التغيّر الدّلاليّ في كتاب " الفائق في غريب الحديث للزمخشريّ " .

المطلبُ الأوّل : كتابُ الفائقِ .

قسّم الزمخشري غريبَه إلى كتب ، وجعل كلَّ كتابٍ خاصاً بحرفٍ من حروف العربيّة يضع فيه الألفاظ التي أوّلها ذلك الحرف . ثمّ رتّب هذه الألفاظَ في فصولٍ وفقاً للحرف الثاني. ولكنّه أهمل الحرف الثالث وما بعده، فلم يُراعِ ترتيبه. ونهج على أنْ يذكر في المادة الحديث الذي يحتوي عليها ، ثمّ يشرح المادة ، ويستشهد عليها بأحاديث أخرى ، وبقرآن وشعرٍ في بعض الأحيان ، ثمّ يشرح كلَّ ما في الحديث من غريب ، ويُطيلُ فيه ، سواءٌ تعلّق بالمادة أو لم يتعلّق . واستمرّ على هذه الطريقة في كتابه كلّه، فصار مجلّدين كبيرين، يحفلان بألفاظ الحديث[1] .

والفائقُ أغزرُ كتب الحديث مادةً لُغويّةً، حتى عصره ، ولذلك أُعجب به الباحثون، وقال عنه ابن الأثير : " وسمّاه ( الفائق ) ولقد صادف هذا الاسم مُسمّى ، وكشف من غريب الحديث كلّ مُعمّى " . ولكن تناوله كلّ ما في الحديث من غريبٍ في موضوعٍ واحد استطراداً ، كلّف الباحثين مؤونةً ومشقّةً[2] .

إذن ، يشقّ على الباحث عن الحديث أنْ يستخرجَ الحديث من الفائق ؛ لكثرة توسّع الزمخشريّ في المادة اللغويّة وشرح الحديث وتناول مفردات الغريب بتفصيلٍ دقيقٍ واسعٍ ، مستشهدا عليه شعراً وقرآناً.
أمّا مقدمة الفائق فقد كانت قصيرةً ، أراد منها الزمخشريّ توضيحَ بلاغة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، والاستفراد بهذا المصنّف الغريب مستعيناً بما كتب فيه مَنْ كان قبله. وكتابه يقترب بعض الشيء من معجمه المُسمّى " أساس البلاغة "، ولكنه لا يُدانيه ، إذْ يُبيّن فيه أوجه البلاغة ، ولا يعرض للمجاز وما إليه ، ممّا بنى عليه الأساس . ولعلّ سبب ذلك أنّه ألّف الأساسَ بعد الفائق[3] .

المطلب الثاني : التغيّر الدّلاليّ في كتاب الفائق (الجزء الأوّل) .

أرِبَ :

في حديث عمرَ رضي الله عنه: إنَّ الحارثَ بنَ أوسٍ سأَله عن المرأةِ تطوفُ بالبيتِ تنفِرُ من غير أنْ أَزِف[4] طواف الصَّدَر إذا كانت حائضاً . فأتاه أنْ يفعلَ ذلك ، فقال الحارثُ : كذلك أفتاني رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم . فقال عمرُ : أَرِبْتَ عَنْ ذي يَدَيْكَ .

ورُوِي : أَرِبْتَ من ذي يديك[5] ؛ وقد سمعتَه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كي أخالفه ؟ ومعناه مُنِعت عمّا يصحب يديك وهو مالُه .

ومعنى أَرِبْتَ من يديك : نشأَ بُخْلك من يديك ، والأصلُ فيما جاء في كلامهم من هذه الأدعية التي هي : قاتلك الله ، وأخزاك الله ، ولا دَرَّ درّك ، وتَرِبت يداك وأشباهها[6].

وهم يريدون المدحَ المفرطَ والتعجّبَ للإشعار بأنّ فعلَ الرّجلِ أو قوله بالغٌ من النّدرة والغرابة المبلغَ الذي لسامعه أنْ يحسده وينافسه حتى يدعوَ عليه تضجّراً أو تحسّراً ، ثمّ كثُر ذلك حتى استُعْمل في كلّ موضع استعجاب ؛ وما نحنُ فيه متمحّضٌ للتعجّب فقط .

ولتغيّر معنى قاتله الله عن أصلِ موضوعه غيّروا لَفْظه ، فقالوا : قاتَعه اللهُ وكاتعه[7]

يُقال أَرِبَتَ من يديكَ ، أي : سقطتْ آرابُكَ من اليدين خاصَّةً[8] .

وأرَبَ إليه يَأْربُ أَرَباً : احتاج . وفي حيدث عمر ، رضي الله عنه ، أنّه نَقِم على رجلٍ قولاً قاله ، فقال له : أَرِبْتَ عَنْ ذي يَدَيْكَ . معناه ذهب ما في يديك حتى تحتاج . وقال أبو عبيدة في قوله أَرِبْتَ عَنْ ذي يَدَيْكَ : أي سقطتْ آرابُكَ من اليدين خاصَّةً . وقيل : سقطتْ من يديكَ . قال ابنُ الأثير : وقد جاء في روايةٍ أخرى لهذا الحديث : خَرَرْتَ عن يديكَ ، وهي عبارة عن الخجل مشهورة ، كأنّه أراد أصابك خجلٌ أو ذمٌّ . ومعنى خَرَرْتَ سقطتَ . وقد أرِب الرّجل ، إذا احتاج إلى الشيء وطلبه ، يأرب أرَباً ، قال ابنُ مُقبل :

وإنّ فينا صَبوحاً ، إنْ أربْتَ به جمعاً بَهيّاً ، وآلافاً ثمانينا[9] .

جمع ألف أي ثمانين ألفاً. أربتَ به أي احتجتَ إليه وأردْته. وفي حديث عمرو بن العاص قال : " أربتُ بأبي هريرة " أي احتلتُ عليه ، وهو من الإرْب الدّهاء والنّكر ، والإرْب : العقل والدّين ، عن ثعلب . والأريبُ : العاقل . ورجلٌ أريبٌ من قومٍ أرباء . وأرِبَ بالشيء : ضَنَّ به وشحَّ . والتَّأْريبُ : الشُّحُّ والحِرْص[10] .

وعند تحليل ما حدث في الكلمة من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (أرب) تُمَثَّلُ كالآتي :
قبلَ التعميم: العقل والدّين والبُخْلُ ثمّ الدّعاء عند البخل .
بعدَ التعميم: الدّعاء في كلّ موضع استعجاب . مثل : ترِبَتْ يداك .
وبالتالي يُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .
ظهْرانيهم :

وفي الحديث : "... فأقاموا بين ظَهْرَانَي قومِهم فدعَوْهم إلى دينِ الله ودين عيسى ؛ فأَخذتهم الملوك فقتلتهم وقطعتْهم بالمنَاشِير..."[11] .
أقام فلان بين أظهر قومه وظهْرانيهم : أي أقام بينهم . وإقحام الأظْهُر : وهو جمع ظَهْر-على معنى أنَّ إقامته فيهم على الاسْتِظْهارِ بهم والاستنادِ إليهم . وأمّا ظَهْرَانيهم فقد زِيدت فيه الألف والنّون على ظَهْرٍ عندَ النِّسبة للتأكيد ، كقولهم : في الرّجل العَيُون نَفْساني وهو نسبةٌ إلى النَّفس بمعنى العَيْن ، والصّيدلاني والصيدنَاني منسوبان إلى الصيدل والصَّيْدَن ، وهما أصولُ الأشياءِ وجواهرُها . فألحقوا الألِفَ والنّونَ عند النِّسبة للمبالغة ، وكأنّ معنى التثنية أنّ ظَهْراً منهم قدّامه وآخر وراءه ، فهو مكنُوفٌ من جانبيه ، هذا أصله ، ثمّ كثُرَ حتى استُعْمِل في الإقامة بين القوم مطلقاً وإنْ لم يكن مكنوفاً [12].

الظهرُ : خلافُ البطن . وقولهم لا تجعل حاجتي بِظهر ، أي لا تنسها . والظهر الرِّكاب . ويُقال : هو نازلٌ بين ظهريهم وظهرانَيهم ، بفتح النّون ولا تقل : ظهرانِيهم بكسر النّون . قال الأحمر : قولهم لقيته بين الظهرانَيْن ، معناه في اليومين أو في الأيّام ، قال : وبين الظهريْن مثله حكاه أبو عبيد[13] .

