الإمام السيوطي رحمه الله، في محل إجلال بين العلماء. و لا شك أن عمله ساهم في إغناء التراث الإسلامي. ولكنه ألف
كتاب "تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك" بوجدانه فابتعد به عن المنهج العلمي. و سبب ذلك أنه من الذين يظنون (ادعوا) أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة. و ذكر ابن عماد في شذرات الذهب أن الشيخ عبد القادر الشاذلي سأل السيوطي "قلت له كم رأيت النبي يقظة فقال بضعا وسبعين مرة" [1].
والقارئ دون أن يكون عالما أو متخصصا، حق له أن يتساءل هل كل هاته الحجج التي ساقها صحيحة أم لا؛ لأن أكثرها بدون سند أو سند منقطع، بل هي من الأخبار و حكايات كرامة الأولياء التي تناقلها الناس فيما بينهم. إذ يستشهد بها بدون مصداقية، كما هي، على هذا النحو فيقول: روي عن بعض السلف...، قال رجل...
أما حديث الرؤية في اليقظة الذي يستشهد به، والذي هو العماد الأساسي في هاته المسألة، لم يوفيه حقه في العرض. و ذلك لأنه اعتمد نص رواية واحدة لهذا الحديث فقال:
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
« من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي » وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ، ومن حديث أبي بكرة ، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة الأنصاري
و عرضه بهذا النحو يوهم القارئ أن هذا الحديث ليس إلا بهذا النص، و يوهم القارئ كذلك أن هاته الرواية عند مسلم و أبو داود. الحديث له روايات أخرى صحيحة، و لم يخرج مسلم و لا أبو داود هاته الرواية. بل نص الحديث الذي أخرجه مسلم (رقم الحديث 4214) و أبو داود (رقم الحديث 4371) عن أبي هريرة - رضي الله عنه – هو كالتالي:
" مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"
و عند جمهور العلماء الحديث الأول الذي أخرجه البخاري، وقع فيه سقط للعبارة التي عند مسلم " أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ"
و هذا الذي أكده ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث (فتح الباري):

بَاب مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ
الحاشية رقم: 1
6592 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
"سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ

[ص:400] قَوْلُهُ : ( بَابُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ فِي الْمَنَامِ ) ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ :
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ . قَوْلُهُ : عَبْدُ اللَّهِ ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ) وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ .
قَوْلُهُ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِ يِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ" أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ " .
قَوْلُهُ :« مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ » زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ " أَوْ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ " هَكَذَا بِالشَّكِّ ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِ يِّ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ : " فَقَدْ رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ " بَدَلَ قَوْلِهِ : " فَسَيَرَانِي " ،
وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ . وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ : " فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ " ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ _ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ _ فَقَدْ رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ
وَ جُلُّ أَحَادِيثِ الْبَابِ كَالثَّالِثَةِ إِلَّا قَوْلَهُ : " فِي الْيَقَظَةِ " .
قَوْلُهُ : ( قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ) سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ لِلنَّسَفِيِّ وَلِأَبِي ذَرٍّ وَثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِمَا ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ - وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ - عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ : " كَانَ مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ - إِذَا قَصَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « صِفْ لِيَ الَّذِي رَأَيْتَهُ ، فَإِنْ وَصَفَ لَهُ صِفَةً لَا يَعْرِفُهَا قَالَ : لَمْ تَرَهُ » وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ .
وَوَجَدْتُ لَهُ مَا يُؤَيِّدُهُ : فَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ : " حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ قَالَ : صِفْهُ لِي ، قَالَ : ذَكَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَشَبَّهْتُهُ بِهِ ، قَالَ : قَدْ رَأَيْتُهُ " وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ
وَيُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي ، فَإِنِّي أُرَى فِي كُلِّ صُورَةٍ وَفِي سَنَدِهِ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِاخْتِلَاطِهِ ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ .

نستخلص من شرح ابن حجر و من جمهور العلماء الأمور التالية:
حديث أبو هريرة « من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي » هذا الحديث مبتور و لا يصح بهذا اللفظ بسبب العبارة التي أسقطت و لفظه الصحيح هو:
" مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"
وقع لأحد الرواة شك في راوية هذا الحديث :
" مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"
حديث رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام بألفاظه المختلفة و المتقاربة رواه 12 صحابيا، و أخرجه ثمانية من أئمة الحديث في 44 موضعا في الكتب المعتمدة. ومع كثرة هذه المواضع لم يرد في أي موضع لفظ « فسيراني في اليقظة» بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة. أما بقية الروايات فألفاظها: «فقد رآني» أو «فقد رأى الحق» أو
« فكأنما رآني في اليقظة» أو «فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة» بالشك
وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ «فكأنما رآني» أو «فقد رآني» لأن كلا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم وليس فيها شيء شك فيه الراوي.[2]
وعند الترجيح ينبغي تقديم رواية الجزم على رواية الشك
مسألة رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام : بعد موت الصحابة، يستوجب على من رآه ألا يجزم برؤيته، لأنه لا يعرف صورته الحقيقية في حياته
و أضيف : تصور صورته صلى الله عليه و سلم من أحاديث الصحابة (في الشمائل المحمدية مثلا)، لا يمكن أن تكون إلا تخيلا. و لو طلبنا من مجموعة من الناس درست أوصافه، أن يرسم كل واحد صورته صلى الله عليه و سلم على الورق، لرسموا حتما صورا مختلفة كلا حسب تخيله الذهني. و ذلك لأن الوصف الذي بالشمائل المحمدية لا يبين تقاسيم وجهه صلى الله عليه وسلم: كم عرض جبينه، نسبة اتساع عينيه، نسبة حجم أنفه، و كذا أذنيه، و ذقنه.....
أما رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته، فأمر مستحيل بإجماع العلماء. و لم تبقى حجة بعد بيان بطلان الحجة بالحديث الذي احتج به الإمام السيوطي. بل الحجج كثيرة على أن موته صلى الله عليه و سلم، كموت باقي البشر. انظر المشاركة تحت عنوان " الحجة على استحالة رؤية النبي يقظة "



[1] شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج8 ص54 (دار الكتب العلمية)

[2] الفوائد الملتقطة في الرد على من زعم رؤية النبي يقظة (جمع: أبي معاذ السلفي السني الحضرمي)