تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: شبهة تعطيل النصوص من دلالاتها بالتأويل تحت دعوى أنّ الاحكام تتغير بتغير الزمان

  1. #1

    Lightbulb شبهة تعطيل النصوص من دلالاتها بالتأويل تحت دعوى أنّ الاحكام تتغير بتغير الزمان

    جاء في كتاب (الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية (دراسة نقدية)) للدكتور مفرح القوسي هذا الرد المنهجي على شبهة تعطيل النصوص من دلالاتها بالتأويل تحت دعوى أنّ الاحكام تتغير بتغير الزمان

    صورة الشبهة :

    أن الأحكام تتغير بتغير الزمان ، وانه لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات والظروف والأحوال المختلفة المتباينة إلاّ بتاسي معقولية الأحكام الشرعية وذلك :

    1 - باتخاذ المصالح أساسا للتشريع .
    2 - وبجعل دوران الحكم الشرعي مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة فاعتبار المصلحة هو اصل الأصول كلها .
    3 - وبربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها ، فلا بد - مثلا - من ربط عقوبة القطع في السرقة بأسباب نزولها وهي ما كان عليه العرب قبل الإسلام وزمن البعثة النبوية من حيث إقامتهم في مجتمع بدوي صحراوي واعتمادهم على التنقل والترحال طلبا للكلأ مما يلزم معه قطع يد السارق ولا بد من ربط وجوب إعفاء اللحى وحف الشوارب المأمور به في الحديث (1) بأسباب نزوله وهو ما كان عليه زي المشركين وعاداتهم وقت نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم والقصد إلى مخالفتهم فيه وأزياء الناس وعاداتهم لا استقرار لها .

    وأن مما يدل على أن الاحكام تتغير تبعا لتغير المصالح والزمان أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقسم أرض العراق بين المقاتلين المسلمين قسمة الغنائم حين فتحها الله عليهم عنوة كما فعل صلى الله عليه لما فتح الله عليه أرض خيبر عنوة بل عمد إلى إقرارها في أيدي اهلها ووضع الخراج فيها عليهم

    الردّ عليها :

    هذه دعوى مركّبة من مقدمات خاطئة وشبهات باطلة تحتاج إلى تجلية وبيان نجمله في النقاط التالية :
    أوّلا : إنّ إطلاق القول بأنّ : (الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان) أمر فيه نظر ، ذلك أنّ الحكم الشرعي لمسألة من المسائل ثابت لا يتغير ، طالما أنّ المسالة لم تتغير صورتها ، أو لم يتغير الإجتهاد لضعف مدرك الحكم أو لزواله ، فمثلا لا يمكن ان تكون الميتة محرّمة في زمن ، مباحة في زمن آخر ، إلاّ أنّ تختلف صورة المسألة التي حكم الشرع بحرمتها فيها . فإن قلنا : (الميتة محرّمة حال الإختيار ، فإذا اضطرّ الإنسان أبيحت له الميتة بقدر الضرورة) ، فلا يكون الحكم حينئذ قد تغير ، ذلك أنّ حكم التحريم ثابت لا يتغير في حال الإختيار ، ولكن انتقال الإنسان إلى حالة أخرى ، وهي حالة الإضطرار أوجبت له الإنتقال إلى حكم آخر وهو الإباحة ، فإذا زالت الضرورة رجع الحكم الأوّل (2)
    ومثل ذلك : سقوط حدّ السرقة عام المجاعة ، فإنّ حدّ السرقة ثابت لا يمكن أن يتغير ، طالما توفرت شروط إقامة الحد ، ولكن الذي حضل في ذلك العام هو قيام شبهة قوية درأ بها الحدّ ، وهي غلبة الحاجة والضرورة - آنذاك - على الناس ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسد رمقه ، ولكنّ إذا ثبت أنّ السارق لا حاجة به إلى السرقة قطع ولو كان في عام المجاعة (3)
    فالحاصل أنّ الحرام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حرام إلى يوم القيامة ، والحلال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حلال إلى يوم القيامة ، لا يمكن لأحد تبديله ولا تغييره كائنا من كان . وفي ذلك يقول عمر ابن عبد العزيز رحمه الله : (أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد كتابكم كتاب ، ولا بعد سنتكم سنة ، ولا بعد أمتكم أمة ، ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة) (4) وحينما يطلق العلماء من سلفنا الصالح القول بتغير الأحكام فإنهم إنما يعنون ما قرّرناه آنفا وهذا ظاهر لمن تدبّر نصوصهم ، بل قد نصوا على مرادهم .
    يقول الشاطبي رحمه الله : (واعلم أن ما جرى ذكرُه هنا، من اختلاف الأحكام المتبدلة عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه أبديٌّ، لو فُرِضَ بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك، لم يُحْتَجْ في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادةٍ إلى أصل شرعي يُحْكَمُ بها عليها، كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبيِّ ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف... وهكذا سائر الأمثلة، فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق) (5)

    ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان ، وتطور الأحوال ، وتجدد الحوادث ؛ فإنه ما من قضية ، كائنة ما كانت ، إلا وحكمها في كتاب الله تعالى ، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نصّاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك ، علِم ذلك مَن علمهُ ، وجهله من جهله ، وليس معنى ما ذكره العلماء من " تغير الفتوى بتغير الأحوال " : ما ظنه من قَلَّ نصيبهم - أو عُدم - من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها ، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية ، وأغراضهم الدنيوية ، وتصوراتهم الخاطئة الوبية ، ولهذا تجدهم يحامون عليها ، ويجعلون النصوص تابعة لها ، منقادة إليها ، مهما أمكنهم ، فيحرفون لذلك الكلِم عن مواضعه ، وحينئذ معنى " تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان " : مراد العلماء منه : ما كان مستصْحَبة فيه الأصول الشرعية ، والعلل المرعية ، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ) (6)

    وبهذا يظهر الفرق واضحا جليا بين مصطلح (تغير الفتوى) ومصطلح (تغير الأحكام) ، (فإنّ تغير الأحكام نسخ ، وهذا قد انقطع بانقطاع الوحي ، أما تغير الفتوى فهو : إنتقال مجتهد من حكم إلى حكم آخر لتغيير صورة المسألة ، أو ضعف مدرك الحكم الأول أو زواله أو ظهور مصلحة شرعية ، أو سدا لذريعة فساد ، أو رفع حرج مستصحبا في ذلك الأصول الشرعية والعلل المرعية والمصالح الموافقة لمراد الله ورسوله ) (7)

    ثانيا : إنّ (تغير الأزمان والأحوال والأعراف والعوائد لا يصلح أن ينصب سببا لتغير الفتوى دون ربطها بالأصول الشرعية والعلل المرعية والمصالح التي جنسها مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا . نعم : هو سبب يدعو المجتهد المفتي إلى إمعان النظر في مدارك الأحكام ، فإذا تحقق من ضعف المدرك أو زواله أو ترجح غيره عليه لمصلحة معتبرة شرعا غير موهومة فإنّه ينظر حينئذ في أمر تغيّر الفتوى معتمدا في ذلك على الدليل الشرعي ، وهذا ما عمله الصحابة رضوان الله عليهم ، ومن جاء بعدهم من سلفنا الصالح . حينما رأو [الإفتاء] بخلاف ما عليه العمل لم يخرجوا بالفتوى الجديدة عن قواعد الشرع واصوله ، ولا عن قواعد الأئمة وأصولهم ، بل قيّدوا المطلق وخصّصوا العام بمقتضى الادلة الشرعية ، وأعملوا القواعد الأخرى في الشريعة (8)

    ثالثا : إنّ تغيّر الفتوى مقصور على طائفة متخصصة ، وهم حملة الشريعة وورثة الأنبياء أهل الإجتهاد والفتوى ، فليس لغيرهم منازعتهم هذا الأمر ، ولا القول على الله بغير علم (9)

    رابعا : إنّ تقسيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأراضي المفتوحة عنوة بين المقاتلين المسلمين قسمة الغنائم ، ليس فيه دليل على ما ذهب إليه أصحاب هذا الإتجاه هنا ، ولا يثبت من دعواهم شيئا لما يلي :

    1 - لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم خيبر كلّها قسمة الغنائم كما يدعي أصحاب هذا الإتجاه ، بل وقف نصفها لمصالح المسلمين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قسّمها على ستة وثلاثين سهما ، ثمّ جعل له وللمسلمين النصف من ذلك ، وترك الباقي لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس (10)

    2 - ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قضى بعدم القسمة هنا لم يفعل ذلك إعمالا لرايه وإهمالا للنص ، ولم يكن هذا من قبيل تغير الحكم تبعا لتغير المصالح والزمان .
    فلقد قضى رضي الله عنه بعدم القسمة استنادا إلى ما جاء في سورة الحشر في قوله تعالى : ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير (6) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولايجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) [الحشر : 6-7-8-9]

