هَوى المحققين في تصنيف المُصنفين



الحمد لله، وبه أستعين، وعلى نبيه محمد أُصلي وأسلم..

قال محقق كتاب [ذم الكلام وأهله] لأبي إسماعيل الهروي عن المصنف:
”والكاتب هو أبو إسماعيل الهروي صاحب “منازل السائرين” الذي هو أصل “مدارج السالكين” وصاحب الشهرة الواسعة في الصرامة في الحق والشدة على المبتدعة المارقة، والرجل له ما له، وعليه وما عليه، والله يتولاه، ولو كنا سننشر شيئا من رأيه – نعتصم بالله- لاحتجنا لإقامة الميزان لنعلم هل هو ممن يُقتدى به أو لا؟ حسب أصول أهل التوحيد والسنة المقررة. لكن هذا الكتاب كتاب رواية محضة، والرجل وعاء صدق، والسلف قد تواطأوا على تحمل رواية الآثار عمن وجدت عنده بعض البدع؛ إذا كان صدوقاً، وليست روايته فيما يؤيد بدعته” ص 5-6. هذا ما قاله المحقق في مقدمته عن المصنف؛ فهو: بَدَّع المصنف ولم يترحم عليه ويعتصم بالله أن ينقل شيئاً من رأيه، وأوكل أمره إلى الله! ولا يخفى أن العبارة سِيقت في سياق الذم. وهذا السلوك لم يَخُص به المحقق الهروي رحمه الله دون غيره، يعلق المحقق على قولٍ لسفيان الثوري رحمه الله فيه دفاع عن أبي حنيفة بقوله: ” هذا تأديب من سفيان للرجل في ظرف معين، أما ذمه لأبي حنيفة؛ فكثير!” 420، قلت: ولعله يكون تأديباً من سفيان لك كذلك!
ومعلوم لدى القاصي والداني أن الفقه الإسلامي قام على أصلين وأربعة أركان،أما الأصلان فهما الكتاب والسنة، والأركان الأربعة هم: أئمة المذاهب: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، رَضي من رضي وسخط من سخط.

هذا رأي المحقق في الإمام الهروي، أما رأي ابن القيم رحمه الله -شارح كتاب منازل السائرين- فيقول في مدارج السالكين عن الإمام الهروي:
” فرحمة الله على أبي إسماعيل فتح للزنادقة باب الكفر والإلحاد فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد إنه لمنهم وما هو منهم” 1/148
ويقول: “وعصم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السلف في إثبات الصفات” 1/264

وسماه شيخاً للإسلام -وإن شَرَقَ بها من شَرَق!-: ” شيخ الإسلام – أي : الهروي – حبيب إلينا ، والحق أحب إلينا منه ، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه” 2/37

والعلّامة ابن القيم رحمه الله أعلم بعقيدة السلف وأكثر غَيرة عليها من المحقق، وأعلم بالهروي من المحقق، وابن القيم رحمه الله أكثر مخالطة ومعرفة لأهل البدع من المحقق، وهو ممن فّرَّغ نفسه للانتصار لعقيدة السلف و الرد على المبتدعة وبدعهم، ويكفي ابن القيم أنه أبرز تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، ثم إن الشيخين -شيخ الإسلام وتلميذه- ممن أوذي وامتحن من أجل هذه العقيدة، ومع كل هذا نرى أن ابن القيم لا يَبخس الهروي حقه فضلاً عن أن يبدعه أو يرى أنه ضالٌ لا يكذب في الحديث! فضلا عن أن يعتصم بالله أن ينقل عنه!؛ فقد نقل عنه كثيراً. وهو -أي ابن القيم- حين نقل وشرح كلام الهروي أثبت الحق الذي فيه، ورد الخطأ والباطل الذي يحتويه، ولعل الله أراد للإمام الهروي خيراً لسريرة بين هذا الإمام وبين ربه – أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله- فسَخَّر له الإمام ابن القيم رحمه الله، فألَّف كتابه النفيس “مدارج السالكين شرح منازل السائرين”، فغَصَّ بهذا الكتاب من غَصَّ، وشَرَق به من شَرَق، وإني اعلم أن هناك نفر يودون لو أن ابن القيم ألف كتابه المدارج استقلالا ولم يشرح به المنازل، ولكن الإمام فعل ما تعجز نفوسهم الضيقة عن إدراكه و عقولهم عن استيعابه، ولو تركوا الكِبر وضيق العَطن وأَكبَّو على كتب أئمة الإسلام؛ يتعلمون منها لا ليقوموها لتحصلوا على علم العظيم وخير وفير، ولكن إلى المشتكى من منهج أعرج ذا عِوَج يُنسب زورا وبهتانا لمنهج السلف واعتقادهم.

وهذا العالم المحقق الحُجة الإمام السلفي الذهبي رحمه الله يثني على الهروي، و والله لقد شعرت برعشة تسري في جسدي وأنا أقرأ سيرته في سير أعلام النبلاء، فقد أطال الذهبي في بسطها، وأثنى عليه، وقال عنه –وإن رغمت أنوف!-: ” شيخ الإسلام عبد الله بن محمد بن علي الهروي، الإمام، القدوة، الحافظ الكبير… مصنف كتاب (ذم الكلام)، وشيخ خراسان من ذرية صاحب النبي – صلى الله عليه وسلم – أبي أيوب الأنصاري.”

وذكر في ترجمته أن مُقَدم أهل السنة في الرَّي الحافظ (أبو حاتم بن خاموش) اختبر اعتقاد الهروي فأجازه، وذلك أن السُّلْطَان مَحْمُوْدَ بنَ سُبُكْتِكِينَ منع أن يعظ أحد الناس إلا بعد أن يرتضيه أبا حاتم؛ وذلك لما عمَّت البدعةُ الرَّي، وتسلط فيها الباطنية، قال الذهبي عن أبي حاتم: صاحب سنة وإتباع.

قال الذهبي: “ قال أبو سعيد السمعاني:كان أبو إسماعيل –أي الهروي- مظهرا للسنة، داعيا إليها، محرضا عليها، وكان مكتفيا بما يباسط به المردين، ما كان يأخذ من الظلمة شيئا، وما كان يتعدى إطلاق ما ورد في الظواهر من الكتاب والسنة… ولا يأخذ من السلطان ولا من أركان الدولة شيئا، وقل ما يراعيهم، ولا يدخل عليهم، ولا يبالي بهم، فبقي عزيزا مقبولا قبولا أتم من الملك، مطاع الأمر نحوا من ستين سنة من غير مزاحمة… وقد كان هذا الرجل سيفا مسلولا على المتكلمين، له صولة وهيبة واستيلاء على النفوس ببلده، يعظمونه، ويتغالون فيه، ويبذلون أرواحهم فيما يأمر به.

كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير، وكان طودا راسيا في السنة لا يتزلزل ولا يلين، لولا ما كدر كتابه(الفاروق في الصفات) بذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسن قصده، وصنف(الأربعين) في التوحيد، و(أربعين) في السنة.”

ويقول الذهبي: “وقد امتحن مرات، وأوذي، ونفي من بلده. قال ابن طاهر: سمعته يقول: عُرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي:ارجع عن مذهبك. لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك. فأقول: لا أسكت!.”، ” وقد جمع هذا –أي الهروي- سيرة للإمام أحمد في مجلد”.

والذهبي رحمه الله لا يخفى عليه حال الهروي، بل يعرفه حق المعرفة، ومع ذلك قال عنه ما قال، يقول ” وَلَقَدْ بالغ أَبُو إِسْمَاعِيْلَ فِي (ذَمِّ الكَلاَمِ) عَلَى الاَتِّبَاع فَأَجَاد، وَلَكِنَّهُ لَهُ نَفس عَجِيْب لاَ يُشْبِهُ نَفَسَ أَئِمَّة السَّلَف فِي كِتَابِهِ (مَنَازِل السَّائِرِيْنَ) ، هذا ما قاله ولم يَزِد عليه. ولأن البعض استغل بعض ما أُخذ على الهروي بنسبته إلى البدعة، أو الانتساب إليه من المبتدعة، يقول الذهبي : “ كلا، بل هو رجل أَثَري، لَهِجٌ بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا” وذكر الذهبي أخباراً كثيرة للهروي في نصر السنة وقمع البدعة، والإنكار على السلاطين، وهيبة السلاطين منه، وقد كان الهروي رجلاً مهيباً جداً، وكم مرة وَشى به الواشون لدى السلطان فإذا حضر الهروي سكتوا وأُسقط في أيديهم من هيبته، فتعود وشايتهم عليهم لأنهم أحرجوا السلطان مع هذا الإمام! ولعل هذه بالذات التي أقضت مضاجع البعض!!

