ولاية الفقيه من النظريات التي نشأت في المذهب الشيعي الإثنى عشري وهى من النظريات السياسية التي تقوم على أصول عقدية، ورؤى فكرية خاصة بطائفة الشيعة الإثني عشرية؛ نظرًا لارتباطها الوثيق بعقيدة الإمامة الشيعية التي تمثل حجر الزاوية في المذهب الشيعي عامة والإثني عشري بصفة خاصة.

وولاية الفقيه تعني: " قيام الفقيه الجامع لشروط الفتوى والقضاء مقام الحاكم الشرعي، وولي الأمر، والإمام المنتظر في زمان غيبته في إجراء السياسات، وسائر ما له من أمور، عدا الأمر بالجهاد الابتدائي، وهو فتح بلاد الكفر بالسلاح، مع خلافٍ في سعة الولاية وضيقها ". [أحمد فتح الله: معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ص453]
وعليه فإن المراد من لفظ الولاية الوارد في عبارة "ولاية الفقيه" عند
الشيعة الإثني عشرية: أي الولاية التي تؤدي مهام الإمامة، باعتبار أنها حق ثابت للإمام،
والفقيه نائب عنه.
وولاية الفقيه هي الصورة العملية للحكومة الإسلامية التي نادى بها الخميني داخل الكيان الشيعي الإثني عشري، والتي قامت عليها الثورة الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وهي نظرية لها جذور في التراث الشيعي، حيث مرت بمحطات أساسية وعلامات بارزة على يد الكركي (868هـ = 1463م، - 940هـ= 1534م) والنراقي ( 1185هـ =1771م، - 1245هـ - 1828م ) والخميني. وذلك عكس ما هو مشهور بأن الخميني هو أول داعٍ لها، وإن كان الخميني يعد متممًا لها ومكملاً لبنيانها، وإليه يرجع الفضل في تحويلها من مقولة نظرية مجردة إلى حركة عملية انقلابية ثورية، وبرنامج سياسي شامل. ومن الخطأ بمكان تجاهل هذا الدور التاريخي لتلك النظرية، وإسهامات علماء الشيعة فيها عبر قرونٍ طويلة، مع إقرارنا بالخصيصة الخمينية.
فقد نذر الخميني حياته لهذه النظرية، وضمنها أشهر مؤلفاته وهو كتابه "الحكومة الإسلامية" والمعروف باسم ولاية الفقيه، والذي لخص فيه الخميني محاضراته التي كان يلقيها على طلابه في النجف الأشرف في العراق.


بداية ولاية الفقيه:
يرى بعض علماء الشيعة أن البداية الفعلية لنظرية ولاية الفقيه ظهرت في عصر حضور الأئمة، بل على أيديهم.
فمن خلال تتبّع تاريخ تعامل الأئمة مع شيعتهم يظهر أنّهم قد مهّدوا للنيابة العامّة للفقهاء منذ زمن العسكريَّيْن (يقصد بالعسكرييْن عند الشيعة الإمام علي بن محمد الهادي، وابنه الإمام الحسن بن علي العسكري)، وزمن الغيبة الصغرى، كي لا تفاجئ صدمة الغيبة الكبرى
شيعة أهل البيت مما قد يؤدّي إلى ارتداد كبير وارتباك في أوساطهم. [المرجعية والقيادة، كاظم الحائري ص152، 153 بتصرف يسير]
وذلك عن طريق الروايات التي أشارت إلى فضل العلماء، وعلو منزلتهم ومكانتهم، من أمثال مقبولة عمر بن حنظلة [من محدّثي الإمامية، عدّه الطوسي في رجاله تارة من أصحاب الباقر، وتارة أخرى من أصحاب الصادق] والمشهورة، وغيرهما من الروايات.
فهذه الروايات التي وردت على لسان الأئمة حسب معتقد الشيعة قد هيَّأت الجو الشيعي لتقبُّل نظرية ولاية الفقيه على المستوى النظري العام.
