قال تعالى:" وما يستوي الأعمى والبصير"
تقوم اللغة على الاحتياج المعنوي والأهمية المعنوية ، والإنسان يتحدث بمستويات متعددة تحت رعاية الاحتياج المعنوي غالبا واللفظي نادرا مع علامات أمن اللبس ليكون بعيدا عن اللبس والتناقض وهو غاية كل لغة من لغات العالم ،كما هو الحال في قوله تعالى:"وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون"(غافر58)و ي هذه الآية الكريمة عدة أمور ،منها:
1-تقديم الأعمى على البصير تقديم بالأهمية المعنوية لأنه سبق ذكر الكفار المجادلين في آيات الله ،قال تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ*لَخَ ْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ". 2-الأصل في هذه الآية الكريمة هو: وما يستوي الأعمى والبصير ولا المسيء والذين آمنوا وعملوا الصالحات "أي:ولا يستوي المسيء مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات "ولكن عدل عن الأصل لعدة أسباب : الأول:تقديم الذين آمنوا بالفضل والشرف ،وهو من التقديم بالأهمية المعنوية. الثاني:لأن الفصل أولى من الفصلين فجمع بين البصير ومن يعمل الصالحات إلى جانب بعضهم بعضا . الثالث :قد يعني مجيء الأصل عطف المسيء على البصير وهذا ليس مقصودا ،فعدل عن الأصل لأمن اللبس. جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور: وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة ، والمشبه بالبصير أشرف من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون ، فقد ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهم في المقام بيان حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة .
وأما قولهوالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيءفإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماما بشرف المؤمنين،وأعيدت لا النافية بعد واو العطف على النفي ، وكان العطف مغنيا عنها فإعادتها لإفادتها تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإطناب ، ولذلك تعد " لا " في مثله زائدة كما في مغني اللبيب ، وكان الظاهر أن تقع "لا" قبل الذين آمنوا ، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصودعدم مساواة المسيء لمن عمل الصالحات، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مقتضي للعدول عنه بعد أن قضي حق الاهتمام بالذين سيق الكلام لأجل تمثيلهم ، فحصل في الكلام اهتمامان،وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل : اثنتين قدم فيهما جانب تشبيه الكافرين ، واثنتين قدم فيهما تشبيه جانب المؤمنين ، وذلك قوله تعالىوما يستوي الأعمى والبصيرولا الظلمات ولا النورولا الظل ولا الحروروما يستوي الأحياء ولا الأموات.