وقد فرَّع ابن تيمية رحمه الله الكلام في عقد النكاح تلجئة إلى مسألتين اثنتين:
1- حكم عقد النكاح تلجئة.
2- حكم المهر إذا كان ذكره تلجئة.
يقول رحمه الله في بيان حكم الفرع الأول وهو حكم عقد النكاح تلجئة:
فأما نكاح التلجئة:
فذكر القاضي وغيره:
أنه صحيح, كنكاح الهازل, لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد بل هازل له, ونكاح الهازل يصح.
ويؤيد هذا:
أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رفع موجبه.
مثل: أن يشرط أن لا يطأها أو أنها لا تحل له , أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك يصح العقد دون الشرط.
فالانفاق على التلجئة حقيقته :
أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدا لا يقتضي موجبه وهذا لا يبطله.
بخلاف المحلل:
فإنه قصد رفعه بعد وقوعه وهذا أمر ممكن فصار قصده مؤثرا في رفع العقد.
وهذا فرق ثان وهو في الحقيقة تحقيق للفرق الأول بين نكاح المحلل والهازل:
فإن الهازل:
قصد قطع موجب السبب عن المسبب وهذا غير ممكن فإن ذلك قصد لإبطال حكم الشارع فيصح النكاح ولا يقدح هذا القصد في مقصود النكاح إذا لم يترتب عليه حكم .
والمحلل:
قصد رفع الحكم بعد وقوعه وهذا ممكن فيكون قصدا مؤثرا فيقدح في مقصود النكاح فيبطل النكاح ; لأنه قصد فيه على وجه ممكن .
ألا ترى:
أن الهازل: يلزمه النكاح فإن أحب قطعه احتاج إلى قصد ثان.
والمحلل: من أول الأمر قد عزم على رفعه.
ويوضح هذا:
أنهما لو شرطا في العقد رفع العقد وهو نكاح المحلل, أو المتعة كان باطلا.
ولو شرطا فيه رفع حكمه, مثل عدم الحل ونحوه لكان يصححه من لم يصحح الأول [أي لكان يصحح العقد الذي فيه اشتراط رفع حكم النكاح مثل اشتراط ألا يطأها أو أنها لا تحل له جماعةٌ ممن لا يصححون اشتراط رفع العقد من أصله لا رفع حكمه فقط، وهذا مثل عقد المحلل وعقد المتعة، وهذه لفتة رائعة من ابن تيمية حيث نقل المخالف إلى إظهار هذه المقاصد المختلفة إلى مقام الاشتراط اللفظي، وبها قرر أن طوائف من أهل العلم يقررون بهذا الفرق، ربما يكون منهم هذا المخالف، فإذا لاحت هذه الفروق من جهة النطق فلأن تكون ثابتة من ناحية القصد من باب أولى]
ثم قال ابن تيمية رحمه الله:
ومن قال هذا فينبغي أن يقول :
لو قال زوجتك هازلا فقال: قبلت أن يصح النكاح كما لو قال طلقت هازلا. ويتخرَّج من نكاح التلجئة :
أنه باطل ; لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا.
ولو اشترطا في العقد أنه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا
وإن قيل: إن فيه خلافا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا أنها لا تحل له وهذا الشرط مفسد للعقد على الخلاف المشهور.
وهذا بخلاف الهزل:
فإنه قصد محض لم يتشارطا عليه , وإنما قصده أحدهما وليس للرجل أن يهزل فيما يخاطب به غيره والمسألة محتملة .
-------------
يريد ابن تيمية رحمه الله بالكلام السابق التنبيه إلى:
أن لأهل العلم في حكم نكاح التلجئة مسلكان:
المسلك الأول: التصحيح:
فمن أهل العلم من يصححه ويجريه مجرى الهزل، وحينئذ يسلم لابن تيمية أصله في اعتبار المقاصد والاعتقادات لأن الجواب على صحة نكاح التلئجة يكون هو جوابه السابق على صحة نكاح الهازل وطلاقه.
ولهذا نجد أن ابن تيمية رحمه الله داخل بين حكم نكاح التلجئة وبين حكم نكاح الهازل وبيَّن أنهما يشتركان في معنى واحد وهو قصد السبب دون المسبب.
وهما بذلك يفترقان عن عقد التحليل الذي يشتمل على قصد زائد يقتضي رفع العقد من أصله مثله مثل عقد المتعة مما أوجب بطلانه بخلاف العقدين الأولين اللذين وإن خلا من قصد حكم السبب إلا أنهما خلا أيضاً من قصد يستوجب رفع السبب.
المسلك الثاني: الإبطال
فمن أهل العلم من لا يصحح نكاح التلجئة لاشتماله على معنىً منافٍ للعقد وهو عدم القصد بدليل لو أنه نطق به لكان مفسداً للعقد كما لو اشترط في العقد ألا تحل له.
وهذا المسلك يتوافق مع أصل ابن تيمية رحمه الله في اعتبار المقاصد والاعتقادات.
وبهذين المسلك نجد أن ابن تيمية رحمه الله استطاع أن يجيب عن السؤال الوارد عليه في نكاح التلجئة إما بإدراجه ضمن أصله، وإما بالجواب عليه بما لا يتعارض مع الأصل الذي ذهب إليه
وبهذا استطاع ابن تيمية رحمه الله أن يجيب على هذا الإيراد على سائر الأقوال الواردة في المسألة، وأنها لا تخالف الأصل الذي يقرره في هذا الباب من اعتبار المقاصد والاعتقادات، وأن الصور التي قد يتوهم أنها لا تنتظم فيه فإنه على التسليم بذلك فإنها لا تخالفه لأنها خرجت لمعنى لا يناقض النظر لى المقاصد والاعتقادات.
وإن كنا لا ننكر أن المخالف أيضاً يستطيع على استخراج قدر من هذه الأقوال يشوش بها على أصل ابن تيمية في هذا الباب.
وهذا ما لا ينكره ابن تيمية رحمه الله.
ولكن الطرق التي سلكها ابن تيمية رحمه الله في التدليل على هذه المسألة واضحة المعالم لاسيما إذا تظافرت، والوجوه التي استعملها في الجواب عن إيراد المخالف متينة جداً لاسيما وقد أبان رحمه الله أن ما احتج به المخالف يتفق مع أصله ولا يختلف.
------------------------------
الآن ينتقل ابن تيمية رحمه الله إلى الفرع الثاني من الكلام في حكم النكاح تلجئة، وهو المهر إذا ذكر تلجئةً، يقول رحمه الله:
وأما إذا اتفقا في السر من غير عقد على أن الثمن ألف وأظهرا في العقد ألفين:
1- فقال القاضي في التعليق القديم:
العبرة بما أظهراه وهو الأكثر قياسا على المشهور عنه في المهر.
وفرقوا بين التلجئة في الثمن والتلجئة في البيع:
بأن التلجئة في البيع تجعله في نفسه غير مقصود والقصد معتبر في صحته
وهنا العقد مقصود وما تقدمه شرط مفسد متقدم على العقد فلم يؤثر فيه.
وهذا هو المشهور عن الشافعي بناء على أن العبرة في الجميع بما أظهراه.
2/ وقال القاضي في التعليق الجديد:
الثمن ما أسراه والزيادة سمعة ورياء بخلاف المهر
إلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع
وإلحاقا للمهر بالنكاح.
3/ وقال أبو حنيفة:
عكس هذا بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح.
4/ وقال صاحباه :
العبرة في الجميع بما أسراه .
يقول ابن تيمية رحمه الله وقد سجل مشكلة في الكلام المنقول عن الفقهاء في هذه المسألة:
وإنما يتحرر الكلام في هذا بمسألة المهر , ولها في الأصل صورتان ; وكلام عامة الفقهاء فيها عام فيهما , أو مجمل:
إحداهما: أن يعقدوه في العلانية بألفين وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سمعة من غير أن يعقدوه بالأقل:
فالذي عليه القاضي وأصحابه:
أن المهر هو المسمى في العقد ولا اعتبار بما اتفقوا عليه قبل ذلك , وإن قامت به البينة
قالوا : وهذا ظاهر كلام أحمد في مواضع وهو قول الشافعي المشهور عنه
وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم :
إذا علم المشهود أن المهر الذي يظهره سمعة , وأن أصل المهر كذا وكذا ثم تزوجوأعلن الذي قال فالمهر هو السر والسمعة باطلة , وهذا ومالك وأبي حنيفة وأصحابه
ونقل عن أحمد ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تلجئة
وهذا أشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله , فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة , ولم يثبت بينة ولا اعتراف أن مهر العلانية سمعة , بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر , وادعي عليه ذلك , فإنه يجب أن يؤاخذ بما أقر به إنشاء , أو إخبارا . وإذا أقام شهودا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك حكم بالبينة للأولى ; لأن التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر
وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية :
وهو ما إذا تزوجها في السر بألف , ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول:
فهنا قال القاضي:
إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر ; لأن النكاح المتقدم قد صح ولزوم النكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم.
