بسم الله الرحمن الرحيمإن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَّاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
أما بعد:
فكنت قد وضعت في المجلس الشرعي موضوعا خاصا بنقد كتاب الأربعين في أصول الدين للفخر الرازي، وهذا رابطه:
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=11609
وقد وضعت فيه ما وقفت عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في نقد هذا الكتاب نفسه.
وذكرت هناك بعد ذلك دفاع شيخ الإسلام رحمه الله عن الفخر الرازي فيما نسبه إليه بعض الناس من تعمّد نصر الباطل وغمط الحق وإضلال الناس في هذه المشاركة:
http://majles.alukah.net/showpost.ph...73&postcount=9
وأوضح هنا علاقة شيخ الإسلام بابن خطيب الري، فأضع مبحثا أعددته خاصا بهذا الأمر، أسأل الله أن ينفع به قارئه، وأن يجعله في ميزان الحسنات، وأن يغفر لي ما كان فيه من زلل ووهم أنا أهل له:
بين الرازي وابن تيميّة
على الرغم من تباعد الأزمان والأعصار، واختلاف المناهج والأنظار، إلا أن ثمّة علاقةً تربط بين الإمام فخر الدين الرازي وشيخ الإسلام ابن تيميّة ارتباطا وثيقًا.
بالطبع نشأت هذه العلاقة من المتأخر منهما؛ ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتنوعت هذه العلاقة ما بين النقل والدفاع، والنقد والثناء، وتدريس بعض كتبه والتحذير منها، ونعرض في هذا المبحث لأمثلة من ذلك:
فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يكثر من ذكر الرازي وقبله الغزالي في معرض كلامه عما يؤول إليه حال المتكلمين من الشك والحيرة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة. هذا أبو الحسن الأشعري: نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الرد عليهم. وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف - ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف "إلجام العوام عن علم الكلام".
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، فقد قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([1]) و﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾([2]) واقرأ في النفي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([3]) ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾([4]) ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾([5]) ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
وكان يتمثل كثيرا:
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلالويقول شيخ الإسلام أيضًا: (وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدي في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي: "أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام". وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب -باب الحيرة والشك والاضطراب- لكنه مسرف في هذا الباب؛ بحيث له نهمة في التشكيك دون التحقيق بخلاف غيره.)([7])
وأرواحنا في وحشة من جسومنا*** وحاصل دنيانا أذًى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا*** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا)([6])
ويقارن بين حالهم ومآلهم وبين حال السلف وما هم عليه من الإيمان والطمأنينة فيقول: (وهذا حال أئمة المسلمين وسلف الأمة وحملة الحجة؛ فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم الضروري؛ كما في الحكاية المحفوظة عن "نجم الدين الكبرى" لما دخل عليه متكلمان أحدهما: أبو عبد الله الرازي، والآخر: من متكلمي المعتزلة، وقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين. فقال: نعم أنا أعلم علم اليقين. فقالا: كيف يمكن ذلك، ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الآخر دليلا؟! -وأظن الحكاية في تثبيت الإسلام- فقال: ما أدري ما تقولان. ولكن أنا أعلم علم اليقين فقالا: صف لنا علم اليقين، فقال: علم اليقين -عندنا- واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها، فجعلا يقولان: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، ويستحسنان هذا الجواب.)([8])
ولقد كان لشيخ الإسلام -رحمه الله- عناية خاصة بمؤلفات الفخر الرازي؛ فقد قام بشرح كتاب المحصول في أصول الفقه لتلامذته وملازميه مرات ومرات، بل إنّ كتاب «الأربعين في أصول الدين» موضوع بحثنا كان من جملة ما قرئ عليه وشرحه وعّلق عليه.
جاء في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة الإمام ابن عبد الهادي: (ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية مدة. وقرأ عليه قطعة من الأربعين في أصول الدين للرازي.)([9])
وذكره ابن عبدالهادي رحمه الله تعالى في "العقود الدرية" وهو يتحدث عن شيخ الإسلام رحمه الله فقال: «...فأخرج منها - أي القلعة - يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين وستمائة وتوجّه إلى داره، ثم لم يزل بعد ذلك يعلم الناس ويلقى الدرس بالحنبلية أحيانا ويقرأ عليه في مدرسته بالقصاصين في أنواع من العلوم، وكنت أتردد إليه في هذه المدة أحيانا، وقرأت عليه قطعة من الاربعين للرازي، وشرحها لي، وكتب لي على بعضها شيئا...)([10])
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرًا ما ينتقد مصنفات الرازي انتقادًا لاذعًا، قال الإمام الصَّفَدِي في كتابه الوافي بالوفيات: (قلت يومًا للشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة أبي الحسن علي السُّبْكِي: قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية وقد ذكر تفسير الإمام الرازي: فيه كل شيء إلا التفسير، فقال قاضي القضاة: ما الأمر كذا؛ إنما فيه مع التفسير كل شيء.)([11])
ولقد تتبع مصنفه الحافل المسمى «أساس التقديس» تتبعه فقرة فقرة، وعلّق عليه تعليقات نفيسة في كتابه معدوم النظير: «بيان تلبيس الجهميةفي تأسيس بدعهم الكلامية» ويسمى أيضا «نقض تأسيس الجهمية» ويقال له: «تخليص التلبيس من كتاب التأسيس» وهو من أهم مؤلفات شيخ الإسلام في أصول الدين، قال عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية: (وهو كتاب جليل المقدار، معدود النظير، كشف الشيخ فيه أسرار الْجَهْمِيّة([12])، وهتك أسرارهم، ولو رحل طالب العلم لأجل تحصيله إلى الصين لما ضاعت رحلته) ا.هـ.
ووصفه الحافظ ابن القيم في نونيته «الكافية الشافية» بالأعجوبة، فقال:
وكذلك التأسيس أصبح نقضه *** أعجوبة للعالم الربانيبل إن شيخ الإسلام نفسه بين أنه تتبع كتب الرازي في أصول الدين جميعا، فرأى أن صاحبها ينصر مذهب الفلاسفة؛ أصحاب أرسطو وغيرهم، وهذا يفهم من قوله رحمه الله: (وقد كتبت في هذا ما يجيء عدة مجلدات، وذكرت فيها مقالات الطوائف جميعها، وحججها الشرعية والعقلية، واستوعبت ما ذكره الرازي في كتاب «تأسيس التقديس» «ونهاية العقول» وغير ذلك، حتى أتيت على مذاهب الفلاسفة المشائين أصحاب أرسطو، وغير المشائين، متقدميهم ومتأخريهم)([13]).
ودائما ما كان يلمح إلى أن الرازي متبع للفلاسفة، وعلى رأسهم ابن سينا، في منهجهم وطرق استدلالهم؛ حيث يقول في ذلك: (والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه؛ حتى يعلمون أن هذه دلائل مستلزمة له. والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأي والسمع. والمتفلسفة كابن سينا والرازي ومن اتبعهما، قالوا: إن طريق إثباته الاستدلالُ عليه بالممكنات، وإن الممكن لا بد له من واجب.
قالوا: والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين؛ وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، وركبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه.)([14])
وأحيانا يشير شيخ الإسلام إلى تقليد الرازي لابن سينا فيما تَبِعَ فيه الطرقية الجهال المنتسبين للتصوف، ويتعجب منه؛ كيف أورد حجج هؤلاء الضلال مع ما كان له من ذكاء؟! حتى أن بعضا من المتعصبين له أنكر أن يكون ذلك من كلامه، حتى وقف عليه في ضمن كتابه الذي سماه: «المطالب العالية»، يقول شيخ الإسلام: (الذين لبسوا الكلام بالفلسفة من أكابر المتكلمين تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم، مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه أبو عبد الله الرازي الذي احتذى فيه حذو ابن سينا وعين القضاة الهَمْدانِي؛ فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل، وأسماء عجيبة، وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين؛ لا في الأحاديث الصحيحة، ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم.
وإنما وضعه بعض السؤّال والطرقية، أو بعض شياطين الوعاظ، أو بعض الزنادقة، ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج -الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم، ولا يوجد في أثارة من علم- فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب: فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين وعلمائهم، حتى أن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك حتى أروه النسخة بخط بعض المشايخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه: "المطالب العالية" وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين.)([15])
ويذكر في غير موضع أن جميع الحجج والتأويلات التي أوردها الرازي في كتبه هي بعينها تأويلات بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ([16]) التي نسبه أئمة السلف بسببها إلى الردة والزندقة، والمروق من الدين؛ فيقول: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس -مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فُورَك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه "تأسيس التقديس" ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل: أبي علي الجُبَّائِي، وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين البصري، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد الغزالي وغيرهم- هي بعينها تأويلات بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ التي ذكرها في كتابه؛ وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا، ولهم كلام حسن في أشياء. فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشرٍ المَرِيسِيِّ ويدل على ذلك كتاب "الرد" الذي صنفه عثمان بن سعيد الدَّارِمي أحدِ الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنف كتابا سماه: "رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد" حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المَرِيسيّ بكلام يقتضي أن المَرِيسيّ أقعد بها، وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم.
ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المَرِيسِيّة، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المَرِيسيّ - تبين الهدى لمن يريد الله هدايته. ولا حول ولا قوة إلا بالله.)([17])
ولعل أكثر الكتب التي وجه لها شيخ الإسلام أشد الانتقاد - بل ما طالعه أحد من علماء الإسلام إلا وانتقد مؤلفه أشد الانتقاد، ومنهم من رماه لأجله بالردّة عن الإسلام نسأل الله السلامة – كتاب «السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم» فيقول في نقده دون ذكر اسم مؤلفه: (من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعو لها بأنواع الأدعية والتسبيحات، ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبته لها، ويتحرى الأوقات والأمكنة والأبخرة المناسبة لها في زعمه.
وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين؛ حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف فيه بعض المشهورين كتابا سماه: «السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم» على مذهب المشركين من الهند والصابئة، والمشركين من العرب وغيرهم)([18])
لكنه يصرح باسمه في موضع آخر، ولهول ما في الكتاب وعدم إمكانية تأويله يشير إلى احتمال توبة المصنف مما فيه فيقول: (وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام؛ كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام.)([19])
ولعل ذلك هو السبب في أنه يرميه أحيانا بأن فيه قدرًا من النفاق والردة، ومخالفة منهج السلف في جميع الأمور العقدية حتى تلك التي يزعم موافقته للسلف فيها كالعقيدة في الصحابة مثلا فيقول: (وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين. فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم. وهذان هما مقدمتا الزندقة كما قدمناه.
ثم يعتمد فيما أقر به من أمور الإسلام على ما علم بالاضطرار من دين الإسلام مثل: العبادات والمحرمات الظاهرة، وكذلك الإقرار بمعاد الأجساد -بعد الاطلاع على التفاسير والأحاديث- يجعل العلم بذلك مستفادا من أمور كثيرة؛ فلا يعطل تعطيل الفلاسفة الصابئين، ولا يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين. وكذلك "الصحابة" وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه، وبعلمهم في الجملة، لكن يزعم في مواضع أنهم لم يعلموا شبهات الفلاسفة، وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثورا عنهم التكلم بلغة الفلاسفة، ويجعل هذا حجة له في الرد.)([20])
بل ويصفه في بعض المواضع بضعف الحجة، وموافقة الدَّهْرِيَّة الملاحدة في أقوالهم، فيقول: (ولهذا صار كثير من المصنفين في هذا الباب كالرازي ومن قبله من أئمة الكلام والفلسفة -كالشَّهْرِسْتَا نِي ومن قبله من طوائف الكلام والفلسفة- لا يوجد عندهم إلا العلة الفلسفية أو القادرية المعتزلية أو الإرادية الْكُلَّابِيّة([21]). وكل من الثلاثة منكر في العقل والشرع؛ ولهذا كانت بحوث الرازي في مسألة القادر المختار في غاية الضعف من جهة المسلمين، وهي على قول الدهرية أظهر دلالة.)([22])
ورغم كل ما سبق فإن شيخ الإسلام ابن تيمية يدافع عن الرازي، ويرد على من نسبه إلى نصر الباطل في كتبه، وكذلك من أساء به الظن ونسبة تعمد الكلام الباطل إليه، فيقول: (صار طائفة أخرى قد عرفت كلام هؤلاء وكلام هؤلاء -كالرازي والآمدي وغيرهما- يصنفون الكتب الكلامية فينصرون فيها ما ذكره المتكلمون المبتدعون عن أهل الملة من حدوث العالم بطريقة المتكلمين المبتدعة هذه؛ وهو امتناع حوادث لا أول لها ثم يصنفون الكتب الفلسفية كتصنيف الرازي «المباحث الشرقية» ونحوها؛ ويذكر فيها ما احتج به المتكلمون على امتناع حوادث لا أول لها، وأن الزمان والحركة والجسم لها بداية، ثم ينقض ذلك كله ويجيب عنه ويقرر حجة من قال: إن ذلك لا بداية له. وليس هذا تعمدا منه لنصر الباطل؛ بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه.
فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما يقدح به في كلام الفلاسفة قدح به فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له، فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء، وكذلك يصنع بالآخرين.
ومن الناس من يسيء به الظن وهو أنه يتعمد الكلام الباطل؛ وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له، وهو متناقض في عامة ما يقوله؛ يقرر هنا شيئا ثم ينقضه في موضع آخر؛ لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المبتدَع المذموم عند السلف، ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة يشتمل على كلام باطل -كلام هؤلاء وكلام هؤلاء- فيقرر كلام طائفة بما يقرر به ثم ينقضه في موضع آخر بما ينقض به. ولهذا اعترف في آخر عمره فقال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([23]) ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾([24]) واقرأ في النفي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾([25]) ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾([26]) ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾([27]) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.)([28])
وهذا غاية الإنصاف من شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، والعدل الذي أمرنا الله به في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([29])
وهذا الذي قاله شيخ الإسلام في الإمام الرازي هو الحق الذي لا محيص عنه خلافا لطائفتين:
الأولى: غالت فيه مغالاةً شديدةً، فتمحّلت الردود الواهية للدفاع عنه، حتى كذّبت بالحقِّ، ونصرت الباطل.
والأخرى: رمته بالردّة والزندقة، ولم تلتمس له عذرًا أو تقبل منه توبة. والإنصاف عزيز، نسأل الله السلامة والهداية.
ـــــــــــــــ ــــ
[1] - طه: 5
[2] - فاطر: 10
[3] - الشورى: 11
[4] - طه: 110
[5] - مريم: 65
[6] - مجموع الفتاوى (4/72-73)
[7] - مجموع الفتاوى (4/28)
[8] - مجموع الفتاوى (4/43)
[9] - ذيل طبقات الحنابلة (1/357)
[10] - العقود الدرية (ص 216)
[11] - الوافي بالوفيات (2/41)
[12] - الجهمية: هو أتباع الجهم بن صفوان، وهي فرقة معطِّلة تنكر أسماء الله وصفاته، وتزعم أن الإنسان مجبور على أفعاله، وأن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط، وغير ذلك من الضلالات. الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفِصَل (1/127-130).
[13] - مجموع الفتاوى (3/226-227)
[14] - مجموع الفتاوى (1/49)
[15] - مجموع الفتاوى (4/62-63)
[16] - المريسي: بفتح الميم وكسر الراء الخفيفة وسكون الياء ثم مهملة. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ص310، وهو الفقيه المتكلم، وكان داعية إلى القول بخلق القرآن، هلك في آخر سنة ثمان عشر ومائتين، ولم يشيعه أحد من العلماء، وحكم بكفره طائفة من الأئمة. روى عن حماد بن سلمة، وعاش سبعا وسبعين سنة. العبر في خبر من غبر ص70 .
[17] - مجموع الفتاوى (5/23-24)
[18] - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/285)
[19] - مجموع الفتاوى (4/55)
[20] - مجموع الفتاوى (4/104-105)
[21] - الْكُلَّابِيّة: هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلّاب القطان، وهم يثبتون الأسماء والصفات لكن على طريقة أهل الكلام؛ لذلك يعدهم أهل السنة من متكلمة أهل الإثبات، ويوافقون أهل السنة في كثير من مسائل العقيدة بل إنهم في مسائل القدر والأسماء والأحكام أقرب إلى أهل السنة من الأشاعرة. انظر مجموع الفتاوى(3/103و 4/12،14, 147، 1)
[22] - مجموع الفتاوى (5/ 560)
[23] - طه: 5
[24] - فاطر: 10
[25] - الشورى: 11
[26] - طه: 110
[27] - مريم: 65
[28] - مجموع الفتاوى (5/561-562)
[29] - المائدة: 8
وكتبه
راجي رحمة ربه
عيد بن فهمي بن محمد بن علي الحسيني
عفا الله عنه