    حيث يذكر العلماء أنّ عمر رضي الله عنه - بعد أن فتحت العراق - شاور اصحابه في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من أرض العراق والشام ، فطلب بلالا رضي الله عنه وجماعة معه أن تقسم الأرض بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العسكر ، فقال عمر : (فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ؟ ما هذا برأي ، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : فما الرأي ؟ وما الأرض والعلوج إلاّ مما أفاء الله عليهم ، فقال عمر : ما هو إلاّ كما تقول ولست أرى ذلك (11) والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل ، بل عسى أن يكون كلا على المسلمين ، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور ؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وغيره من أرض الشام والعراق ؟ ) (12)
    واقترح علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن تترك الأرض بدون قسمة لتكون مادة للمسلمين ، كما رأى معاذ بن جبل رضي الله عنه الراي نفسه وقال مخاطبا عمر : إنّك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثمّ يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة ثمّ يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئا فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم .
    ثمّ عاد بلال ومن معه يطالبون بالقسمة وأكثروا على عمر في ذلك قائلين : أتقف ما افاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ؟ وعلى أبناء القوم وابناء أبنائهم ولم يحضروا ؟ فكان عمر لا يزيد على أن يقول : هذا رأي .
    فطلبوا منه أن يستشير الناس ، فاستشار المهاجرين الأولين ، فاختلفوا ، حيث راى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن تقسم لهم حقوقهم ، وراى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم عدم القسمة .
    فأرسل رضي الله عنه إلى عشرة من الأنصار : خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم ، فلمّا اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ قال : (إنّي لم أزعجكم إلاّ لتشتركوا في أمانتي فيما حمّلت من أموركم ، فإنّي واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني ووافقني من وافقني ، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي [هويت] ، معكم من الله كتاب ينطق بالحق فوالله لئن كنت نطقت بامر أريده ما أريد به إلاّ الحق . قالوا : نسمع يا أمير المؤمنين ، فقال : قد سمعتم كلام هؤلاء الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم ، وإنّي أعوذ بالله أن اركب ظلما ، لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت ، ولكني رأيت انه لم يبق شيء يفتح بعد ارض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم ، فقسمت ما غنموا من أموال بين اهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه ، وقد رايت أن أحبس الارضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين : المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم . أرايتم هذه الثغور ؟ لا بد لها من رجال يلزمونها ، ارايتم هذه المدن العظام - كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر - لا بدّ لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم ، فمن يعطي هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج ؟ ، فقالوا جميعا : الرأي رايك فنعم ما قلت وما رأيت إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم (13)
    واستمرت المناقشات حول هذا الموضوع يومين أو ثلاثة ولم تنته إلاّ حين قال عمر : إني قد وجدت حجة : قال الله تعالى في كتابه : (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم ... ) إلى آخر الآية ، وقال : فهذه عامة في القرى كلها ، ثمّ قرأ : (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ... ) إلى آخر الآيتين وقال : وهذه للمهاجرين ثمّ لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال تعالى : (والذين تبوءوا الدار والإيمان .... ) إلى آخر الىية ، وقال : فهذا فيما بلغنا - والله أعلم - للأنصار خاصة ، ثمّ لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال تعالى : (والذين جاءوا من بعهدهم) إلى آخر الآية ، وقال : فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم ، فقد صار الفيء بين هؤلاء جميعا فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من تخلّف بعدهم بغير قسمة ؟ . فأجمع على تركه وجمع خراجه (14)
    (ويتضح من ذلك كله أنّ عمر رضي الله عنه لم يقض بعدم القسمة إلاّ بعد أن تحقّق من أنه الامر الذي يتفق مع ما تقضي به آيات الحشر ، ويدل على ذلك أنه لم يسارع إلى القضاء به رغم أنه يمثل وجهة نظره التي لم يقتنع بها ورغم موافقة علي ومعاذ وعثمان وطلحة وعبد الله بن عمر وغيرهم من كبار الصحابة موافقة مقرونة بالتعليل المناسب ، بل ورغم موافقة الجمع الكبير من الصحابة على ما رآه موافقة شبه جماعية ) (15) ، ولذا قال رضي الله عنه بعد تفكير وتمعن امتد أياما : (لقد استوعبت هذه الآيات الناس إلى يوم القيامة ، والله ما من أحد من المسلمين إلاّ وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع حتى الراعي بعدن ) (16) ، وقال : (ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه (17)

    إذا لقد قضى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بعدم القسمة استنادا إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة (18) ، وهو بذلك قد أعمل النصوص ولم يمهلها ، فكيف يمكن أن يقال بعد هذا كله أنّ فعله رضي الله عنه هو من قبيل تغير الأحكام تبعا لتغير المصالح والزمان ؟!!