هذا هو حديث الإمام الذهبي عن الهروي رحمهم الله، فهل بعد هذا الكلام كلام، أفلا يَسع المحقق ما وسِع الإمامين ابن القيم و الذهبي، بل ما وسع الأئمة؛ أهل زمان الهروي ومن بعده الذين كانوا يجلونه ويعظمونه ويقدمونه، وقد تعمدت الإطالة في النقل من الذهبي انتصاراً للإمام الهروي وذَباً عن عرضه، فبأي حقٍ، وأيِ مروءة تلك التي تجعل المرء يَعمد لكتاب من كتب أهل السنة، وهو كتاب سُنة ينتصر للسنة ثم يُنسب صاحبه للبدعة؟!. قال وزَعم: إنه كتاب رواية! وهل من كان فاسد الاعتقاد سيختار هذا الاختيار؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! عبارة –أي سبحانك هذا بهتان عظيم- قالها الهروي رحمه الله بصوته الجهوري بحضرة السلطان حين اُفتري عليه فانخلع لها قلب السلطان! ذكر الخبر الذهبي.

ولولا خشية الإطالة أكثر لأكثرت، لا سِيَّما أن سيرته مما تطرب لها النفوس، وما أطلت إلا حينما رأيت المحقق، بخس المصنف حقه، فقدح في ديانته واعتقاده، وشَحَّ عليه –حتى- بالترحم و الدعاء! بل حتى بذكر سنة المولد، أما الوفاة فقد ذكرها على الغلاف!

والمحقق لم يَكتفِ بالهروي، فهو وضع “كشَّاف عقائد المخالفين وغيرهم الذين ورد ذكرهم في الكتاب” (ذم الكلام ص 45)، و من هؤلاء: أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة وابن حجر العسقلاني وغيرهم من الأئمة، وحشرهم مع بشر المريسي والجعد بن درهم والمختار وعمرو بن أبي عبيد وغيلان وابن أبي دؤاد وابن سبأ اليهودي و… ومسيلمة الكذاب!! وغيرهم الكثير، فهم عنده سواء!

أما إمام الأحناف و ما أدراك ما إمام الأحناف! فقد صوره المحقق –بتعليقاته التي أفسد بها الكتاب- رأساً في البدعة وباباً من أبواب الشر، وفتح لهم أبواباً إلى …، إلى الضلالة! –دعونا نقولها- ولم يفتح لهم باباً إلى الجنة! وقد عجبت من حرصه على تتبع اسمه، و الزَجِّ في كل موضع، وبمناسبة ومن دون مناسبة، ولأن المصنف صاحب بدعة –كما يراه المحقق!- فقد يُخطئ ويثني على الإمام، لذا فقد التزم المحقق بذم الإمام بعد كل ثناء، أو التعريض به، فهل هذا هدي السلف في التعامل مع أئمة الإسلام؟ وعلمائه العظام؟ وحتى لا يُلقى الكلام على عواهنه؛ هاكم بعض الأمثلة: أورد المصنف –فهو كتاب رواية محضة كما يقول المحقق!- رواية عن سفيان رحمه الله دافع فيها عن أبي حنيفة، علَّق المحقق بقوله: “هذا تأديب من سفيان للرجل في ظرف معين، أما ذمه لأبي حنيفة؛ فكثير!” (ذم الكلام 420) ، ما دخلك يا حضرة المحقق بين الإمامين؟ ألا تتأدب كما أراد سفيان؟ ألا تترك الرواية كما هي!

ويقول عن أبي حنيفة ” أن رأي أبي حنيفة لا ثبات له ولا أصل؛ بل يتلون” (ذم الكلام 533)، ولأن الهروي إمام متجرد، على طريقة السلف وليس على هَوى المحقق؛ فقد نقل هذه الرواية التي غَصَّ بها المحقق، قال الهروي: بسنده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة؛ يقول: “قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد؛ فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام، وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام” أ.هـ الهروي، بعد هذا النص الذي كالشمس، يَسُل المحقق قلمه ويضع تعليقه هذا بجوار هذا النص ويكتب بين قوسين! : “لكنَّ أبا حنيفة فتح للناس الطريق إلى الإرجاء و القياس و الرأي و الاستحسان والحيل و السيف وغير ذلك كما هو معلوم!” (ذم الكلام 461 ). والمحقق أستاذ في الفقه!
وإني لأعجب ممن ينبري لكتاب يُحققه، ثم يبيعه! ثم يبخل على مصنفه بالدعاء و الترحم! وكلي رجاء أن يُقيض الله لهذا السِفر الثمين من يحققه ويحسن الاعتناء به على وجه يليق بمصنفه الإمام شيخ الإسلام عبدالله بن محمد الهروي الأنصاري رحمه الله. ورحم الله الشيخ بكر أبو زيد صاحب كتاب (الرقابة على التراث).