وحمل مطلق كلام أحمد على مثل هذه الصورة , وهذا مذهب الشافعي .
ولهذا القول طريقة ثانية :
وهو أن نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أنصهما . فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالثاني.
فقد تحرر أن أصحابنا مختلفون:
هل يؤاخذ بصداق العلانية ظاهرا وباطنا؟
أو ظاهرا فقط فيما إذا كان السر تواطئا من غير عقد ؟
وإن كان السر عقدا فهل هي كالتي قبلها أو يؤاخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد على وجهين.
فمن قال :
إنه يؤاخذ به ظاهرا فقط وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يؤاخذوا إلا بما اتفقوا عليه لم يَرِد نقضا , وهذا قول قوي له شواهد كثيرة .
ومن قال :
إنه يؤاخذ به ظاهرا وباطنا بنى ذلك على أن المهر من توابع النكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه.
يحقق ذلك:
أن حل البضع مشروط بالشهادة على العقد والشهادة وقعت على ما أظهراه فيكون وجوب المشهود به شرطا في الحل .
قال أبو فراس:
نجد هنا أن ابن تيمية رحمه الله يدير مسألة التلجئة في مهر النكاح في سائر الصور التي ذكرها بين اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: أن الاعتبار بما اتفقوا عليه سراً في الباطن، وإن كان في الظاهر يؤاخذ به ظاهراً فقط.
وهذا الاتجاه يلتئم مع أصل ابن تيمية الذي قرره في هذا الباب وهو اعتبار المقاصد في العقود والتصرفات.
الاتجاه الثاني: وهو أن العبرة بما أعلناه ظاهرا وباطنا، وهذا بناء على أن المهر من توابع النكاح فيكون حكم المهر حكم النكاح جداً وهزلاً لاسيما وأن الشهادة من شروط عقد النكاح وهي إنما وقعت على ما أظهراه.
وهذا الاتجاه يكون الجواب عليه حسب أصل ابن تيمية في هذا الباب هو جوابه على صحة نكاح الهازل وطلاقه.
ثم رجع ابن تيمية رحمه الله ليؤكد أن عقود الهزل والتلجئة لا تناقض أصله في هذا الباب، بل هي تحقق ما مهده من اعتبار المقاصد، وبدأ من جديد ليرتب كلامه السابق لكن بما يتصل بموضوعه بشكل مباشر وبشيء من الاختصار، يقول رحمه الله:
فهذا الذي ذكرناه من عقود الهزل والتلجئة قد يعارض بما يصح منها على قولنا:
(إن المقاصد معتبرة في العقود والتصرفات )
فإنها [يعني عقود الهزل والتلجئة] تصح مع عدم قصد الحكم.
وهي في الحقيقة تحقيق ما مهدناه من اعتبار المقاصد .
فنقول : الجواب عن ذلك من وجوه :
أحدها : أن السنة وأقوال الصحابة فرقت بين قصد التحليل وبين نكاح الهازل.
الثاني : إنما ذكرنا: أن القصد معتبر في العقود ومؤثر فيها , ولم نقل: إن عدم القصد مؤثر فيها , والهازل ونحوه لم يوجد منهم قصد يخالف موجب العقد , ولكن لم يوجد منهم القصد إلى موجب العقد . وفرق بين عدم قصد الحكم وبين وجود قصد ضده .
فهنا أمكن ترتب الفائدة على قوله من غير قصد ; لأنه أتى بالقول المقتضي فترتب عليه مقتضاه ترتبا شرعيا لوجود المقتضي السالم عن المعارض , وإذا قصد المنافي فقد عارض المقتضي ما يخرجه عن أن يكون مقتضيا , فلذلك لم يصح.
