بسم الله الرحمن الرحيم

( أ- قاسم أمين :
يُعد قاسم أمين أحد أبرز مواطن الجدل الفكري وبؤر الشد والجذب والصراع بين مختلف تيارات الفكر في مصر وخارجها، بما طرحه من تصورات عن المرأة والاجتماع، وهي تتصادم مع التصورات المرجعية الإسلامية السائدة، وتتفارق عنها، حتى ولو حاولت الاقتراب منها، كما تتصادم مع تصور النهضة الإسلامي نفسه. إلا أنه كان له حديث مع إحدى الجرائد السيارة قبل وفاته بعام، تراجع فيها عما سبق أن طرحه في كتابيه «تحرير المرأة» سنة 1899 و«المرأة الجديدة» سنة 1901 الذي دُشنت بهما شهرته وأثره، مما جعل بعض الباحثين يجزم بتحوله وتراجعه عما سبق أن طرحه فيهما. ورغم أن الرجل كانت بدايته مختلفة حيث سبق هذين الكتابين كتابه بالفرنسية «المصريون» الذي كتبه سنة 1894 ردًا على هجوم الدوق الفرنسي «داركور» على مصر والمصريين، وخاصة في نقد هذا الثاني لمسألة الحجاب، وقد دافع قاسم عن الحجاب دفاعًا مستميتًا، وهو ما يعتبر مضادًا لما كتبه فيما بعد في كتابه «تحرير المرأة»، .
فالرجل بدأ منتميًا للتوجه الإسلامي في تصوراته المختلفة «الهوية – المرجعية- النهضة والتقدم»، حيث يرى أن الإسلام يحمل نظامًا سياسيًا متوافقًا مع تعاليمه الدينية، وأنه سر تقدم حضارته في سالف الزمن، وأن التأخر الذي أصاب أممه الآن –في عصره- إنما هو راجع عن البعد عن هذه التعاليم، ولكن كانت كتاباته التالية متدرجة نحو تبني النموذج العلماني في التفكير، حيث أنكر في هذين الكتابين أن يكون المسلمون قد عرفوا أنظمة سياسية في مجتمعاتهم وتاريخهم، وأرجع انهيار حضارتهم وشيوع الاستبداد بالمرأة في تاريخهم إلى افتقادهم لهذه الأنظمة. ورغم أنه في تحرير المرأة حاول تأويل أطروحاته إسلاميًا وإيجاد مخارج فقهية لها يرى العديد من الباحثين أن كاتبها هو الشيخ محمد عبده .
كان في «المرأة الجديدة» أكثر حسمًا وانخلاعًا من التصور الحضاري للتوجه الإسلامي، حيث يرى أنه ليس لدينا نموذج حضاري يصلح للتعاطي المعاصر، مؤمنًا بضرورة الأخذ عن الغرب، ولكن رغم أن بدايته في باريس كانت متصالحة مع التوجه الإسلامي كما يتضح في كتابه «المصريون» ثم هذا التحول المضاد بعده، أنهى حياته باشتباه تحوله، ففضلا عن أن سلوك الرجل في بيته محتفظًا بالسلوك الشرقي، وهو ما شهد به غير واحد من أهله وغيرهم، كان ثمة حوار معه قبل رحيله بعام واحد قال فيه:
«لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف ما جعلني أحمد الله أنه خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي.. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحامًا فمرت به امرأة إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن»! ( جريدة الظاهر 17 أكتوبر 1907م ) .
وهو ما اعتبره البعض من الكتاب تحولاً !