    خامسا : تتضمن هذه الدعوى المبالغة في إطراء المصلحة وتقديمها على النص ، وهذا ما لا يسلم لأصحاب هذا الإتجاه ، ذلك أنّ الشارع الحكيم جاء بمصالح العباد ، وجاء بالطريق الذي يدلنا على ذلك ، فجعل النصوص محققة للمصلحة إبتداء لأنها رحمة للعالمين ، فالقرآن الكريم هدى ورحمة ، فلو لم تحقق نصوصه المصلحة فكيف يكون هدى ورحمة ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين
    ، فلو لم تكن أحاديثه تحقق المصلحة والرحمة فكيف يكون هو رحمة للعالمين ؟ فغاية النص وهدفه وحكمته هي المصلحة ، ولا يقبل مطلقا أن يقال إنّ مصلحة ما عارضت النص ، فالنص هو عدل كله ورحمة كله وعدل كله ومصلحة كله لأنه من لدن ربّ الارباب ، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص إلاّ إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم ، ألم يبين الله لنا أن كتابه هو الصراط المستقيم ، وأنّ سنة نبيه هي البيان له ، وأن من اتبع هذا النبي عليه الصلاة والسلام هدي إلى ذلك الصراط المستقيم ؟
    أفلا يقتضي هذا اتباع النصوص ورفض الأهواء وعدم تحكيم العقوق المخالفة لمقتضى تلك النصوص ؟ كيف وقد جاءت هذه الشريعة بذم الأهواء ، وذم التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعلت المفارق للإجماع المشاق للرسول صلى الله عليه وسلم متبعا غير سبيل المؤمنين ، أفلا يكفي كل ذلك للقطع بأنّ الهدى والخير والمصلحة والرحمة في اتباع هذه النصوص (19)

    سادسا : إنّ العلة احد اركان القياس ، وهي الوصف الجامع بين الفرع والأصل المناسب لتشريع الحكم ، وهي ثابتة ودليل ثبوتها ظهورها وانضباطها ، وهذا قدر متفق عليه في أوصاف (العلة) ، ومعنى ظهورها وانضباطها : ثباتها وعدم إختلافها باختلاف الأشخاص وباختلاف البيئات والأحوال ، فالنّسب - مثلا - يثبت بقيام فراش الزوجية أو الإقرار ، وهذا فيه معنى الظهور ، وفيه ايضا معنى الإنضباط تماما مثل كون (السكر) هو العلة لتحريم الخمر ، فهو أمر ظاهر في أن من شرب (المسكر) أصابه السكر عادة ، وهو كذلك ثابت متعلق بالخمر ذاتها وبكل مسكر ، فهي إذا علة ظاهرة ومنضبطة وهذا معنى ثباتها ، ولذلك ربط الشارع الحكم بها وجودا وعدما ، وقرّر فقهاء الأمة وعلماء الشريعة قديما وحديثا أنّ الحكم الشرعي يدور مع علته لا مع حكمته ، لأن الحكمة قد تكون خفية غير ظاهرة في حين أن العلة من شروطها أنها وصف ظاهر منضبط ، وقد تكون الحكمة أمرا راجعا إلى تقدير الناس ، ومعلوم أنّ الناس يختلفون في تقدير المصالح ، فيما يراه شخص مصلحة قد يراه أخر عين المفسدة ، وليس هناك أضرّ على الغسلام في أحكامه الشرعية من التحسين والتقبيح العقليين . فالشريعة وضعت الحكم بإزاء السبب ولم تضعه بإزاء الحكمة والمصلحة ، وذلك لأن السبب هو الوصف الظاهر المنضبط ، وأما الحكمة والمصلحة فتختلف مقاديرها باختلاف الأشخاص والأحوال .