الثالث: أن الهازل لو وصل قوله بلفظ الهزل مثل أن يقول: طلقتك هازلا, أو طلقتك غير قاصد لوقوع الطلاق, ونحو ذلك لم يمتنع وقوع الطلاق .
وكذلك على قياسه لو قال: زوجتك هازلا , أو زوجتك غير قاصد لأن تملك المرأة . فأما لو قال زوجتك على أن تحلها بالطلاق بعد الدخول , أو على أن تطلقها إذا أحللتها لم يصح.
فإذا ثبت الفرق بينهما لفظا فثبوته بالبينة مثله سواء بل أولى.
وسر هذا الفرق مبني على ما قبله:
فإن الهازل مع عدم قصد مقتضى اللفظ والعدم لو أظهره لم يكن شرطا في العقد, والمحلل ونحوه معه قصد ينافي المقتضي وما ينافي المقتضي لو أظهره كان شرطا فالهازل عقد عقدا ناقصا فكمله الشارع . والمحلل زاد على العقد الشرعي ما أوجب عدمه .
الوجه الرابع : أن نكاح الهازل ونحوه حجة لاعتبار القصد , وذلك أن الشارع منع أن تتخذ آيات الله هزوا , وأن يتكلم الرجل بآيات الله التي هي العقود إلا على وجه الجد الذي يقصد به موجباتها الشرعية . ولهذا ينهى عن الهزل بها , وعن التلجئة , كما ينهى عن التحليل , والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ومعنى فساده عدم ترتب أثره الذي يريده المنهي, مثل نهيه عن البيع والنكاح المحرم, فإن فساده عدم حصول الملك والهازل اللاعب بالكلام غرضه التفكه والتلهي والتمضمض بمثل هذا الكلام من غير لزوم حكمه له , فأفسد الشارع عليه هذا الغرض بأن ألزمه الحكم متى تكلم بها , فلم يترتب غرضه من التلهي بها واللعب والخوض , بل لزمه النكاح وثبت في حقه النكاح ومتى ثبت النكاح في حقه تبعته أحكامه.
والمحتال كالمحلل مثلا:
غرضه إعادة المرأة إلى الأول فيجب فساد هذا الغرض عليه بأن لا يحل عودها , وإنما لا يحل عودها إذا كان نكاحه فاسدا فيجب إفساد نكاحه .
فتبين :
أن اعتبار الشارع للمقاصد هو الذي أوجب صحة نكاح الهازل وفساد نكاح المحلل. وإيضاح هذا:
أن الله حرم أن تتخذ آياته هزوا بعد أن ذكر النكاح والخلع والطلاق , ومعلوم أن الاستهزاء بالكلام الحق المعتبر أن يقال لا على هذا الوجه:
1- إما أن يقصد به مقصود غير حقيقة ككلام المنافق.
2- أو لا يقصد إلا مجرد ذكره على وجه اللعب ككلام السفهاء.
وكلام الوجهين:
حرام وهو كذب ولعب, فيجب أن يمنع من هذا الفساد.
فيمنع الأول:
من حصول مقصوده المباين لمقصود الشارع.
ويمنع الثاني:
من حصول مقصوده الذي هو اللعب.
ثم إن كان منعه من مقصوده:
1- بإبطال العقد من جميع الوجوه.
2- أو من بعضها.
3- أو بصحة العقد.
شرع ذلك.
والمحلل إنما يمنع المقصود الباطل:
بإبطال العقد مطلقا, وإلا فتصحيح النكاح مستلزم لحصول مقصوده.
ولما لحظ بعض أهل الرأي هذا:
رأى أن يصحح النكاح ويمنع حصول الحل, كما يوقع الطلاق في المرض ويوجب الميراث.
لكن هذا ضعيف هنا:
لأنه كان ينبغي أن لا يُلعن إلا المحلل له فقط , إذا كان نكاح المحلل صحيحا مفيدا للحل لنفسه .
ولكان لا ينبغي أن يسمى تيسا مستعارا ; لأنه زوج من الأزواج , غير أن نكاحه لم يفد الحل المطلق كالنكاح قبل الدخول.
ثم إن مادة الفساد إنما تنحسم بتحريم العقدين معا.
[والطلاق قد قيل:
إنه لا ينقسم إلى صحيح وفاسد، ولهذا إذا وقع مع التحريم وقع كطلاق البدعة.
بخلاف النكاح:
فإنه إذا وقع مع التحريم كان فاسدا كالنكاح في العدة.]
قال أبو فراس:
الكلام السابق استطراد من ابن تيمية رحمه الله لم يظهر لي مناسبته، ولا يبدو أنه يريد تبرير صحة طلاق الهازل وفساد نكاح المحلل لأنه لو قصد هذا لأورد عليه في إزاء هذه المقابلة صحة نكاح الهازل مع أن النكاح كما قرر في هذا الموضع ينقسم إلى صحيح وفاسد.
ثم قال رحمه الله:
فلما منع الشارع مقصود المحلل منع أيضا مقصود الهازل وهو اللعب بالعقود من غير اقتضاء لأحكامها فأوجب أحكامها معها.
وهذا كلام متين إذا تأمله اللبيب تفقه في الدين وعلم أن من أمعن النظر وجد الشريعة متناسبة:
وأن تصحيح نكاح الهازل ونحوه من أقوى الأدلة على بطلان الحيل، وكذلك نكاح التلجئة إذا قيل بصحته , فإن التلجئة نوع من الحيل بإظهار صورة العقد لسمعة, ولا يلتزمون موجبها بإبطال هذه الحيل, بأن يلتزموا موجبه حتى لا يجترئ أحد أن يعقد العقد إلا على وجه الرغبة في مقصودها دون الاحتيال بها إلى غير مقاصدها .
ومما يقارب هذا:
أن كلمتي:
1- الكفر.
2- والإيمان.
إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صح كفره ولم يصح إيمانه.
فإن المنافق:
قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة فلم يصح إيمانه , والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صح كفره باطنا وظاهرا.
وذلك:
لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها , وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا , فإذا تكلم بالكفر أو الكذب جادا , أو هازلا كان كافرا , أو كاذبا حقيقة
لأن الهزل بهذا الكلمات:
غير مباح , فيكون وصف الهزل مهدرا في نظر الشرع ; لأنه محرم فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها .
ونظير هذا الذي ذكرناه:
أن قصد اللفظ بالعقود معتبر عند جميع الناس , بحيث لو جرى اللفظ في حال نوم , أو جنون , أو سبق اللسان بغير ما أراده القلب لم يترتب عليه حكم في نفس الأمر.
ثم إن أكثرهم صححوا عقود السكران مع عدم قصده اللفظ قالوا : لأنه لما كان محرما عليه أن يزيل عقله كان في حكم من بقي عقله .
يقول د. أحمد الخليل محقق الكتاب:
هذا الحكم ذكره شيخ الإسلام على سبيل التنظير ، ونسبه إلى أكثر أهل العلم لا إلى نفسه، لأنه لا يرى صحة هذا الحكم فأقوال السكران كلها مهدرة فلا تصح عقوده، ولا يقع طلاقه عنده.
ثم يقول ابن تيمية رحمه الله:
ومما يوضح هذا:
أن كل واحد من الهازل والمخادع لما أخرجا العقد عن حقيقته فلم يكن مقصودهما منه مقصود الشارع عوقبا بنقيض قصدهما:
ومقصود الهازل:
نفي ثبوت الملك لنفسه فيثبت.
ومقصود المحلل:
ثبوت الحل للمطلق , وثبوت الحل له ليكون وسيلة فلا يثبت شيء من ذلك .
واعلم أن من الفقهاء من قال بعكس السنة في هاتين المسألتين:
فصحح نكاح المحلل دون نكاح الهازل
نظرا إلى:
أن الهازل: لم يقصد موجب العقد , فصار كلامه لغوا.
والمحلل: قصد موجبه ليتوصل به إلى غرض آخر.
وهذا مخيل في بادئ الرأي , لكن يصد عن اعتباره مخالفته للسنة , وبعد إمعان النظر يتبين فساده نظرا كما تبين أثرا:
فإن التكلم بالعقد مع عدم قصده محرم, فإذا لم يترتب عليه الحكم فقد أعين على التحريم المحرم , فيجب أن يترتب عليه إفسادا لهذا الهزل المحرم وإبطال اللعب يجعل الهزل بآيات الله جدا ,
كما جعل مثل ذلك:
في الاستهزاء بالله وبآياته ورسوله.
وقصد المحلل في الحقيقة:
ليس بقصد الشارع , فإنه إنما قصد الرد إلى الأول , وهذا لم يقصده الشارع , فقد قصد ما لم يقصده الشارع , ولم يقصد ما قصده , فيجب إبطال قصده بإبطال وسيلته , والله سبحانه أعلم .
وبعد أن فرغ ابن تيمية رحمه الله من ذكر الشواهد على اعتبار المقاصد، ومن الجواب على الأسئلة الواردة عليه انتقل إلى تقرير حقيقة مهمة تتفرع من هذا الأصل وهي:
أن القول باعتبار المقاصد في التصرفات من العقود وغيرها يجتث قاعدة الحيل لأن المحتال هو الذي لا يقصد بالتصرف مقصوده الذي جعل لأجله....
وهذا يوجب فساد الحيل من وجهين:
أحدهما : أنه لم يقصد بتلك التصرفات موجباتها الشرعية , بل قصد خلافها ونقيضها . الثاني : أنه قصد بها إسقاط واجب واستحلال محرم دون سببه الشرعي .
لكن من التصرف:
1- ما يمكن إبطاله كالعقود التي قد تواطأ المتعاقدان عليها ونحو ذلك.
2- ومنه ما يمكن إبطاله بالنسبة إلى المحتال عليه دون غيره فيبطل الحكم الذي احتيل عليه , مثل أن يبيع النصاب فرارا من الزكاة , أو يطلق زوجته فرارا من الإرث , فإن البيع صحيح في حق المشتري . وكذلك الطلاق واقع لكن تجب الزكاة ويثبت الإرث إبطالا للتصرف في هذا الحكم , وإن صح في حكم آخر. ....
وفي ختام هذا الوجه نبه ابن تيمية رحمه الله إلى محل كلامه السابق في اعتبار المقاصد والاعتقاد فقال رحمه الله:
واعلم أنا إنما ذكرنا هنا اعتقاد الفعل الذي هو العزم والإرادة .
فأما اعتقاد الحكم:
بأن يعتقد أن الفعل حلال أو حرام فتأثير هذا في الحكم في الجملة مجمع عليه:
1- فإن من وطئ فرجا يعتقده حلالا له , وليس هو في الحقيقة حلالا , مثل أن يشتري جارية اشتراها , أو اتهبها , أو ورثها , ثم تبين أنها غصب , أو حرة , أو يتزوجها تزوجا فاسدا لا يعلم فساده , إما بأن لا يعلم السبب المفسد , مثل أن تكون أخته من الرضاعة ولم يعلم , أو علم السبب ولم يعلم أنه مفسد لجهل كمن يتزوج المعتدة معتقدا أنه جائز , أو لتأويل , كمن يتزوج بلا ولي , أو وهو محرم , فإن حكم هذا الوطء حكم الحلال في درء الحد ولحوق النسب وحرية الولد ووجوب المهر وفي ثبوت المصاهرة والعدة بالاتفاق , وكذلك لو اعتقد أنها زوجته , أو سريته ولم تكن كذلك.
2- وكذلك لهذا الاعتقاد تأثير في سقوط ضمان الدم والمال على المشهور الذي دل عليه اتفاق الصحابة فيما أتلفه أهل البغي على أهل العدل حال القتال.
3- وكذلك له تأثير في ثبوت الملك وسقوط العزم فيما ملكه الكفار وأتلفوه, ثم أسلموا فإنهم لا يضمنون ما أتلفوه وفاقا ولا يسلبون ما ملكوه على المشهور الذي دلت عليه السنة في ديار المهاجرين وغيرها.
4- وله تأثير في الأقوال فيما إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فبان بخلافه فإنه لا كفارة عليه عند الجمهور .
وهذا كثير في أبواب الفقه لكن هذا الاعتقاد ليس هو الذي قصدنا الكلام فيه هنا وإن كان يقوي ما ذكرناه في الجملة ."
انتهى كلامه رحمه الله.
1- قال د. أحمد الخليل: وما ظنه صحيح كما في بدائع الصنائع 5/135
2- ص 110