.

    (9) رواه الترمذي (3058) وأبو داود (4341)، وابن ماجه (4014)، عن أبي ثعلبة الخُشني.

    (10) ((المجموع)) (28/130).

    (11) ((المجموع)) (6/59-60).

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    3,205

    افتراضي رد: سكوتَ العالِم على وقوع مُنكر

    [السُّؤَالُ]
    ـ[بسم الله الرحمن الرحيم.
    سؤالي عن مسئولية العا لم في إنكار المنكر.
    هل يجوز للعا لم أن يسكت عن هذه الأمور التي يراها تحدث في بلده مخافة من السلطان مثلا؟
    هل يجوز للعالم أن يدافع عن حاكم بلده حتى لوكان علي باطل؟
    لماذ يختلف العلماء في أمور لم يختلف فيها من قبل مثل توارث الحكم والسلطان وهل يجوز ذلك
    وماحكم الشريعة الإسلامية في ذلك؟
    وجذاكم الله خيرا عني والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.]ـ


    [الفَتْوَى]
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:


    فلا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين العظيمة، وأعماله الظاهرة التي امتاز بها عن سائر الأديان، وله ضوابطه وشرائطه التي لابد من تحققها عند القيام بالأمر والنهي، كما أن المنكرات تختلف فمنها: الكفر البواح، ومنها: الظلم، والفسق، وكبائر الذنوب ... إلخ.
    وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بأنهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقال: (وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71] .
    كما أمر الله تعالى المؤمنين بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104] .
    قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
    قال الضحاك: هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة يعني: المجاهدين والعلماء ... والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الأيمان حبة خردل".
    وقد روى الإمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم".
    ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ويتعين في بعض الأحوال بحسب القدرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، ومما قاله في ذلك: وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه" مجموع الفتاوى (28/126) .
    وبعد هذه المقدمة نقول: لا يجوز للعالم أن يدافع عن أحد، حاكم بلده ولا غيره إن كان على الباطل، بل الواجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحق حسب الاستطاعة، فينكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، كما في الحديث المتقدم.
    وإذا سكت العالم على الأمور المنكرة التي لا يسع السكوت عنها، ولم ينكرها ينظر في السبب الذي حمله على السكوت، هل هو الخوف على نفسه من أذى يلحقه لا يحتمله من قتل أو تعذيب؟ أم الخوف على رزقه؟ أم الخوف على انقطاع الأعطيات التي يحصل عليها من الحاكم؟ أم هو الاستسلام للأمر الواقع واليأس من عدم التغيير؟ أو الرغبة في موافقة السلطان وعدم مخالفته؟ أو غير ذلك؟
    ولا يخفى أن كل صورة من هذه الصور لها حكمها المستقل، ولا يعذر في هذه الصور إلا من يخاف على نفسه القتل، أو الأذى غير المحتمل، فيجوز له السكوت، واتباع الرخصة مع الإنكار التام بالقلب، وإن أخذ نفسه بالعزيمة فحسن، لقوله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" رواه الحاكم وصححه.
    وتعقبه الذهبي بأن حميد الصفار لا يدري من هو، لكن حسنه الألباني في صحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة.
    أما الاختلاف بين العلماء في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلطان، أو الحاكم فهي قديمة ولا زالت، وكل جيل ينظر في الخلاف المعاصر له، فيظن أنه لم يسبق له نظير، ومن تأمل التاريخ وجد الأمر على ما ذكرنا.
    وما اختلاف العلماء حول مشروعية تولي الحكم عن طريق الوراثة والملك، وهل يشترط فيمن يتولاها أن ينتخب من الشعب؟ وهل يشترط أن يكون قرشياً؟ وهل تقبل إمامته إذا وصل إليها عن طريق الملك والوراثة، وغيرها من مسائل الإمامة إلا أمثلة لما ذكرنا، ومحل هذه المسائل وتفصيلها كتب السياسة الشرعية، ويمكنك الرجوع إلى ما كتب في هذا الباب، مثل كتاب: الأحكام السلطانية للماوردي، وغياث الأمم في التياث الظلم للجويني، كما يمكنك مراجعة الفتاوى المحررة في موقعنا مركز الفتوى تحت باب: السياسة، والسياسة الشرعية.
    والله أعلم.


    [تَارِيخُ الْفَتْوَى]
    08 جمادي الأولى 1422
    فتاوى الشبكة الإسلامية

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •