التَّأْوِيلُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ؛ آلَ إِلَى الشَّيْءِ أَوْلًا وَمَآلًا: رَجَعَ، وَأَوَّلَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ رَجَّعَهُ، وَأُلْتُ عَنِ الشَّيْءِ ارْتَدَدْتُ([1]).
وَالتَّأْوِيلُ يَأْتِي عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ فِي الشَّرْعِ وَاصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ: وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ([2])».
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: ((التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، هَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ؛ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ([3])))ا ه.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: ((وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، فَمُرَادُهُمْ بِهِ مَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا؛ يُرِيدُ تَفْسِيرَهُ([4])))ا ه.
الْمَعْنَى الثَّانِي: الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ: فَإِنْ كَانَ خَبَرًا، فَتَأْوِيلُهُ وُقُوعُهُ، وَتَصْدِيقُ الْمُكَلَّفِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا، فَتَأْوِيلُهُ تَنْفِيذُهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: ((لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ نَوْعَيْنِ: خَبَرٌ وَطَلَبٌ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ تَصْدِيقُهُ، وَمِنَ الطَّلَبِ امْتِثَالُهُ، كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ هُوَ تَصْدِيقُ مُخْبَرِهِ، وَمِنْ تَأْوِيلِ الطَّلَبِ هُوَ امْتِثَالُهُ([5])))ا ه.
فَمِثَالُ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100]؛ أَيْ: وُقُوعُ رُؤْيَايَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]؛ يَعْنِي: هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا وُقُوعَ مَا وُعِدُوا بِهِ.
وَقَوُلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39].
قَالَ الْبَغَوِيُّ رحمه الله: (({وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ: عَاقِبَةُ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، أَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ([6])))ا ه.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رحمه الله: (({وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؛ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بَعْدُ حَقِيقَةُ مَا وُعِدُوا فِي الْكِتَابِ([7])))ا ه.
وَمِثَالُ تَأْوِيلِ الْأَمْرِ:
مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ([8]).
تَعْنِي رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ يُنَفِّذُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3].
الْمَعْنَى الثَّالِثُ – وَهُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُو نَ -: هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ: وَهَذَا الصَّرْفُ عَنِ الظَّاهِرِ، أَوْ عَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، إِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ مَقْبُولٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ مَرْدُودٌ؛ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْأَهْوَاءِ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْرِيفٌ وَلَيْسَ تَأْوِيلًا.
وَهَذَا النَّوْعُ – وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ – هُوَ الَّذِي عَنَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله بِقَوْلِهِ: ((وَلَا أَتَأَوَّلُ)).
فَمِنْ أَمْثِلَةِ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، النِّسْيانَ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ([9]).
وَهَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ بِدَلِيلٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وَمِنْ أَمْثِلَةِ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ: تَأْوِيلُ الْأَشَاعِرَةِ صِفَةَ الْيَدِينِ بِأَنَّهَا النِّعْمَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ، وَتَأْوِيلُهُمُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاء ِ، وَتَأْوِيلُهُمُ النُّزُولَ بِمَعْنَى نُزُولِ الرَّحْمَةِ أَوِ النِّعْمَةِ، أَوْ نُزُولِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ؛ ((لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إِخْبَارٌ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، لَا إِنْشَاءٌ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فَهْمَ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَعْنَى اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ إِخْبَارًا بِالَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَبَرُ مُطَابِقًا كَانَ كَذِبًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ([10]))).
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ رحمه الله: ((وَالتَّأْوِيلُ نَقْلُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ وَعَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي اللَّغَةِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ؛ فَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ قَدْ صَحَّ بِبُرْهَانٍ، فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ اطُّرِحَ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَحُكِمَ لِذَلِكَ النَّقْلِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ([11])))ا ه.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: ((وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى صَرِفِ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ؛ كَتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ: اسْتَوَى، بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، وَنَحْوِهِ؛ فَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَاطِلُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ.
فَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، بَلْ يُقَالُ فَيهِ: {قَلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]؛ كَتَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَرَامِطَة ِ الْبَّاطِنِيَّة ِ؛ كَتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ: بِمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِمْ، وَالصِّيَامَ، بِكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ، وَالْحَجَّ: بِزِيَارَةِ شُيُوخِهِمْ، وَالْإِمَامَ الْمُبِينَ: بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَئِمَّةَ الْكُفْرِ: بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ: بِبَنِي أُمَيَّةِ، وَاللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ: بِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَالتِّينَ وَالزَّيْتُونَ وَطُورَ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدَ الْأَمِينَ: بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَالْبَقَرَةَ: بِعَائِشَةَ، وَفِرْعَوُنَ: بِالْقَلْبِ، وَالنَّجْمَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ: بِالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيفِ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تُجْعَلُ حَقًّا حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا، بَلْ هِيَ بَاطِلٌ.
وَأَصْلُ وُقُوعِ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّحْرِيفِ: الْإِعْرَاضُ عَنْ فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، وَمُعَارَضَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يُنَاقِضُهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَادَّةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ النِّفَاقِ وَالْخِدَاعِ([12])))ا ه.
[1])) ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (10/ 448).
[2])) صحيح: أخرجه البخاري (143) بدون لفظة: ((وعلمه التأويل))، وأحمد (2397)، والحاكم (6280)، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (2589).
[3])) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 55).
[4])) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (1/ 178).
[5])) ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) (1/ 206).
([6]) ((تفسير البغوي)) (1/ 134).
[7])) ((التفسير الوسيط)) (2/ 548).
[8])) متفق عليه: أخرجه البخاري (784)، ومسلم (484).
[9])) ((تفسير البغوي)) (1/ 135).
[10])) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 202).
[11])) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/ 42).
[12])) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 352، 353).