ولكن لا نراه سوى اشتباه في التحول، فالرجل كان على نشاطه حتى قبل وفاته بأسبوع فقط في افتتاح اللجنة التأسيسية للجامعة المصرية، ولو أراد مخالفة لما كان عليه يحمد الله –سبحانه وتعالى- أن قام به غيره لكان أولى أن يقوم بهذه المراجعة بنفسه، خاصة أنه في هذا الحوار المذكور لم يزد عن توقفه إزاء طبائع الناس وأخلاقياتهم السائدة، أي القول بعدم رقيها لما طرحه، لكن البعض من الكتاب والباحثين اعتبره عودًا واعتذارًا عما سبق أن طرحه ، وهو ما لا نظنه صوابًا. وهذا السياق الاجتماعي كان شاغلا لقاسم أمين حتى على مستوى حياته الشخصية فلم يكن متغربًا فيها وهو ما تعددت الشهادة به من أهل بيته ومن أصدقائه وعارفيه.


ب- الشيخ علي عبد الرازق:
كما نجد هذا الاشتباه عند الشيخ على بعد الرازق صاحب كتاب «الإسلام أصول الحكم» الذي اعترف أمام محكمة هيئة كبار العلماء له بما قال فيه من أن: «الإسلام رسالة لا حكم ودين لا دولة» . هذه المقولة التي فصل بها لتجريد الإسلام من الشريعة المنظمة لإسلامية الدولة والسلطة، حيث ترد العديد من الأدلة على تراجع الرجل عن هذه المقولة طيلة حياته، ولكنها تظل في حلقة الاشتباه وعدم اليقين، من قبيل عدم نشره الكتاب حتى وفاته، ورفضه ذلك ، أو اعتراض أسرته على إعادة طبعه، وقول بعضهم إنه كان يكتب نقدًا له فلم يُكمله، أو التبرؤ من الكتاب كلية، أو برواية البعض الآخر أن مؤلفه هو طه حسين، أو استنتاج آخرين أن مؤلفه هو أحد المستشرقين بتوجيه من المخابرات البريطانية والغربية .
كما تناقضت أقوال الرجل أكثر من مرة !
فقد نشر مقالا في مجلة رسالة الإسلام «صوت الأزهر حينئذ» ( مايو 1951م ) ذكر فيها أن قوله إن الإسلام رسالة روحية كلمة يعترف بها ولكن ألقاها الشيطان على لسانه ويبرأ منها .
كما تناقضت شهادات معاصريه : فقد أخبر بعض علماء الدين أنه تبرأ مما كتب ونادم عليه، ولكن أخبر الأستاذ محمود أمين العالم في آخر حوار معه ( مجلة المصور 7 أكتوبر 1966م ) قبل أقل من أربعة شهور على وفاته، كما روى الأخير:
«أنه ما تخلى عن هذا الكتاب يومًا ولن يتخلى عنه أبدًا» !
بل تناقضت آراء أسرته كذلك، فبينما يلح أبنه على أن أباه كان عازمًا على التراجع، وأنه شرع في كتابة تصحيح لما كتب، تلح ابنته وترفض ذلك مؤكدة ثبات أبيها على ما كتب .
مما يجعلنا نحسم أن هذين التحولين لعلي عبد الرازق وقاسم أمين تحولان مشتبهان لا يمكن الحسم بهما أو التأكيد عليهما، فأمثالهما لم يكن ثمة معجز لهما عن تأسيس وجهة نظر متكاملة تحمل تأسيسًا مضادًا لما سبق أن أسسوه وأثار الدنيا حين أثاروه، مما لا يجوز الحسم بها ولا الاستدلال على فساد معتقداتها أو رؤاها السابقة، وإن كانت مفيدة في تتبع سيرة الشخص المفكر وتتبع تطوراته وخطابه. وظننا أن المؤشر على مثل هذه الاشتباه هو هشاشة واهتزاز التصورات العلمانية على أرض لا تنتمي مرجعياتها السائدة –خاصة في هذه الفترة- لنفس المرجعية العلمانية، فهو اهتزاز وتناقض في الرؤى ناتج عن الاغتراب التي عانته وتعانيه كثير منها في المجتمعات المسلمة ) .
( أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار ؛ للأستاذ هاني نسيرة : ص 33 – 35 ) .