كلامٌ ماتعٌ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة ، في مسألة "العذر بالجهل" .
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة _رحمه الله_ : " ..هذا ؛مع أني دائماً _ومن جالسني يعلم ذلك مني_: أني من أعظم الناس نهياً ، عن أن ينسب معينٍ ؛ إلى تكفيرٍ وتفسيقٍ ومعصيةٍ ، إلَّا إذا علم أنه ؛ قد قامت عليه الحجة الرسالية ، التي من خالفها ؛ كان كافراً تارةً وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى ، وإني أقرر ؛ أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية ، والمسائل العملية .
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ، ولم يشهد أحدٌ منهم على أحدٍ ، لا بكفرٍ ولا بفسقٍ ولا معصيةٍ ، كما أنكر شريح قراءة من قرأ {بل عجبت ويسخرون} وقال: إن الله لا يعجب ، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ {بل عجبت} . وكما نازعت عائشة ، وغيرها من الصحابة ؛ في رؤية محمد ربه وقالت : "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية" ، ومع هذا ؛ لا نقول لابن عباس ، ونحوه من المنازعين لها : إنه مفترٍ على الله .
وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي ، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله ، وغير ذلك . وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال ، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان ، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم ، لأن المقاتل وإن كان باغياً ؛ فهو متأولٌ ، والتأويل يمنع الفسوق .
وكنت أبيِّن لهم ؛ أنما نقل لهم عن السلف والأئمة ، من إطلاق القول ، بتكفير من يقول كذا وكذا ؛ فهو أيضا حق ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين .
وهذه أول مسألةٍ ؛ تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار ، وهي مسألة " الوعيد " ، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقةٌ ، كقوله {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية ، وكذلك سائر ما ورد من فعل كذا فله كذا ؛ فإن هذه مطلقةٌ عامةٌ ؛ وهي بمنزلة قول من قال من السلف ؛ من قال كذا ؛ فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه:؛ بتوبة ، أو حسناتٍ ماحيةٍ ، أو مصائب مكفرة ، أو شفاعة مقبولةٌ .
والتكفير هو من الوعيد ، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلامٍ أو نشأ ببادية بعيدةٍ ،ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده ؛ حتى تقوم عليه الحجة ، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص ، أو سمعها ولم تثبت عنده ، أو عارضها عنده معارض آخر ، أوجب تأويلها ، وإن كان مخطئاً .
وكنت دائما أذكر الحديث الذي في "الصحيحين" في الرجل الذي قال: " إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله ! لئن قدر الله علي ؛ ليعذبني عذاباً ؛ ما عذبه أحداً من العالمين ، ففعلوا به ذلك ، فقال الله له : "ما حملك على ما فعلت ؟ ، قال خشيتك . فغفر له } ".
فهذا رجلٌ شك في قدرة الله ، وفي إعادته إذا ذري ، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفرٌ باتفاق المسلمين ، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك ، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه ؛ فغفر له بذلك،. والمتأول من أهل الاجتهاد ، الحريص على متابعة الرسول ؛ أولى بالمغفرة من مثل هذا ".
مجموع الفتاوي "2/231) .