التصالح مع الكتابة

يجب أن تكون الكتابة قادرة على الإبلاغ، وتوصيل الأفكار والتصورات والمعلومات؛ ولم لا المشاعر؟

نعم الكتابة قادرة واللغة مسعفة وأساليب التعبير متعددة والمترادفات كثيرة واللغة غنية ...وما إلى ذلك، لكن رغم هذا الغنى فإن التواصل بالكتابة، وأقصد هنا الكتابة بالعربية؛ لا تؤدي الغرض، ولا تستوفي القصد؛ لا لذات اللغة؛ وإنما لغيرها، فتجد نفسك بحاجة إلى الكاتب؛ صاحب الكتاب؛ ليفك ألغازه ويكشف أسراره؛ أو على الأقل تجد نفسك لم تصل إلى فكرة أو موقف صاحب النص، على افتراض أن النص يحمل حقا فكرة وصاحبه موقفا!!

ليس يعني ذلك أنك ساذج أو قليل الفهم أو غير متخصص فيما تقرأ؛ بل يعني؛ بكل صدق أن الكاتب المؤلف الباحث لا يتقن التواصل كتابة.


نسجل هذا الأمر كذلك في الكتب المقررة للدراسة، في المدارس والكليات، وكأن المؤلفين والإدارة التربوية تقول للتلميذ أو الطالب:
" إنك بحاجة ماسة إلى الساحرِ المدرسِ الأستاذِ ليفك السحر ويقرأ الطلاسم".
تقول له بصيغة غير مباشرة؛ وفي أحيان أخرى؛ مباشرة:
" إنكَ بحاجة إلينا ولست مستقلا عنا؛ إن سجن المدرسة لن يخلي سبيلك". (رفض بيع براءة الاختراع؟؟)


السبب والعلة هو أننا لا نكتب لغيرنا / للمتلقي، بل نكتب لأنفسنا، بل أخشى القول إننا نكتب- حقا- في بعض الأحيان ما لا نستوعبه، أو ما نفهم اليسير منه فقط، أو يخامرنا غبش في فهمه وفقهه.


إن بعض (الكتاب) لا يكتبون إلا من أجل الكتابة؛ يكتبون وذهنهم خال من الأهداف الإجرائية للكتابة، هذه الأهداف تعطي القيمة للكاتب والمكتوب، وتسطر الطريق لمسار الكتابة فتكون صوى هادية إلى المهيع موجهة إلى البغية المقصودة.


ومن الأسباب المهمة في فهم الظاهرة:الجهل بقانون التموقع: ويعني أننا لا نضع أنفسنا في محل الآخرين وفقا لزمانهم ومكانهم وعقلهم وسقفهم المعرفي وحالاتهم الشعورية ووضعيتهم التاريخية و الجغرافية، وبنية لغتهم وأساليبهم في الخطاب... هذا إذا كان الكاتب يكتب ما يفهمه -الفهم الدقيق، أما إذا كان يكتب ما لا يفهمه أو يفهمه فهما ناقصا مشوشا فتحدث ولا تحرج، فهذا من قمة الجهل؛ بل هو الجهل المركب عينه وأنفه وأذنه ومنخاره.


إن هذا الأمر الذي أتحدث عنه ليس ضربا من الخيال، أو شطحات فكر، بل هو واقع قائم بذاته؛ واقع وقوعا لا شك فيه، وبكثرة. ولعل الجهل الضارب بأطنابه في الكثرة الكاثرة الكارثية من المجتمع راجع إليه، وسبب فيه كذلك.
- نسجل هذه الظاهرة كذلك في اللغة الشفهية؛ فهي لا تخلو كذلك من الغموض.


قال عبد العزيز حمودة في كتابه المرايا المقعرة - نحو نظرية نقدية عربية:
« غموض الكتابات الحداثية العربية نوعان: غموض غير مقصود وغموض مقصود متعمد. والغموض غير المقصود من النوع الذي لا يغتفر، فمن ناحية النتيجة فإنه يؤدي إلى تشويه الأفكار والمفاهيم الأصلية. وأما أسبابه فهي الأخرى لا تغتفر لأنها تنشأ إما عن سوء فهم النص الحداثي، وإما عن سوء نقله إلى العربية، وفي معظم الأحيان عن الاثنين معا...
أما الغموض المقصود في الكتابات الحداثية العربية فهو مجاراة واعية مدركة لغموض النص الحداثي في لغته الأصلية تأسيسا على مبدأ لفت لغة النقد النظر إلى نفسها ».
(انظر سلسلة عالم المعرفة العدد 272 ص:106- 107)