وعند تحليل ما حدث فيها من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (ظهْرانيهم) تُمَثَّلُ كالآتي :
قبلَ التعميم: ظَهْرٌ منهم قدّامه وآخر وراءه ، فهو مكنُوفٌ من جانبيه ، هذا أصله.
بعدَ التعميم: الإقامة بين القوم مطلقاً وإنْ لم يكن مكنوفاً .
فصارَ كلُّ مَنْ يقطُنُ بين قومه يُقالُ عنه هو مُقيمٌ في ظهرانيهم ، سواءٌ أكانَ مكنوفاً أمْ غيرَ مكنُوفٍ. وبالتالي يُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

الأسفُ :

وفي الحديث :
النبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم- سُئل عن مَوتِ الفجَاءة . رَاحَةٌ للمُؤْمِن وأَخْذَةُ أَسَفٍ للكافر .
أي أخذةُ سُخْط ، من قوله تعالى : (فلمّا آسفونا انتقمنا منهم )[14]. وذلك لأنَّ الغضبان لا يخلو من حُزن ولهف، فقيل له أَسِف . ثمّ كثر حتى استعمل في موضع لا مجالَ للحزن فيه[15].

يقولُ صاحب الصّحاح: " الأسفُ : أشدُّ الحزن . وقد أَسِفَ على ما فاته وتأَسّف أي تلهّف.
وأَسِفَ عليه أَسَفَاً : أي غَضِب . وآسَفَهُ أغضَبَه.
والأسِيفُ والأَسُوفُ : السريعُ الحزن الرّقيقُ . وقد يكون الأسيفُ الغضبانَ مع الحزن[16]

تعمّمتْ منَ السّخط والتسخّط إلى سريع الحزن حتى صارتْ أكثر من ذلك في الوقت الحاضر إلى مَن يعتذر لأي خطأ بدر منه أو اعتذر عن موعدٍ ما ، أو تعبيرٌ عن الرّفض ، كأنّ يقولَ أحدُهم للآخر : احفظْ عشرةَ أبياتٍ للمتنبي. فيردُّ قائلاً : آسِفٌ ، أي أرفض هذا الطلب .

وعند تحليل ما حدث في الكلمة من تغيّر دلاليّ نجد (الأسفُ) تُمَثَّلُ كالآتي :
السُّخْط + الحزين + المُعتذِر + الرّفض .
وبعدَ التعميم : الاعتذار والرّفض . وبالتالي يُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

أظلَّ:

وفي تفريقه بيْنَ أَطَلَّ وأَظَلَّ يقول الزمخشري: "وأمّا أَظَلَّه فمعناه أَلْقَى عليه ظِلَّه ، يقال: أَظَلَّتهم السَّحَابَةُ والشَّجَرة. ثم اتُّسِع فيه فقيل: أَظَلَّه أَمْرٌ، وأَظَلَّنا شهرُ كَذَا، "[17]

إنّ استخدامَ الزمخشريّ للفظه: (اتُّسِع) هي بنفس مجال المعنى المطلوب من (حتى كثر استعماله) في تعميم الدّلالة أو تخصيصها.

فانتقلَ الظلُّ منَ السّحابة والشجرة إلى ظلّ الأمر والشهر وغيره ، ليكونَ أكثر عموماً.

الظلّ معروفٌ ، والجمع ظِلال . والظِلال أيضاً ما أظلّك من سحابٍ ونحوه . وظِلّ الليل سواده . يُقال : أتانا في ظلّ الليل . وأظلّ يومنا ، إذا كان ذا ظلٍّ . وأظلّتني الشجرة وغيرها وأظلّك فلانٌ إذا دنا منك كأنّه ألقى عليك ظلّه . ثمّ قيل : أظلّك أمرٌ وأظلّك شهرُ كذا ، أي دنا منك .واستظلّ بالشجرة : استذرى بها . وظللتُ أعمل كذا بالكسر ظُلُولا ، إذا عملته بالنّهار دون الليل ومنه قوله تعالى :
( فظلتم تفكّهون ) وهو من شواذ التخفيف[18] .