وتجدر الإشارة إلى أن السلف رحمهم الله:
أ ) قد يصدر من بعضهم لبعضهم أمر ونقد وشِدة، لذا قالوا “كلام الأقران يطوى ولا يروى”، وبعض المتعلمة لا يستطيع استيعاب كيف يَحتد بعض علماء زمن في نقد عالم من زمنهم، ثم يأتي من بعدهم فيَغضَّ الطرف عن ذلك الكلام ولا يلقي له بالاً ويترحم عن كِلا الطرفين، ويَعدهم جميعاً من العلماء، أما الخطأ البَيِّن وكذلك الاجتهادي فلا يجامل أحد فيه، ولهذا الصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالته الشهيرة “رَفع الملام عن الأئمة الأعلام” والتي دافع فيها عن أبي حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه، و التي –ربما- لم يَطلع عليها المحقق!
ب ) أنه ما من عالم إلا وله زَلة وخطأ، والمعصوم هو سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وما سواه يخطئ ويصيب، فصوابه يؤخذ وخطأه يترك، ويَغضون الطرف عنه، ويعتنون بفضائله وعلمه، ولا يرون أن هذا قادح فيه أو في علمه.
ج ) علماء السلف رحمهم الله يفرقون بين صاحب البدعة الداعي إليها وبين صاحب الخطأ والزلل، فصاحب البدعة الذي سخَّر وقته وجهده لنصرة بدعته ليس كالعالم الذي أخطأ وزلَّ في باب من الأبواب، وإن كان هذا الباب أحد أبواب العقيدة!! وإن غَصَّ بهذا المنهج من غَص، وإن شَرَق به من شَرَق! لذا حين تقرأ في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي يأتي ذكر بعض الأعلام، ويترحم عليهم ويُثبت علمهم وإمامهم ويُنبه على خطأهم وزللهم ولا يسلبهم ما مَنَّ الله به عليهم من العلم و الفضل و الفقه والنفع للناس، بخلاف قوله عن المبتدع الذي تفرغ لبدعته.
د) يُفرِق علماء أهل السنة و السلف رحمهم الله بين القول الناشئ المخترع في زمن تسود فيه السنة و لا أثر فيه للبدعة وبين زمن ساد في القول وشاع وكثر، فهذا قد يغلظون له القول، ويشتدون، وينكرون ويحذرون، وقد يعتذرون للقائل إن كان صاحب سنة ولم يكن رأسا أو داعيا للبدعة، و المراد: أن الاعتذار يحصل للمتأخر بخلاف المتقدم، و النصوص في هذه كثيرة، والأمثلة متضافرة، ومعلوم أن الأشعرية سادت العالم الإسلامي، فتأثر بها كثير من علماء الإسلام، فلم يبدعوا أو يحذر منهم، وكان من سلك هذا المسلك شاذ عن هدي السلف رحمهم الله، بل تلك أخطاء وزلات تغمر بحر الحسنات، والله يغفر لهم ويرحمهم، ومن تلطف علماء السلف معهم مع من أخطأ أن قالوا عنهم: قال بقول الأشاعرة أو وافق الأشاعرة ونحو ذلك من العبارات التي يلتمس منها الاعتذار.

قال الذهبي: قَالَ أَبُو الوَقْتِ السِّجْزِيُّ:دَ َلْتُ نَيْسَابُوْر، وَحَضَرتُ عِنْد الأُسْتَاذِ أَبِي المَعَالِي الجُوَيْنِيّ، فَقَالَ:مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ:خَادمُ الشَّيْخ أَبِي إِسْمَاعِيْلَ الأَنْصَارِيّ. فَقَالَ:رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قُلْتُ:اسْمَع إِلَى عقلِ هَذَا الإِمَام، وَدَعْ سَبَّ الطَّغَام، إِنْ هُم إِلاَّ كَالأَنعَام.

والله أعلم ..

عبدالرحمن الصبيح
الأحد| 22/3/1434 هـ