لا يحسن أن يفهم من مقالتي هذه أن الناس في التأليف سواء؛ بل منهم النجباء الأذكياء الذين يكتبون ما يستوعبون وما يُستوعب؛ ولكنهم نزر يسير مقارنة مع أصحاب درجة الصفر من الكتابة. (الذين يكتبون ويكثرون ليقال عنهم ويتحدث بهم...أو لأغراض أخرى لا نعرفها)


ولا أحب أن يفهم من كلامي أن اللغة العربية قاصرة عن التعبير كما يتخيل وهماً بعض الذي ارتضعوا لبان ثقافة لغات أجنبية إما هنا أو هناك. فهي كما قلت غنية كل الغنى، والقصور قصور مستعمليها.


لا يختلف جل المحاضرين والكتاب والمؤلفين عن غيرهم من سوقة الناس – عوامهم- إلا باللغة (الفصحى ) التي يستعملون. فهناك أفكار معلومات معلومة لدى كلهم إلا أن الفرق كامن في الخطاب الذي يحملها:
- فالعوام سوقةُ القومِ يجعلونها في خطاب دارج عاميّ.
- و(المثقفون ) يجعلونها في قوالب (الفصحى)، ويزخرفونها بأنواع الزخارف فتغدو كـ(العروس جمالا)، لهذا يعجبون بها ويظنونها بُنَيَّات فكر جديدة.




ومن الزخرف المَضْفِي عليها إحصائيات وأرقام ووثائق ودراسات ميدانية تُطَن بها آذان السامعين أو القارئين، فلا يكاد الذكي، بل حتى العامي قليل الذكاء، يجد فرقا بين الاثنين، بل هما واحد في صورتين متباينتين في الفصل لا في الأصل.
وقد كنت يوما أقرأ على أحدهم فقرات من كتاب فأوقفني قائلا: إن هذا الذي يتحدث عنه المؤلف معروف ومعلوم عند كل الناس...


ومن الزخرف كذلك أسلوب جديد استشرى في المجتمعات المتخلف بين مثقفين في حقول متعددة أخص بالذكر منها حقل السياسة وعلم النفس والاجتماع والأدب والتاريخ؛ وهو أسلوب اللَّف والدوران.
– فهو الكلام الذي لا ينطبق عليه حدُّ الكلام: وحده: اللفظ المركب المفيد بالوضع؛ ولا إفادة إلا بالتركيب السليم المُفهم. فالكلام إذا لم يك إجرائيا عمليا دقيقا لا يتحقق منه مقصود، وتتحقق منه الصرفة والإبعاد والعجز .

قصد هؤلاء الذين وصفت لك الغموضُ وإقصاءُ الإبانةِ حجباً للحقيقة، وذا من أعظم الأسباب. أما أعظم النتائج فإني مكتفها في العبارة التالية: « اِستغلال واستخفاف بالعقول ».

أما الحل فلا أراه خافٍ على طالبه ولا صعب الطلاب، موجزه: «العودة إلى الذات لمساءلتها ومحاسبة المذنبين ».
ومما جرت عليه عادة أهل اللف والدوران تقسيم المسائل إلى ثلاثة أقسام: البداية والوسط والنهاية/ التكوين- العمل – التقاعد...
أو ما يقارب هذه المصطلحات الثلاثة.
وقد انسيق في هذا المجرى عدد لا يستهان به من الباحثين، فتلفيهم ينْظُرون إلى الأحداث والوقائع والمسائل والمشاكل من خلال المنظار السابق.

وليس ذلك كذلك في الحالات كلها، بل حتى في أغلبها؛ فقد تكون النهاية بداية ونهاية (كالموت مثلا) وقد لا تتوافر مرحلة الوسط، وقد تتوقف الأمور في البداية أو تؤول من البداية إلى أصل من الأصول أو أصول متعددة لتناغم حاصل في المسألة. فالمنطق الذي يحكم الظواهر متشعب ومتشاجر، وإن ظهر من موقع معين وحدته واتحاده. فالعقلية الجامدة المجمدة لا تصلح منهجا علميا.