    سابعا : لا يجوز مطلقا ربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها :

    1 - لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم عند علماء الأمة وفقهائها ، فالحكم الشرعي الذي تتضمنه الىية أو الحديث لا يقتصر على الحادثة - في ذاتها بأشخاصها وظروفها - التي من أجلها نزلت الآية أـو ورد النص بتخصيصه فيها . والنصوص الواردة بشأن المثالين المذكورين في هذه الدعوى (20) ليس فيها شيء من هذا التخصيص ، بل جاءت عامة لجميع الحالات ، يقول الله تعالى في المثال الأول : (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ) (21) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في المثال الثاني : (انهكوا الشوارب واعفوا اللحى) ، وفي رواية (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) (22)

    2 - لأن ربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها إجراء عقلاني تعسفي ليس للداعين إليه دليل ومستند شرعي ، وهو عمل بدعي لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام ولا التابعون لهم بإحسان ، ولا أحد من سلف الامة وأئمتها .

    3 - ولأن من لوازمه إبطال حكم النصوص الشرعية وفتح الباب واسعا للأهواء والشهوات في تحديد ما يؤخذ وما يرد من أحكام الشرع ، وجعل تلك الأحكام المنزلة في الكتاب والواردة في السنة قابلة للتأويل والتعطيل والنسخ فتصبح - حينئذ - مجرد مواقف تاريخية وحلول لمشاكل تخص واقع الجزيرة العربية في ذلك الوقت ، فهي إذا إفراز تاريخي مرتبط بزمانه ومكانه لا يتجاوزهما ، وليست وحيا منزلا ولا شرعا ملزما ، ولا صادرة من علام الغيوب وهذا يؤدي - بلا شك - إلى فقدان الوحي لمبررات البقاء والخلود .

    .............................. ....................

    الهامش :

    1 - وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفظوا الشوارب )
    2 - أنظر : د عبد الله الغظميل - بحث (تغير الفتوى - مفهومه وضوابطه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي) المنشور في مجلة (البحوث الفقهية المعاصرة) في العدد (35) الصادر في ربيع الىخر 1418/أكتوبر 1997 ص 11-12
    3 - راجع : اعلام الموقعين - لابن القيم ج 3 / ص 11-12
    4 - الشاطبي - الإعتصام ج 1 / ص 86 . وانظر ابن الجوزي - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز ، ص 69 ط الأولى 1404 ه/ 1984 م دار الكتب العلمية - بيروت .
    5 - الموافقات ج 2 / ص 285 - 286
    6 - مجموعة رسائل وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ج 12 / ص 289 جمع الشيخ محمد بن قاسم ، ط مطبعة الحكومة السعودية
    7 - انظر : د . الغطميل - (بحث تغير الفتوى) ص 13 - 16 . وراجع : الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية - للدكتور عابد السفياني ص 541 ، ط الأولى 1408 ه / 1988 م مكتبة المنارة - مكة المكرمة
    8 - انظر : المرجع السابق ص 22
    9 - انظر في هذا كلا من : سنن أبي داود ج 3 / ص 159 - 160 ، وشرح النووي لصحيح الغمام مسلم ج 12 / ص 164 - 165 ، ونيل الأوطار ج 8 / ص 15
    10 - سورة الحشر ، الآيات : 6 - 10
    11 - يعني أنّ الأرض ممّا افاء الله عليهم كما تقول ، ولكني لست مع هذا لا أرى تقسيمها .
    12 - أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم - الخراج ص 26
    13 - المرجع السابق ص 27
    14 - أنظر المرجع السابق ص 27 - 29
    15 - د. إبراهيم بن عثمان الشعلان - نظام مصرف الزكاة وتوزيع الغنائم في عهد عمر بن الخطاب ص 209 ط عام 1402 ه مطابع الإشعاع التجارية - الرياض
    16 - البيهقي - السنن الكبرى ج 6 / ص 351 - 352 . وانظر : يحيى بن ىدم القرشي - الخراج ص 43 - 44 ط عام 1347 ه المطبعة السلفية ومكتبتها - القاهرة .
    17 - أبو يوسف - الخراج ص 25
    18 - أما نصوص الكتاب فهي آيات سورة الحشر وأما السنة فاعني بها فعله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر على النحو الذي ذكرناه آنفا في فقرة (أولا)
    19 - انظر : د . عابد السفياني - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ص 500 - 501
    20 - أعني وجوب قطع يد السارق ووجوب إعفاء اللحية
    21 - سورة المائدة الىية 38
    22 - سبق تخريجه في ص 258 من هذا المبحث
    قال الشيخ العلامة حمود بن عبدالله التويجرى - رحمه الله - :" الألبانى علم على السنة والطعن فيه طعن فى السنة "

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2007
    المشاركات
    17,333

    افتراضي رد: شبهة تعطيل النصوص من دلالاتها بالتأويل تحت دعوى أنّ الاحكام تتغير بتغير الزمان

    جزاك الله خيرا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •