14-03-2014 | د. تامر بكر
إن العلمانية " بمعناها الشامل فلسفة تنطوي على (محاولة لإدراك معنى العالم المادي بوصفه معقولاً ..) وعلى إمكانية إدراكه، وبالتالي تغييره دون حاجة للقوى الفوقية والسماوية والدينية، وتتفق المذاهب العلمانية الكبرى في المعنى النظري للعلمنة (الذي يتضمن) تَمْدِين الدولة والمجتمع والمؤسسات والقوانين وسائر الشؤون العامة، وإبعادها عن أي مؤثرات دينية


تعددت الآراء حول مفهوم وفحوى العلمانية، " فدائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين: (إلحاد نظري، إلحاد عملي)، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي.
وما تقدم ذكره يعني أمرين:
أولهما: أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية، التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه.
ثانيهما: أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم، كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس، بأن المراد بالعلمانية: هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه بما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها .
ولهـذا، لو قيـل عن هذه الكلمة ( العلمانية ) إنها: (اللادينية، لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق)، وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس وأوضح في المدلول "([1])
إن العلمانية " بمعناها الشامل فلسفة تنطوي على (محاولة لإدراك معنى العالم المادي بوصفه معقولاً ..) وعلى إمكانية إدراكه، وبالتالي تغييره دون حاجة للقوى الفوقية والسماوية والدينية، وتتفق المذاهب العلمانية الكبرى في المعنى النظري للعلمنة (الذي يتضمن) تَمْدِين الدولة والمجتمع والمؤسسات والقوانين وسائر الشؤون العامة، وإبعادها عن أي مؤثرات دينية "([2])
فهي إذن في فحواها الأخير: الاقتصار على العقل البشري وخبراته في تصور حقائق الوجود وتصريف شئون الحياة، وهو الأمر الذي يعني التصادم الحتمي مع الإسلام، حيث إن مرجعيته هي النصوص المقدسة –القرآن والحديث-، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب 36)ويقول أيضا: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام 38).
ومنذ أن حاول الغرب الهجوم على الإسلام في جانبه السياسي مع أواخر الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، منذ ذلك الحين نشبت معركة فكرية كبرى([3]) محورها ومدارها إنكار دور الأمة الإسلامية مجتمعة في القيام بمهمتها في التمكين الكلي للمسلمين في الأرض بإمامة البشرية وأستاذية العالم وتقديم نموذج صحيح لما يجب أن تكون عليه الدولة امن دعمها للدعوة والحكم بشرع الله.
وقد استمرت تلك المعركة الفكرية منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا وإن تعددت وسائلها وصولاتها وجولاتها، وقد ازدادت حدة تلك المعركة ضراوة في زمننا المعاصر وخاصة مع تطوير الغرب لأدائه عن طريق مراكزه البحثية الداعمة لاتخاذ القرار، حيث قدمت تلك المراكز أباحثا متنوعة في محاولة منها توجيه المسلمين نحو ما يُسمى بـ (الإسلام الجديد)!، والذي هو بدوره عبارة عن امتداد محاولات التغريب الفكري للعالم الإسلامي عن طريق محاولة خلط الإسلام بالعلمانية، وهو ما يُطلق عليه (علمنة الإسلام)، والتي يحاول البعض في هذا العصر تيسير قبولها في العالم الإسلامي عن طريق التخفيف من العلمانية بادعاء أخذ بعضها وترك بعضها الآخر؛ فتقبل ما تُسمى (العلمانية الجزئية) لكي تكون سببا بدورها لتسهيل قبول بعض التأويلات في أمور من شريعتنا!
وللأسف فقد تسرب ذلك لبعض الإسلاميين الذين لا ينتمون لأي تجمع إسلامي وتسرب كذلك لبعض المنتمين للتجمعات الإسلامية، مما أدى إلى ظهور رؤى تنظيرية يُدّعى أنها متوافقة أو مُستمدة من الشريعة الإسلامية الصحيحة وتصورات سياسية لا يُرى فيها أي تعارض أو اختلاف مع النظام السياسي في الإسلام، وقد نتج عن ذلك محاولات لتطبيق تلك التنظيرات والتصورات واقعا على الأرض بوسائل تتماشى مع الأطروحات الجديدة، وذلك بالتستّر تحت اسم جديد (الليبرالية الإسلامية) لأن مجرد اسم (العلمانية) أصبح غير مقبول، فهو يحمل في ذاته – حتى لو خففنا منه بوصف (جزئية أو معتدلة) – يحمل معان مثل: اللادينية والدنيوية الوضعية.
ولقد استلزمت عملية التحول من الدعوة إلى نشر (العلمانية) في العالم الإسلامي إلى نشر (الليبرالية)، استلزمت قنطرة وصل بين الفكرتين، ولقد كان استخدام التفرقة بين نوعيّ العلمانية، وقبول البعض بوجود علمانية جزئية تقر بوجود الدين وتجعل له دورا ما في الحياة الفردية، كان ذلك القبول هو قنطرة الوصل بين العلمانية والليبرالية، حيث مهد ذلك نفسيا للقبول بفرع من فروع (العلمانية)، ألا وهي ( الليبرالية)، وخاصة إذا تم تطعيم تلك الليبرالية بمعان وقيم إسلامية من تلك التي توجد في المشترك القيمي العالمي بين الناس أجمعين، فيجرى مثلا التركيز من خلال المصطلح الذي تولد من خلط لفظي(الإسلام)، و(الليبرالية) يجري التركيز على قيمة عليا من قيم (الليبرالية) - كالحرية الفردية مثلا - يبدو عدم تعارضها مع الإسلام والتعامل معها باعتبارها القيمة الأولي بالرعاية!
إن ثمة حالة من اندماج الأضداد حدثت بين الليبرالية والإسلامية؛ وذلك على طريقة جدلية الفيلسوف الألماني جورج هيجل([4]) في تفسير الصراعات الفكرية عبر التاريخ بصراع الأضداد واندماجها؟ أي نشوء فكرة تحمل نقيضها بداخلها عبر فكرة تنفيها، لينتج بعدها فكرة ثالثة تنفي الثانية وتجمع النقيضين وتُآلف بينهما في فكرة جديدة؛ لتعاود السلسة كرتها في صيرورة حتى نهاية التاريخ!
ولقد استغل بعضهم ما قام به مفكر كبير، هو الدكتور عبد الوهاب المسيري، استغلوا تقسيمه للعلمانية(جزئية وشاملة) في الترويج لفكرة قبول بعض العلمانية وترك بعضها الآخر، ثم نسبوا ذلك للمسيري!
فهل كان تمييز المسيري بين نوعيّ العلمانية بغرض تمريره القبول بما تسمى بالعلمانية الجزئية المعتدلة؟
فلنعد لكلام المسيري، ونرى.
يقول المسيري: " توجد علمانيتان لا علمانية واحدة: الأولى جزئية: ونعني بها العلمانية باعتبارها فصلالدين عن الدولة وحسب. والثانية شاملة: ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية لا عن الدولة فحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، بحيث تنزع القداسة عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية، يمكن توظيفها لصالح الأقوى "([5])
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري أيضا -في دراسته تلك- عن الكاتب الصحفي الأستاذ فهمي هويدي: " ويُميّز فهمي هويدي([6]) بين تيارين علمانيين يسميهما المتطرفين والمعتدلين (وهما يقابلان إلى حد ما العلمانيين الشاملين والجزئيين في مصطلحنا) ويعرف المتطرفين بأنهم ليسوا ضد الشريعة وحسب، بل ضد العقيدة أيضا، ولذا فهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب حلها بالانتهاء منها وتجفيف ينابيعها لاستئصالها. أما المعتدلون فليست لديهم مشكلة مع العقيدة، فهم يعتبرون أن الدين والإسلاميين حالة يمكن التعايش معها، إذا ما أقيم حاجز بين الدين والسياسة للحيلولة دون ما يتصورونه سلطة دينية "([7])
والحقيقة أن من يقرأ كل كلام الدكتور المسيري في دراسته سيدرك أن الرجل لا يرى إمكانية الفصل بين نوعيّ العلمانية من الناحية العملية؛ فهو يراهما متداخلان أو مرحلتان متتاليتان، ولما لا ؟، وقد ذكر في كتابه صراحة أن العلمانية الجزئية هي مرحلة تاريخية في تاريخ العلمانية الشاملة، بل لم يرَ الفصل بين العلمانيتيْن المتداخلتيْن إلا من حيث التنظير لتسهيل بحثه لكلتيْهما .
يقول الدكتور المسيري: " ولكن رغم تداخل المصطلحين فهما – كما أسلفنا – طرفان في متصل واحد أو دائرتان تحتوي الواحدة الأخرى، لذا فإننا سنحاول أن نتناول كلا على حدة، كما لو كانا مستقلين استقلالا كاملا الواحد عن الآخر، وهذا تكتيك بحثي مقبول بسبب ارتفاع مقدرته التفسيرية "([8])
ثم يقول أيضا: " والفرق بين ما نسميه العلمانية الجزئية وما نسميه العلمانية الشاملة هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنموذج واحد، فالعلمانية ليست مجرد تعريف ثابت، وإنما ظاهرة لها تاريخ، وتظهر من خلال حلقات متتابعة "([9])
ولذلك فلا عجب أن يذكر المسيري أن العلمانية الجزئية عادة ما تتحول لعلمانية شاملة عبر متتالية تاريخية متعددة الحلقات، فيقول: " وعادة ما يتم الانتقال من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة من خلال عمليات تاريخية طويلة مركبة، تأخذ شكل متتالية تاريخية متعددة الحلقات، بعضها واضح ومحدد والبعض الآخر يصعب إدراكه وتحديده "([10])
هذا وقد تعرض تقسيم الدكتور المسيري للعلمانية – في كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة- للنقد من المُفكّر الأستاذ محمد إبراهيم مبروك([11]) إلا أن هذا النقد لم يمنعه من التماس العذر للمسيري؛ فقال مبروك: " أحب أن أوجه الانتباه إلى الظروف العالمية التي صدر الكتاب في أثناءها وخطورة قضية تحديد الموقف من العلمانية والتي تمثل من وجهة نظرنا الحد الحاسم بين إما (معنا) أو (ضدنا) والتي باتت سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع "([12])، وقال مبروك أيضا: " أغلب الخطوط العامة لهذه الدراسة قد تم ذكرها في محاضرة في صالون الدكتور المسيري نفسه، ولم يُبْدِ الدكتور نفسه استياءه مما جاء فيها من نقد، وإن كان قد قام بالنقد للنقد الذي تم " ([13]).
بل أنصف مبروك المسيري حينما قال: " يرتبط كاتب هذه السطور بعلاقة صداقة حميمة مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، ويدين له بالفضل في الكثير من المواقف، ويرى أن الناس سيحتاجون إلى قدر من السنين ليدركوا مدى الأهمية البالغة لأعماله العلمية والفكرية، ومدى ما أنعم الله عليهم بوجود هذا المفكر بينهم، بما يحمله من طاقة فكرية، لها قدرة كبيرة على تقويض الكثير من الأسس الفلسفية للحضارة الغربية الراهنة، وليعيد قدراً من التوازن بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، بعد غياب طويل انقطع فيه الفكر الإسلامي عن مواصلة السجال والصراع مع ذلك الفكر، الذي كانت له الغلبة والصولة، والمبادرة على امتداد قرون طويلة" ([14])
إن من أهم الانتقادات المُوَجَّهَة للدكتور المسيري من الأستاذ مبروك قوله: " أما هفوة المسيري شديدة الوضوح فهي المقولة التي عمل على إيهام القارئ أنه يرتضيها (وإن كان هو لا يرتضيها حتما إذا تمت مراجعة كلامه مراجعة حرفية، خصوصا لو تم هذا في ظل ما يدلي به من أقوال في الندوات)، وهي المقولة التي مفادها أن لا تعارض بين الإسلام والعلمانية الجزئية.
لأنه حتى لو كانت العلمانية الجزئية هي فصل الدين عن الدولة فهي تعني العمل على الانتقاص من شمولية الدين وتهدف إلى تبعيضه، وهو الأمر الذي يتناقض مع قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُون بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(البقرة85).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } (النساء 150، 151).
ولعل ذلك هو ما دعا الدكتور محمد البهي(وهو المفكر الإسلامي النابغ الذي جمع بين دراسته الأزهرية للدين ودراسته الألمانية للفلسفة) إلى أن يعنون كتابه عن العلمانية بالتالي: (العلمانية وتطبيقاتها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر).
ويبلغ السيل الزبى عندما يطبق المسيري ذلك على قول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)([15])؛ حيث يقول وهو يورده في إطار إقراره للفصل النسبي بين الدولة والدين: ( ففي القطاع الزراعي بإمكان المرء أن يُؤبِّر النخل أولا، حسب مقدار معرفته للملابسات، متحررا في بعض جوانبه من المنطلقات الأخلاقية).([16])
وما بين القوسين للمسيري ليس به شيء إذا أُخِذَ حرفيا، لكن المشكلة في الإيهام أن ذلك يعني إمكانية الفصل بين الدين والدولة في الإسلام اعتمادا على هذا الحديث؛ لأن الحديث يتناول الجوانب العلمية التطبيقية من الحياة، وهي أمور عامة مجردة وموقف الإسلام(وليس كل الأديان) من هذه الأمور شهير جدا، ومفاده عدم التدخل والاعتماد على الخبرة، ولكن لا ينطبق ذلك على جانب من الجوانب السلوكية للحياة التي تنظمها الدولة، وهذا ما يوهم به كلام المسيري " انتهى كلامه([17]).
وللأسف فقد انتقلت الفكرة التي أوهم بها كلام المسيري، انتقلت لبعض المتواصلين معه في صالونه الثقافي وكذلك بعض تلاميذه وتلميذاته من المقلدين أو السطحيين بصورة سيئة جدا، ابتعدت تماما عن حقيقة ما قاله الدكتور المسيري في طرحه لفكرته، فأخذت الفكرة صورا أخرى وتضمنت مفاهيم جديدة غير الصورة والمفاهيم التي ضمنها الدكتور المسيري فكرته، حيث اعتبر بعضهم أن تلك العلمانية الجزئية قد تكون ضرورة من ضرورات العصر الحالي!
وأعتقد بما بينته آنفا من حقيقة موقف الدكتور المسيري من فكرة(وجود ما يُسمى بالعلمانية الجزئية المعتدلة والمقبولة)، أكون قد أغلقتُ الباب على بعض المعاصرين من المفكرين والسياسيين والكُتّاب، في الاحتجاج بقامة علمية كبيرة لتمرير وتسهيل قبول العلمانية!
هذا وقد انتُقِدَت أيضا فكرة العلمانية الجزئية(المعتدل !) من علماء مسلمين ومفكرين غير مسلمين أيضا، : " والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو (فصل الدين عن الدولة) وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة، ولو قيل: إنها فصل الدين عن الحياة لكان أصوب، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية إقامة الحياة على غير الدين، سواء بالنسبة للأمة أو للفرد، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود، فبعضها تسمح به، كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية، وتسمي منهجها (العلمانية المعتدلة -Non Religious) أي: أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين وذلك مقابل ما يسمى (العلمانية المتطرفة-antireligious)، أي: المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها، وبديهي أنه بالنسبة للإسلام لا فرق بين المسميين، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما " ([18]).
وقد كتب المفكر القبطي الدكتور رفيق حبيب قائلا: " المتابع للتجربة الأوربية والأمريكية، يكتشف أن العلمانية المعتدلة لم تؤد إلى الحفاظ على دور الدين في الحياة الخاصة، بل تسربت العلمانية إلى الحياة الخاصة، وتراجع دور المسيحية في معظم أنحاء أوروبا، لذلك قامت حركات مسيحية، خاصة في أمريكا، تحارب العلمانية حفاظا على المسيحية. لهذا نقول إن العلمانية تبدأ معتدلة وتنتهي متطرفة، وتبدأ غير معادية للدين ولكن تحصره في المجال الخاص فقط، وتمنعه من التأثير على المجال العام، وتنتهي بمعاداة الدين؛ لأن تعمق التدين في الحياة الخاصة للأفراد يؤثر على المجال العام بصورة أو أخرى، كما أن العلمنة المادية الشديدة للحياة العامة تتعارض مع الدين، وبالتالي تؤثر سلبا على التدين الشخصي حتى تقضي عليه "([19])
وعلى أية حال، فلأن السوء دركات، ومع تأكيدي على رفض اعتبار ما تسمى بالعلمانية الجزئية شيئا مقبولا ومعتدلا قد يصلح تطبيقه!؛ فإنني أقول: أنه يمكننا – في الجانب النظري فقط- التعامل مع هذا التقسيم للعلمانية، كوسيلة بحثية مقبولة بسبب ارتفاع قدرتها التفسيرية، أما في الجانب العملي فإن أي قدر من قبول العلمانية هو بلاء في حد ذاته؛ لأن الإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما؛ فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين، وحصر الدين في الحياة الخاصة للأفراد انتقاص من شمولية الدين وتبعيضه، وهو ما سيؤثر على المجال العام بصورة أو أخرى، كما سيؤثر سلبا على التدين الشخصي حتى يقضي عليه!، وذلك يعني أن القبول بالعلمانية الجزئية سيؤدي في النهاية إلى القبول بالعلمانية الشاملة!



([1]) محمد شاكر الشريف (العلمانية وثمارها الخبيثة) دار الوطن، الرياض، ط1/ 1411هـ (ص 3، 4)
[2])) محمد كامل ضاهر (الصراع بين التيارين الديني والعلماني) دار البيروني ،ط1/ 1994م، ص 114
([3])تزعّم تلك المعركة في هذا الوقت المبكر الشيخ عليّ عبد الرازق، أحد علماء الأزهر الشريف، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة، حيث كتب في ذلك الوقت كتاباً باسم (الإسلام وأصول الحكم)، - طبع عام (1344هـ/1925م) - أنكر فيه أن تكون هناك علاقة بين الإسلام والسياسة أو الحكم، ورأى أن الدين مسألة روحية فقط، وهو علاقة بين الإنسان وربِّه ولا يتعدى هذا الإطار!
وعلى إثر ذلك انتفض العالم الإسلامي، وقام علماؤه يردُّون عليه ويبينون زيف رأيه وضلاله .
[4])) يعتبر (هيجل) أحد أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.
([5])د/ عبد الوهاب المسيري (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، دار الشروق، ط1/ 2002م، ( ج‏1/ ص‏16)
وقد سمى (أحمد كورو) الباحث في معهد بروكنجز، نوعيّ العلمانية باسم العلمانية السلبية والعلمانية الإقصائية، انظر تقريره(سياسة ذات مرجعية دينية بدون دولة إسلامية) فبراير 2013م، على رابط موقع معهد بروكنجز:
http://www.brookings.edu/~/media/res...uru_arabic.pdf
[6])) يُعتبر الأستاذ هويدي من الداعين لما يسمى بـ(الإسلام الليبرالي)؛ حيث نادى في إحدى مقالاته بأنّ: " إطلاق عبارة الإسلام السياسي على الجماعات والأحزاب التي تنطلق من المرجعية الإسلامية، ينبغي أن يتغير لكي نتحدث عن الإسلام الليبرالي ". [فهمي هويدي، مقال (عن الإسلام الليبرالي)، جريدة الشروق، بتاريخ 17/12/ 2011م]
وانظر الرد على أفكار الليبرالية الإسلامية، في كتابي(قصة الإسلام الليبرالي)، المركز العربي للدراسات الإنسانية، ط1/ 2013م.
([7]) (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، (ج1/ ص 122)
([8])المرجع السابق(ج1 / ص 219، 220)
([9])المرجع السابق(ج1/ ص222 )
([10]) (الجماعات الوظيفية اليهودية، نموذج تفسيري جديد)، دار الشروق، ط3/ أبريل 2007م (ص 58)
([11]) محمد إبراهيم مبروك (الإسلام الليبرالي بين الوسطيين والعلمانيين) مركز الحضارة العربية، بالجيزة، ط1/ 2012م (ص118: 130)
[12])) محمد إبراهيم مبروك، مقال (نقد مفهوم العلمانية الجزئية والشاملة، عند الدكتور عبد الوهاب المسيري) مجلة البيان، العدد (238) .
[13])) المرجع السابق.
الحقيقة أنه من الطبيعي جدا أن يتأثر الإنسان بما نشأ عليه وعاش فيه سنوات من عمره، ولذلك فلا عجب أن نجد عند الدكتور المسيري -رحمه الله- أشياء يُختلف معه فيها بقوة فهي من بقايا تأثيرات بداية حياته التي عاش فيها بعيدا عن الإسلام وقريبا من الإلحاد – كما سمعته يذكر ذلك عن نفسه في إحدى الفضائيات -، ولا يمنعنا احتفاؤنا به بعد أن عاد إلى محضن الإسلام مدافعا عنه ومنظرا له، لا يمنعنا ذلك أن ننتقده ونخالفه بل ونستدرك عليه، علما أنه بالجملة لم ينل من احتفاء الإسلاميين به في الدنيا ما كان يمكن أن يناله - من العلمانيين - مفكر بحجمه لو ظل على حاله الأول، وأدعو الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناته .
يقول الأستاذ محمد إبراهيم مبروك في كتابه (الإسلام الليبرالي) - مرجع سابق (ص124)-: " أستطيع القول إن العذر العام الذي يظلل مواقف الدكتور المسيري إن الرجل حديث الانتقال في نقده للحضارة الغربية من المنظور اليساري للمنظور الإسلامي، أو بشكل أكثر دقة إلى منظور فلسفي يبدو عاما ولكنه يستبطن رؤية إسلامية، ومن ثم فإن تراكمه المعرفي يتشكل أساسا من التراكم المعرفي الغربي نفسه؛ ولهذا فإن منظوره الإسلامي لا يقوم إلا على بعض القواعد العامة وربما غير المحددة، ويفتقد التراكم المعرفي الإسلامي لدرجة محزنة؛ خصوصا إذا تعلق الأمر في الكثير من الحالات بغياب الرؤية الإسلامية المحددة، أو ضبابيتها في مواجهاته الفكرية مع هذه الحضارة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من المشكلات، حتى مع إقرارنا باشتراك المنظور الإسلامي والاشتراكي في بعض المواقف الناقدة للحضارة الغربية " .
[14])) مقال (نقد مفهوم العلمانية الجزئية والشاملة)، مرجع سابق.
([15]) روى الإمام مسلم في صحيحه(6271) بسنده عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ « لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ». قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ « مَا لِنَخْلِكُمْ ». قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ».
([16])يقول الدكتور محمود بن محمد مزروعة)- شبهات القرآنيين حول السنة النبوية) مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1421هـ، (ص466)-: " مسألة تأبير – تلقيح – النخل، هي مسألة ترجع إلى التجربة والخبرة، ولا علاقة لها بالوحي من قريب أو من بعيد. ومن المعلوم أن الأمور التي تقوم عليها معايش الناس وحياتهم العادية لا صلة لها بالوحي إلا فيما يتصل بها من حِلّ وحُرْمَة وإباحة.
أما كيفية مزاولتها والقيام بها، فذلك متروك للخبرة والتجربة يزاولونها حسب ما ألفوا وتعودوا .. ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم تكن له سابقة خبرة بتأبير النخل، ولما رآهم يفعلون ذلك قال لهم: (لو تركتموه لصلح) إما على هيئة الاستفهام، و إما على الاقتراح المبني على عدم التجربة. ولم يكن لذلك صلة بالتشريع لا أمرا ولا نهيا.
ولذلك لما تركوا تأبير النخل ولم يصلح، وحدثوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، قال لهم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) " .
([17]) محمد إبراهيم مبروك (الإسلام الليبرالي) مرجع سابق، (ص122، 123) .
([18]) (العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة) دار الهجرة بالرياض، بدون رقم الطبعة ، بدون سنة الطبع (ص23، 24)
([19]) رفيق حبيب، صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، بتاريخ 14/12/ 2011م، على الرابط التالي:
http://www.facebook.com/rafik.habib.54?fref=ts