ما المراد بقوله : " من قال لأخيه يا كافر ؛ فقد باء بها أحدهما " ؟ .
قال ابن عبد البر في "التمهيد " (17/ 14) : "
والمعنى فيه عند أهل الفقه والأثر _أهل السنة والجماعة_ النهي عن أن يكفر المسلم أخاه المسلم ، بذنبٍ أو بتأويلٍ ، لا يخرجه من الإسلام عند الجميع ، فورد النهي عن تكفير المسلم ، في هذا الحديث وغيره بلفظ الخبر ،ـ دون لفظ النهي ، وهذا موجود في القرآن والسنة ،ومعروف في لسان العرب ".
ثم قال : " .. وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من قال لرجل يا كافر فقد باء بها أحدهما " ؟ . قال أرى ذلك في الحرورية . فقلت له :أفتراهم بذلك كفاراً ؟. فقال ما أدري ما هذا ! ومثل قوله _صلى الله عليه وسلم_: "من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما" قوله _صلى الله عليه وسلم_: "سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " ، وقوله _صلى الله عليه وسلم_: "لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض " ، وقوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " .ومثل هذا كثير من الآثار التي وردت بلفظ التغليظِ وليست على ظاهرها عند أهل الحق والعلم ، لأصول تدفعها أقوى منها من الكتاب والسنة المجتمع عليها ن والآثار الثابتة أيضا ، من جهة الإسناد وهذا باب يتسع القول فيه ويكثر ، فنذكر منه ههنا ما فيه كفاية _إن شاء الله_ وقد ضلت جماعةٌ من أهل البدع ، من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب ، فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين " .
ثم قال : " ...وقد اتفق أهل السنة والجماعة _وهم أهل الفقه والأثر_ على أن أحداً لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام ، وخالفهم أهل البدع ، فالواجب في النظر ؛ أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره ، أوقام على تكفيره ، دليلٌ لا مدفع له ، من كتابٍ أوسنةٍ ، وأما قوله _صلى الله عليه وسلم_ " ..فقد باء بها ". أي قد احتمل الذنب في ذلك القول ؛ أحدهما .
قال الخليل بن أحمد _رحمه الله_ :باء بذنبه أي احتمله ، ومثله : قوله عز وجل { وباءوا بغضبٍ من الله }. وقوله :{ فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً }.
المعنى في قوله :" فقد باء بها أحدهما " : يريد أن المقول له يا كافر ؛ إن كان كذلك فقد احتمل ذنبه ، ولا شيء على القائل له ذلك ، لصدقه في قوله ، فإن لم يكن كذلك ؛ فقد باء القائل بذنب ٍكبيرٍ ، وإثمٍ عظيمٍ ، واحتمله بقوله ذلك ، وهذا غايةٌ في التحذير من هذا القول والنهي عن أن يقال لأحدٍ من أهل القبلة يا كافر " .
وقال النوي _رحمه الله _ في "المنهاج" (1/153) : " هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات ، من حيث إن ظاهره غير مراد ؛ وذلك أن مذهب أهل الحق ؛ أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه : يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام ".
وإذا عرف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه :
أحدها : أنه محمول على المستحل لذلك ، وهذا يكفر . فعلى هذا معنى ( باء بها ) أي بكلمة الكفر ، وكذا حار عليه ، وهو معنى رجعت عليه أي : رجع عليه الكفر . فباء وحار ورجع بمعنى واحد .
والوجه الثاني : معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
والثالث : أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين . وهذا الوجه نقله القاضي عياض - رحمه الله - عن الإمام مالك بن أنس ، وهو ضعيف ؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون : أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع .
والوجه الرابع : معناه أن ذلك يئول به إلى الكفر ؛ وذلك أن المعاصي ، كما قالوا ، بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر . ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبي عوانة الإسفراييني في كتابه ( المخرج على صحيح مسلم ) : فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر ، وفي رواية إذا قال لأخيه ( يا كافر ) وجب الكفر على أحدهما .
والوجه الخامس : معناه فقد رجع عليه تكفيره ؛ فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير ؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا ؛ فكأنه كفر نفسه ؛ إما لأنه كفر من هو مثله ، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام . والله أعلم ".