أما عن المستوى العملي الخاص فإنه يمكن القول بأن أُولى معالم أو إرهاصات نظرية النيابة العامة أو ولاية الفقيه كانت في مرحلة الغيبة الصغرى، متمثلة في شخص السفراء الأربع.
فالحديث عن النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي في عصر الغيبة الكبرى هو فرع لثبوت النيابة الخاصة التي ادعاها الوكلاء الأربعة في عصر الغيبة الصغرى. [تطور الفكر السياسي الشيعي: أحمد الكاتب، ص426 بتصرف]
ففي مرحلة الغيبة الصغرى (255هـ : 328هـ أو 329هـ) كان الإمام الغائب يمارس دوره القيادي من خلال نظام السفراء.
حيث تعتقد الشيعة الإثنا عشرية أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري قد غاب غيبةً صغرى قبل غيبته الكبرى التي انقطعت فيها أخباره، وكان يتصل خلال غيبته الصغرى بأتباعه عن طريق نواب أربعة، أو سفراء بينه وبين أتباعه، تسلموا النيابة واحدًا إثر الآخر، وكان إذا أراد أحد من شيعته أن يسأل الإمام عن شيءٍ يتوجه بسؤاله إلى نائبه الوقتي، وهو يتولى مراسلة الإمام، ثم بعد ذلك تخرج رسائل من قِبل الإمام عليها توقيعه، بالإجابة عن تلك الأسئلة.
والسفراء هم: عناصر مؤهلة خاصة اختارها الإمام ليكونوا حلقة وصل بينه وبين شيعته.
وقد تولى مهمة السفارة في مرحلة الغيبة الصغرى أربعة أشخاص، وهم:
1- عثمان بن سعيد العمري: وكانت مدة سفارته من سنة 260هـ حتى سنة 265هـ.
2- محمد بن عثمان بن سعيد العمري: وكانت مدة سفارته من سنة 265هـ حتى سنة 305 هـ.
3- الحسين بن روح النوبختي: وكانت مدة سفارته من سنة 305هـ حتى سنة 326هـ.
4- علي بن محمد السمري: وكانت مدة سفارته من سنة 326هـ حتى سنة 329هـ.
ومع أن عملية السفارة التي يؤمن بها الإثنا عشرية لم تدم -استمرت ما يقرب من ثلاثٍ وسبعين أو أربعٍ وسبعين سنة- إلا أنها قد مهَّدت للقول بنظرية ولاية الفقيه، ولكن سرعان ما انقطعت السفارة، وجاء الإعلان عن الغيبة الكبرى على لسان آخر السفراء. [راجع: التشيع نشوؤه – مراحله- مقوماته، عبد الله الغريفي، ص378]
وكانت الغيبة الكبرى هي الأخرى دافعًا لبزوغ نجم نظرية ولاية الفقيه.
فمنذ الإعلان عن الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر بدأت تظهر على الساحة الشيعية نظرية جديدة تخالف معتقدهم في الإمامة، وهي نظرية (التقية والانتظار) حيث إنهم يعتقدون أن الأرض لا تخلو من حجة يقيم حكم الله على خلقه، ولكن بإعلان الغيبة الكبرى وظهور عقيدة التقية والانتظار أصبحت فاعلية الإمام مجمدة، والمسئولية المناطة به من تنفيذ أوامر الله وأحكامه متوقفة، وحُرِّم على الشيعة منذ هذا الوقت تجاوز سلطة الإمام، والتعدي على الأمور التي تدخل ضمنًا في اختصاصه، ويتوقف فعلها على وجوده؛ مثل إقامة الحدود، وتولي القضاء، وأخذ الخمس، وأداء الجهاد، وإقامة صلاة الجمعة، إلى غير ذلك من الأمور التي يتوقف فعلها على وجود الإمام، أو من ينوب عنه بتفويضٍ مباشرٍ منه، وهى ما تُعرف عند الشيعة "بالولايات السبع".
الأمر الذي أدى إلى إحداث حالة من الجمود داخل المجتمع الشيعي، وهذا ما أعلنت ولاية الفقيه الثورة عليه، ولكن هذه الثورة لم تظهر دفعةً واحدة، وإنما تمت من خلال مرحلتين:
المرحلة الأولى : فتح باب الاجتهاد.
المرحلة الثانية: الثورة والخروج على بعض آثار نظرية التقية والانتظار.
وبدأ الأمر بمسألة جواز التعاون مع السلطان القائم، أو جواز قبول الولاية من جهة الظالمين، وبخاصةٍ في إقامة الحدود، وتولي منصب القضاء.
فمسألة العمل مع سلطان الجور وتولي الحدود من قِبَله كانت من المواضيع الأولى التي تحدَّث فيها علماء الشيعة عن دور الفقهاء في النيابة عن الغائب، وكانت من أولى المواضيع التي خرجوا عبرها من كهف الغيبة، وتلتها سائر المواضيع الأخرى.
وقد خطت نظرية ولاية الفقيه خطوات واسعة أضحت معالم بارزة في تاريخها على يد كل من المحقق الكركي، وصولًا إلى المحقق النراقي، وانتهاءً بآية الله الخميني، والذي اهتم اهتمامًا خاصًّا بنظرية ولاية الفقيه وأولاها من وقته الكثير؛ وضمنها أشهر مؤلفاته "الحكومة الإسلامية"، ودعا فيه صراحة إلى إقامة الحكومة الإسلامية المستندة على مبدأ ولاية الفقيه، وحدد أصولها الفقهية وأسسها التي تقوم عليها.
حيث قال: " فللفقيه العادل جميع ما للرسول -صلى الله عليه وسلم- والأئمة مما يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يعقل الفرق، لأن الوالي -أي شخص كان- هو المجري لأحكام الشريعة، والمقيم للحدود الإلهية، والآخذ للخراج وسائر الماليات، والمتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين
فالنبي-صلى الله عليه وسلم- يضرب الزاني مائة جلدة، والإمام كذلك، والفقيه كذلك، ويأخذون الصدقات بمنوال واحد، ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي، ويجب إطاعتهم". [المصدر السابق: ج2 ص467]
وهكذا ينتهي الخميني في بحثه عن نظرية ولاية الفقيه إلى تقرير أن الفقيه له كل ما للرسول –صلى الله عليه وسلم- والأئمة الاثني عشر فيما يتعلق بأمور الحكومة والسياسة؛ فهو الولي في عصر الغيبة، وهو الذي يملك القرارات المصيرية التي تتعلق بالدولة الإسلامية، ولا يملك أحد كائنًا من كان أن يخالفه أو يعترض على حكمه، ومن يتجرأ على ذلك فقد وقع في حرج شرعي، ويكون بمثابة من اعترض على أمر الإمام الغائب، وخالف حكمه.
وهذه هي الصورة الأخيرة التي استقرت عليها نظرية ولاية الفقيه، وقامت على أساسها الثورة التي قادها الخميني في إيران، وانتهت بالإعلان عن إقامة الحكومة الإسلامية، والتي كان الخميني مرجعها الأكبر، وفقيهها الأول النائب عن الإمام الغائب.
الفقيه النائب
صلاحيات مطلقة وسلطات نافذة
وقد أولى علماء الشيعة المؤيدون لخط ولاية الفقيه الفقيه النائب صلاحيات واسعة بل ومطلقة في كل الشئون المتعلقة بالدولة الإسلامية،؛ فله الإشراف على جميع المراكز الأساسية، وله حضور فاعلٌ ومؤثر فيها.