وعند تحليل ما حدث في الكلمة من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (أظلَّ) تُمَثَّلُ كالآتي :
الأصلُ ظِلُّ السّحابة والشجرة ثمّ انتقل إلى ظلّ الأمر وظلّ الشهر وغيره .
أي بعدَ التعميم : ظلُّ كلِّ شيءٍ حقيقيّ ومجازيّ . ويُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

الضَّالَّة :

النبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم- لا يأْوِي الضَّالَّة إلا ضَالٌّ[19] .

الضَّالَّة : صفةٌ في الأصل للبهيمة فغلبت . والمعنى مَنْ يضمُّها إلى نفسه متملكاً لها ولا ينشدُها فهو ضَالٌّ[20] .

يشيرُ الزمخشريُّ من خلال لفظه (فغلبت) ، إلى التغيّر الدّلاليّ لكلمة (الضَّالَّة) ، وكانَتْ في الأصل صفةً ، ثمّ خُصّصَتْ هذه الدّلالةُ من صفةٍ للبهيمةِ إلى الإنسانِ الذي ضاعتْ بهيمته .

ضلّ الشيء يَضِلّ ضلالاً ، أي ضاع وهلك . والاسم الضُلُّ بالضم . ومنه قولهم : هو ضُلُّ بن ضُلٍّ ، إذا كان لا يُعرَفُ ولا يُعرَفُ أبوه . وكذلك هو الضَلالُ بن التَلال والضَالَّة : ما ضَلّ من البهيمة للذكر والأنثى . ورجلٌ ضِلِّيلٌ ومُضَلّلٌ ، أي ضَالٌ جدّاً ، وهو الكثير التتبُّع للضلال . وكان يُقال لامرئ القيس : الملك الضِلّيل[21] .

وعند تحليل ما في الكلمة من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (الضَّالَّة) تُمَثَّلُ كالآتي :

قبلَ التعميم : صفةٌ للبهيمة .
تعمّمتْ اللفظة لتطلق على : الإنسانِ الذي ضاعتْ بهيمته ذكراً كانت أم أنثى . وعلى الرّجل غير المعروف وغير المعرف أبوه . ويُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

البخاع:

أتاكم أهلُ اليمنِ هم أَرَقُّ قُلُباً وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً وأَبْخَعُ طَاعَةً .
أي أبلغ طاعة . من بَخَع الذبيحة: إذا بالغ في ذَبْحِها ؛ وهو أن يَقْطَعَ عَظْمَ رَقبتها ويبلغ بالذبح البِخَاع ، والبِخَاع – بالباء : العِرْق الذي في الصُّلْب .
والنَّخْعُ دون ذلك ؛ وهو أن يبلغ بالذبح النُّخَاع ، وهو الخَيْط الأَبَيْض الذي يجري في الرَّقبة[22] .
يقول الزمخشري : هذا أصله ثمّ كثُر حتى استُعْمِل في كلِّ مبالغةٍ ، فقيل : بخعتُ له نُصْحي وجَهْدي وطاعتي. والفعل ههنا مجعولٌ لِلطَّاعة، كأنّها هي التي بخعت؛ أي بالغتْ ، وهذا من باب : نَهارُك صائم ، ونام ليلُ الهَوْجل .[23]
في الصِّحاح: يُقالُ : بَخَعَ نفسَهُ بَخْعَاً ، أي قتَلَهَا غَمَّاً[24] . قال ذو الرّمة :
أَلا أَيُّهَا البَاخِعُ الوَجْدِ نَفْسَهِ بِشيءٍ نَحَتْهُ عن يديه المَقَادِرُ[25] .
ومنه قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ) الكهف: 6. وبَخَعَ بالحقِّ بُخُوعاً : أقرَّ به وخضَع له. وكذلك بَخِعَ بالكسر بُخُوعاً وبَخَاعَةً[26] .
إذن تجاوزَ التغيّر دلاليّ الدّلاليُّ الكلماتِ حتى طال أساليبَ المُبالغة ، فالبَخْعُ العِرْقُ الذي في الصُّلْب، ثمّ أصبحَ يُتداولُ في المُبالغةِ في النُّصح والجهد والطاعة وغيرها.
وعند تحليل ما حدث فيها من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (البخاع) تُمَثَّلُ كالآتي :
العِرْقُ الذي في الصُّلْب + النُّصح والجهد والطاعة . وبعدَ التعميم أصبحتِ المُبالغةُ في النُّصح والجهد والطاعة . وبالتالي يُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه لرسول صلّى الله عليه وسلّم:

فقلت : خلِّني فانتخِبْ من أصحابك مائةَ رجلٍ فآخُذ على الكفّار بالعَشْوَة ؛ فلا يَبْقى منهم مخبر إلا قتلتُه[27] .

يقولُ الزمخشريّ :

العُشْوَة – بالحركات الثلاث : ظُلْمة الليل ، وقالوا في المثل : أوْطأتَه العَشْوة ؛ إذا سامه أمراً ملتبساً يَغْترُّه به ، لأنَّ مَنْ وَطِئَ الظلمة يَطَأُ مالا يُبْصره فربّما تردَّى في هُوَّةٍ أو وَضَعَ قدمَهُ على هامَّة ، ثمّ كثُرَ ذلك حتى استُعْمِلت العشوة في معنى الغِرّة ، فقيل : أخذتُ فلاناً على عَشْوَةٍ ، وسمتُه عشوة[28] .

وعند تحليل ما حدث فيها من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (العُشْوَة) تُمَثَّلُ كالآتي :

قبل التعميم: ظُلْمة الليل.
بعد التعميم: الغِرّة مُطلقاً.

وبالتالي يُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .
باردة:

الصَّوْمُ في الشِّتَاءِ الْغَنِيمةُ الْبارِدَةُ .

يقولُ الزمخشريُّ : والأصلُ في وقوع البَرْد عبارةٌ عن الطِّيب والهناءة أنَّ الهواء والماء لما كان طِيبهما ببردهما خصوصاً في بلادِ تِهامة والحجاز قيل: هواء بارد، وماء بارد، على سبيل الاستِطَابة ، ثمّ كثر حتى قيل: عَيْش بارد، وغنيمة باردة، وبرَدَ أمرنا[29] .

البرْد نقيض الحرّ ، والبرودة : نقيض الحرارة . وقد برُد الشيء بالضمّ . وبرَدته أنا فهو مَبْرودٌ . وبرّدته تبريداً . وابْتردتُ ، أي اغتسلتُ بالماء البارد ، وكذلك إذا شربته لتبْرُدَ به كبدك . وهذا الشيءُ مَبْردةٌ للبدن . قال الأصمعيّ : قلت لأعرابي: ما يحملكم على نومة الضُحَى ؟ قال : إنّها مَبْرَدةٌ في الصّيف ، مَسْخنةٌ في الشتاء. وبَرَدَ الرّجلُ عينه بالبَرُود : كحَلها به . والبَرْدُ : النّومُ[30] . ومنه قوله تعالى :
(لا يذوقون فيها بَرْدَاً ولا شراباً) .

وقولُ الزمخشريّ : ثمّ كثر حتى قيل " تشعرنا بأنّه يعني كثرة الاستعمال وأنّه أصابَ اللفظة تغيّر دلاليّ دلاليٌّ.
وعند تحليل ما حدث في الكلمة من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (باردة) تُمَثَّلُ كالآتي :

قبل التعميم: الطِّيب والهناءة.
بعد التعميم: عَيْش بارد ، وغنيمة باردة ، وبرَدَ أمرنا ، عينٌ باردة .
ويُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .
بريد:

كان يكتب إلى أمرائه : إذَا أَبْرَدْتُمْ إليَّ بَريداً فجْعَلُوه حسنَ الْوَجْهِ حَسَن الاسْمِ[31] .
أي إذا أرسلتم إليَّ رسولاً .
والبريد : في الأَصْل : البَغْل ، وهي كلمةٌ فارسيّةٌ أصلها بُرَيْدَه دُم : أي محذوف الذَّنَب ؛ لأنَّ بغالَ البريد كانت محذوفة الأذناب ، فعُرِّبت الكلمة وخُفِّفَت، ثمّ سُمِّي الرّسولُ الذي يركبه بَريداً، والمسافة التي بين السكتين[32] بريداً[33] .
البريدُ : المُرَتّب . يُقال : حُمِل فلانٌ على البريد . وقال امرؤ القيس :

على كلّ مَقْصوص الذُنابي مُعاودٍ بريد السُرى بالليل من خيْلٍ بَرْبَرا[34] .

والبريدُ أيضاً : اثنا عشر ميلاً . وصاحبُ البريد قدْ أبْرد إلى الأمير ، فهو مُبْرِدٌ ، والرّسول بَريدٌ[35] .

وعند تحليل ما حدث في الكلمة من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (بريد) تُمَثَّلُ كالآتي :
البغْل + الرّسول الذي يركبه + المسافة التي بين السكتين .
قبل التعميم: البغْل .
بعد التعميم: الرّسول الذي يركبه والمسافة التي بين السكتين . حتى صار في وقتنا الحاضر يُطلقُ على المبنى الذي تُرسل منه وإليه الرّسائل . ويُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

الحافر:

عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه- سألتُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عن التوبة النَّصُوح، فقال: هو النَّدم على الذنب حين يَفْرُطُ مِنْكَ، وتستغفر الله بندامتك عند الحَافر، ثمّ لا تعود إليه أبدا .

يقولُ الزمخشريّ : كانوا لكرامة الفَرَسِ عندهم ونَفَاستهم بها لا يبيعونها بالنَّسَاء[36] فقالوا: النَّقْدُ عند الحافِر ، وسيّروه مثلاً ، أي عند بيع الحافر في أوّل وَهْلَة العقد من غير تأخير ، والمراد بالحافر: ذات الحافر وهي الفرس .

ومَنْ قال: عند الحافرة فله وجهان : أحدهما أنّه لما جعل الحافر في معنى الدابة نفسها ، وكثر استعماله على ذلك من غير ذكْر الذات فقيل: اقتنى فلان الخفَّ والحافر ؛ أي ذواتهما ، ألحقت به علامة التأنيث إشعاراً بتسمية الذات بها .

والثاني أنْ يكون فاعله من الحَفْر؛ لأنَّ الفرسَ بشدَّةِ دَوْسِها تَحْفِر الأرض، كما سُمِّت فرساً لأنّها تَفْرِسها: أي تدقّها ؛ هذا أصل الكلمة ، ثم كَثُرت حتى استُعْمِلت في كلّ أوَّلية ؛ فقيل: رجع إلى حافره وحافِرته ، وفعل كذا عند الحافِر[37] والحافِرة. والمعنى تَنْجيز النَّدامة والاستغفار عند مواقعة الذنب من غير تأخير ؛ لأنَّ التأخيرَ من الإصرار[38] .

حفرتُ الأرض واحتفرتُها . والحُفرة : واحدة الحُفَرِ . واستحفرَ النّهر: حان له أنْ يُحفر . والحافِرُ : واحدة حوافر الدّابة. وقدْ استعاره الشاعرُ في القِدَم ، فقال :

فما برِحَ الوِلدان حتى رأيته على البَكْر يَمْريه بساقٍ وحافرِ[39] .

وقولهم في المثل : " النّقدُ عند الحافرة " . قال يعقوب : أي عند أوّل كلمةٍ . ويُقال: التقى القومُ فاقتتلوا عند الحافرة ، أي عند أوّل ما التقوا . وقوله تعالى :
( أئنّا لمردودون في الحافرة ) ، أي في أوّل أمرنا . وأنشد ابن الأعرابي :

أحافرةٌ على صَلَعٍ وشيبِ مَعاذ الله من سفهٍ وعار[40] .

يقول : أأرجع إلى ما كنتُ عليه في شبابي من الجهل والصّبا بعدَ أنْ شبتُ وصَلِعْت ويُقال : رجَعَ على حافرَتِهِ ، أي في الطريق الذي جاء منه ، والحفيرة القبرُ[41] .
وعند تحليل ما حدث فيها من تغيّر دلاليّ نجد أنّ كلمة (الحافر) تُمَثَّلُ كالآتي :

الدّابة + بيع الحافر في أوّل وَهْلَة العقد من غير تأخير + ذوات الخُفّ والحافر + حافرة من الحفر ( كحفرة القبر ) . وبعد كثرة الاستعمال تَنْجيز النَّدامة والاستغفار عند مواقعة الذنب من غير تأخير.
قبل التعميم: الدّابة ؛ لأنّها تحفر الأرضَ بشدّة.
بعد التعميم: تَنْجيز النَّدامة والاستغفار ؛ بعد الإصرار على مواقعة الذنب .حتى صارت الحافرةُ أوّلَ كلّ شيءٍ . وأصبح يُفسِّرها عامل تعميم الدّلالة .

[1] المعجم العربي نشأته وتغيّره ، حسين نصّار ، دار مصر للطباعة ، ط 4، ج1 ، ص : 49 - 50.

[2] المصدر السّابق .

[3] المصدر السّابق .

[4] أَزِف : اقترب.

[5] أي ذهب ما في يدك حتى تحتاج.

[6] الفائق في غريب الحديث للزمخشري ، ج1، ص : 34، مادة : (أَربَ).

[7] كاتعه وقاتَعه اللهُ : قاتله (القاموس).

[8] الصّحاح تاج اللغة وصحاح العربيّة ، الجوهريّ ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار ، دار العلم للملايين ، مادة (أَرِبَ).

[9] ديوان تميم بن أُبَيّ بن مقبل ص : 225 ، عني بتحقيقه عزة حسن ، دار الشرق العربي ، ط: 2 1416هـ-1995م ، حلب ، سوريا ، ومطلعها : طَافَ الخَيَالُ بِنَا رَكْبًا يَمانينَا ودُونَ ليْلَى عَوَادٍ لوْ تُعَدِّينَا

[10] لسان العرب ، مادة (أرب) .

[11] الفائق : ج1/40.

[12] المصدر السّابق : 41 .

[13] الصّحاح ، مادة : (ظهر).

[14] سورة الزخرف: 55.

[15] الفائق : ج1/42 مادة (أسف).

[16] الصّحاح ، مادة (أسف).

[17] الفائق : ج1/47 مادة (أطم-أطل).

[18] الصّحاح ، مادة (ظلّ).

[19] الفائق : ج1/64 مادة (أوى).

[20] المصدر السّابق: 65 .

[21] الصّحاح ، مادة (ضَلّ).

[22] الفائق : ج1/82 مادة (البخاع).

[23] الفائق : 83 ، والهَوْجل: الرّجل الأهوج.

[24] الصّحاح، باب العين، فصل الباء، مادة (بخع).

[25] ديوان ذي الرُّمّة، اعتنى به وشرح غريبه عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت ، لبنان، ط : 1 1427 هـ - 2006م ، ص : 120 .

[26] الصّحاح (بخع).

[27] الفائق : ج1/85 مادة (الإبداء).

[28] المصدر السّابق : 86.

[29] الفائق : ج1/91 مادة (باردة).

[30] الصّحاح ، مادة (بَرَدَ).

[31] الفائق : ج1/91 مادة (بريد).

[32] والسَّكَّة : الموضعُ الذي يسكُنُه الفُيُوج (الذي يحمل الأخبار من بلدٍ إلى بلد) المرتّبون من رِباط أو قُبَّةٍ أو بيتٍ أو نحو ذلك – وبُعْدُ ما بين السكتين فَرْسَخان ، وكان يُرَتّبُ في كُكِّ سكة بغال .

[33] الفائق : ج1/92 مادة (بريد).

[34] ديوان امرئ القيس ، ص : 56 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف . ومطلعها :
سما لكَ شوقٌ بعدما كان أقصرَ وحلتْ سليمي بطن قوٍّ فعرعرا

[35] الصّحاح ، مادة: (بَرَدَ).

[36] النَّساءُ : التأخير.

[37] الفائق : ج1/293 مادة (حفر).

[38] المصدر السّابق : 294.

[39] ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت ص :326 ، تحقيق نعمان محمد أمين طه، نشر دار الخانجي، القاهرة .

[40] لم أجدْ هذا البيت أو قائله ، وقد ورد كما هو في الصّحاح هكذا .

[41] الصّحاح ، مادة (بَرَدَ).