فالفقيه الولي بناء على هذا له الولاية الشرعية العامة في شئون المسلمين؛ السياسية، والاجتماعية، والتربوية، والاقتصادية، والحربية، والتنظيمية، والحياتية بشكلٍ عام. [التشيع نشوؤه – مراحله- مقوماته: عبد الله الغريفي، ص382]
وقد أشار قبل ذلك النراقي إلى أن الفقيه العادل له الولاية على كل ما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- والإمام إلا ما أخرجه الدليل من إجماعٍ أو نصٍّ أو غيرهما، وله الولاية كذلك على كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولا بد من الإتيان به، إما عقلًا، أو عادةً أو شرعًا. [انظر: عوائد الأيام، النراقي، ص188، 189]
ويقول الخميني: "وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمير المؤمنين؛ على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة". [الحكومة الإسلامية، الخميني، ص72]
مستخلصات النظرية
وعلى ضوء ما سبق فإن من ينظر بعناية إلى نظرية ولاية الفقيه، ويتابع سيرها منذ بوادر ظهورها وإلى الآن يجد أنها:
- تمثل من وجهة نظر فقهية وتاريخية شذوذًا عن مسلمات المذهب الشيعي، وخروجًا عن اتجاهاته العامة، بل وأخص خصائصه، ألا وهي عقيدة الإمامة النصية والتي تنتهي عند الشيعة بالإمام الثاني عشر صاحب الغيبتين؛ فنظرية ولاية الفقيه مع أنها مبنية على الإمامة والمهدوية، إلا أنها جمدت هاتين العقيدتين من الناحية العملية.
- أنها تكشف عن المأزق الخطير الذي تعيشه العقلية الشيعية المعاصرة في التوفيق بين الإمامة بمفهومها العريض عندهم وما لها من عصمة، وبين ولاية الفقيه بصلاحيته المطلقة التي تشابه إلى حدٍّ كبير صلاحيات الإمام، وبخاصةٍ فيما يتعلق بعدم مقدرة أحدٍ على محاسبته، وهذا يعني أن وجود الفقيه المجتهد جعل من رجوع الإمام الغائب أمرًا لا حاجة له.
وبعبارة أخرى يمكننا القول: إن ولاية الفقيه نسخت من غير إعلان عقيدة المهدي المنتظر، أو على الأقل جمَّدتها من الناحية العملية. [راجع: عقيدة العصمة بين الإمام والفقيه، محمد الخطيب، ص37].
- بطلان المنظومة المذهبية التي قامت عليها نظرية ولاية الفقيه المنصوب من قبل الأئمة، والنائب عن الإمام الغائب، وهذا البطلان راجع في الحقيقة إلى عدة أمور:
أ*-_ بطلان عقيدة الإمامة النصية، وتهافت دعوى النص والوصية.
ب- انتفاء وجود محمد بن الحسن العسكري الإمام الثاني عشر عند الشيعة، ومهديهم المنتظر، وذلك من خلال القواطع التاريخية، وضعف سند الروايات التي أثبتت وجوده، والاضطراب في متنها، وكذلك الأساطير التي ملئت بها.
ج- تهافت عقيدة الغيبة بشعبتيها عن إثبات وجود الإمام الثاني عشر.
أن البديل لنظرية ولاية الفقيه يتمثل في وجود حكومة إسلامية عادلة تسير على ضوء مقررات الشريعة الإسلامية، ووفق مناهجها وضوابطها، ولا يشترط بحال من الأحوال أن يكون على رأسها فقيه، نعم لو وجد فقيه يمتلك المؤهلات السياسية والكفاءة الإدارية اللازمة لقيادة الدولة فلا بأس؛ بل هو أحق طالما أنه سيتولى منصبه بتفويضٍ من الأمة، وموافقةٍ من أهل الحل والعقد، ولكن هذا لا يعني قصر حق رئاسة الدولة الإسلامية وقيادتها على طبقة الفقهاء بأشخاصهم وأعيانهم، أو أي طبقة أخرى، فحق تبوء منصب القيادة مكفول لكل من يمتلك المقدرة، وتتوفر فيه الصفات والشروط التي اشترطها العلماء في كل من يلي أمر الأمة الإسلامية. [لمزيد من التفصيل راجع: د/ أحمد سيد أحمد علي، ولاية الفقيه عند الشيعة الاثني عشرية وموقف الإسلام منها]

المصدر : "مجلة حراس الشريعة/العدد الثالث" (ص:64),