عبدالله الفيفي

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين، أمّا بعد؛

فقد استهوت مقالات كاتب "الرياض" محمد بن علي المحمود بعضاً من المُتابعين، نظراً لكونه – كما يظنّون - يستطيع خلخلة شيء من اليقين الوهمي المُستقرّ في نفوس الإمّعات والدهماء كما يصفونهم، وإنّي وإن كنت لا أُحبّ لغة الجدَل والفلسفة التي يكتبُ بها، نظراً لكونها تتنافى مع لغة القرآن الواضحة الصريحة، إلا أنّي سوف أكتب بها هذا المقال لأُطلّ على قُرّاء المحمود من النافذة نفسها، وذلك لأنّها الشيء الوحيد الذي شدّهم في الكاتب، إذا ما علمنا بأنّ جميع ما يطرحه ليس وليد اللحظة، بل هو ضاربٌ في أعماق التاريخ السحيق، ولو رصدتُ أسماء من طرحوا طرحَه من الجاهلية إلى اليوم؛ لخرجتُ بسفرٍ ضخم من أسماء الرّجال، ولك أن تعجب لو قلتُ لك إنّ أكثرهم سيكون من عصر الجاهليّة!

يُخيّل إلى مُحبّي المحمود أنّ قلمه يسكب مدادا من التسامح والرّحمة والمحبّة والإنسانيّة اللا متناهية، فيما جعله آخرون مُبشرا برسالة التنوير والتحرير في عصر "الكهنوت" الديني المُستبدّ، وعَمُوا أو تعاموا عن جانب الجور والحيف في مقالاته، وغفلوا أو تغافلوا عن غارات الإرهاب التي يشنّها على كلّ ماهو ديني، وإن توارى خلف قشر من الديانة رقيق يشفّ ما تحته؛ فإذا التحفت به فإنّك عاري!

لو كان المحمود كما يبدو في مقالاته تسامحيا بحقّ وحقيقة، لكان لزاما عليه أن يمُدّ يده لتهنئة الفريق الفائز الذي استطاع بطريقة أو بأخرى استمالة ذلك الجمهور العريض إلى صفّه، بدلا من أن ينقلب على ذلك الجمهور بالسخرية والتهكم ووصفه بالغباء والسذاجة والتقليد الأعمى، لأنّ هذا هو مقتضى الإنسانية والرحمة ومحبّة الآخر، فإن قال إنّ هذا الانتصار تمّ بحجّة القوّة لا بقوّة الحجّة، قُلنا كلامك باطل، لأنّنا في الأصل وُجدنا على هذه الأرض سواسية، ولا سُلطة لأحد على الآخر، ثم جاء الانتصار بعد معارك "ايديولوجية" ضارية، فرضَت فيها الحُجّة نفسها وهزمت خصمها، فعلى المهزوم إن كان يدّعي الإنسانية والتسامح أن يُهنّئ الفائز، ويعترف بضعف حُجّته وفشَل مشروعه، وإن كان قد احترق قلبه من ذلّ الهزيمة، فليعلنها الصريحة ولا داعي للتّمثيل، ثُمّ إنّ الأُمّة قد مرّت بمراحل من الفتور الفِكري تساوت فيها فرص جميع التيّارات، إلا أنّ حُجّة الدين بقيت ناهضة وحُجج ما سواه بقيَت رابِضة.

إنّ غاية ما يصبو إليه المحمود هو أن تأخذ الفلسفة حرّيّتها، لأنّه يزعم بأنّ تلك الحرب الضّروس ضدّ الفلسفة من التيّار "الكهنوتي" إنّما هي بسبب الخطر الكبير الذي تمثله الفلسفة لرموز ذلك التيّار، ولو فُسح المجال للفلسفة كي تلعب دورها بكلّ حرّيّة لتهاوت عروش أساطين ذلك التيّار، واجتالتهم البطالة وخطفتهم العَطالة، وفقدوا مواقعهم الاجتماعية، وما يعلم المحمود أنّ تلك الحرب هي بمثابة الضّربات الاستباقية لخطّ العدوّ المُتربّص الذي يستعدّ لإهلاك الحرث والنّسل، فانظر كيف أنّ المفاهيم لديه مضروبة! ذلك أنّ العُلماء قد عرفوا ماهي الفلسفة وثمراتها، وقد أحاطوا بمداخلها ومخارجها، وعلِمُو أن لا ثمرة لها إلا الحَيرة والشّك التي هو غارقٌ فيها حتّى أُذنيه، ولو افترضنا بأنّ الفلسفة من شأنها استبدال يقين بيقين لكان هناك ثمرة وإن كانت فاسدة، ولكنّ حقيقة الفلسفة لا شيء، ونتيجتها لهيبٌ من الحيرة والاضطراب الذي يفري الكَبِد.

ثُم إنّه يعتقد هو وأقرانه أنّ الفلسفة هي السّقف الذي تُحاكم إليه المُعتقدات والأفكار "الايديولوجيا" ، والسؤال المشروع الذي من حقي طرحُه هو: لِمَ لاتخضع الفلسفة إلى فلسفة أعلى منها!؟ ولمَ لا يخضع الشكّ إلى شكّ أعمق منه؟! وهكذا إلى ما لا نهاية، والنتيجة هُراء وعبث وعيّ وجدل بيزنطي لا طعم له ولا رائحة.

لقد بيّن حقيقة الفلسفة ومآلاتها داهقنة الفلاسفة أنفسهم، ممن تداركتهم الرّحمة فأنجاهم الله من شراكها بعدما استدرجتهم إليها يزخرف رسومها وبَهرج علومها، وإن كان المحمود لن يكشف عمّا يتلجلجُ في صدره من حميمها، فإنّ من سبقه في هذا الميدان، وتجاوزه إلى منتهى درجات الفلسفة، قد كشفوا لنا حقيقة الأمر وزُبدته، ومن أولئك أبو حامد الغزالي – رحمه الله - الذي يقول عنه تلميذه ابن العربي: "شيخنا أبو حامد ابتلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع"، فانظر ماذا يقول الغزاليّ عن عِلم الكلام الذي هو فرعٌ عن الفلسفة، يقول:" قد يُظنُّ أنَّ فائدَتَه كشفُ الحقائق ومعرفتُها على ما هي عليه، وهيهات؛ فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعلَّ التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدِّث أو حشوي – ويقصد أهل السُنّة والحديث - ربَّما خطر ببالك أنَّ الناسَ أعداءُ ما جهلوا، فاسمع هذا مِمَّن خَبَر الكلامَ ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلِّمين، وجاوز ذلك إلى التعمُّق في علوم أخر تناسبُ نوع الكلام، وتحقق أنَّ الطريقَ إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفكُّ الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور في أمور جليَّة تكاد تفهم قبل التعمُّق في صنعة الكلام".

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ من يُدافع عن الفلسفة ويُطالبُ بتقوية حضورها لا ينفكّ عن حالَين: الأوّل: أنّه عارفٌ بمآلاتها وحقيقة أمرها وقد ذاق منها العَلقم، فيريد التخفيف عن نفسه بجرِّ الناس إلى ما هو عليه، على طريقة "ودّت الزانية لو أن كل النساء زوانى"، والثاني – وهو الغالب على أدعياء الفلسفة من بني جلدتنا -، أنّهم لا يعرفون من الفلسفة إلا القشور والرّسوم، وما زالوا في سكرة البدايات، ومبلغهم من العِلم لا يعدو أن تكون الفلسفة سقفُ "الايديولوجيا" ، ولم يدركوا إلى الآن بأنّ هذا السّقف يُمكن هدمُه بسقفٍ أعلى منه، وهدم السّقف العلوي بسقفٍ أعلى وهكذا دواليك إلى مالا نهاية، والنتيجة ( لاشيء )، وهذا ما يؤول إليه تنظيرهم سواءً أكان بوعيٍ منهم أو لا، وأظنّ أنّهم لا يعون ذلك لانّ بضاعتهم في الفلسفة نفسها مزجاة، ولايعرفون منها – في الحقيقة أو بالحال - إلا زاويةً واحدةً ينظُرون من خلالها، ويجهلون بأنّ للفلسفة عددٌ لا منتهى له من النوافذ والزّوايا، ولا يوجد فيها شيءٌ إلا وهو كاسرٌ ومكسور وناقضٌ ومنقوض وهادم ومهدوم، ومتى اجتمعت هذه الصفة في شيء فاعلم أنّه الضلالة والعمى، ومالا يقوم بنفسه أعجزُ عن إقامة غيره.

ثُمّ لاحظ معي - أخي القارئ - نَفَس البغضاء وروح العِداء التي يحملها هذا الكاتب ضدّ التديّن، في الوقت الذي يزعم فيه الدّفاع عن مبادئ التسامح وقبول الآخر، حتّى مع إبليس، فإنّ إبليس - بحسب قواعد الكاتب - صاحب رسالة ووجهة نظر، وله رؤيته الفِكريّة الخاصّة، ومن حقّه أن يُفكّر ويعتقد وينظر ويتأمّل ويتخذ القرارات التي تنتج عن المُعطيات الفلسفية المتوفّرة لديه، ومن ثمّ يجب أن يُشمل بروح التسامح والقَبول؛ ولو كان المحمود مُنصِفًا مع ما يؤمن به لما استخدم تلك اللغة التعميمية الجائرة مع أهل التديّن، وإذا قلنا بأنّ هناك من المحسوبين على التديّن من يستحقّ ذلك التعنيف، فنقول بأنّ هناك أيضا من التيارات الفكرية الاُخر ومنها اليساريّة من يستحقّ ذلك، فلماذا هنا يدٌ حانية وهُناك سيفٌ مُصلت، إنّها تصفية حسابات لا أكثر.

ولك أن تسألني: "وأنت هل تتقبّل الخلاف معه؟" فأقول لك: غرضي الآن توضيح مدى الخرق الكبير في كلامه، ومدى التباين الهائل بين تنظيره وتطبيقه، لأنّ من يقول بأنّ لديه فِكرة يعتقد بها ويوالي ويُعادي من أجلها، ولديه من الأدلّة والنصوص المُقدّسة بالنسبة له ما يُثبت صحّة طريقته؛ فهو يبدو متّسقاً ومنطقيا ومُنسجما، وصادقاً مع خصمه وناصحاً له قبل أن يكون صادقًا مع نفسه، وأمّا من يأتي ليُعلمَ الناس دروسا في المحبة والتسامح مع جميع البشر وجميع الطوائف والمِلل والنّحل، وهو أوّل من ينقضها ويصادم مُقتضياتها؛ فهو إنّما يُعلمّهم قول القائل "رمتني بدائها وانسلّت"، ويُبرهن على اضطراب منهجه وتعارض أقواله.

إنّنا عندما نُلقي نظرة بريئة إلى بعض المُجتمعات حولنا، والتي تم إخضاعها بمبدأ القوّة إلى الفِكر الذي يُبشّر به المحمود ومن لفّ لفّه لعشرات العقود، نجد أنّ الأمر لمّا آل إلى اختيار النّاس في الغالب، ضربوه بأرجلهم ورموه خلف ظهورهم، وجاءوا يركضون إلى الدّين، والنماذج أمامنا اليوم كثيرة. فما يتمنّاه المحمود من إعطاء الفلسفة فرصتها قد تحقّق في أقطار كثيرة، بل تجاوز الأمر إلى أن تُفرض الفلسفة فرضًا على الناس، وكانت النتيجة عكسية تماما، حيث بدَت مفاهيم الفلسفة ضعيفة هزيلة أمام يقينيّات الدّين في نظر العامّة والبُسطاء فضلاً عن الحُكماء والأذكياء؛ فلا داعي – إذن – للتمنّي والرّجاء، فإنّ الأمر قد تحقّق، وقد أُتيحت الفرصة بكاملها للفلسفة؛ فكان مصيرها الفشل.

والمشكلة الأزلية لدى الكاتب، أنّه يستصحب النموذج الأوروبي عند الحديث عن المُجتمعات الإسلاميّة، وهذا الاستصحاب ناجمٌ عن قناعته بتطابق النماذج، فلئن استطاعت الفلسفة الظهور على دين الخُرافة والوهم في أوروبا؛ فهي ستتمكن من ذلك في بلاد المُسملين، نظرًا لتطابق المُعطيات على أرض الواقع بحسب اعتقاد الكاتب، وهنا بيت القصيد! وهذا هو ما يحوم حوله بنوعٍ من الإلغاز والإضمار والمُداراة المشوبة بحَذَر، ولقد أرسل له أحد رفاقه إشارة تنبيه في مقاله "الاستغلال الطائفي .. الحل المعرفي كبداية" عندما نقل له نصيحة أركون: "حذار من الاقتراب من الحقائق الكبرى قبل الأوان"، وأبشر بطول سلامة أيّها "الأوان"، فسيفنى أحفاد النّاصح والمنصوح قبل حلول ذلك الأوان.

كما أنّ الحال في أوروبّا ليس كما يزعم، لأنّ الفلسفة لا تشفِ صدر مؤمنٍ ولا كافر، ولن يملأ قلب الإنسان بالبهجة والسّرور شيءٌ مثل توحيد الله والإيمان به، فأوروبا وأمريكا وسائر بُلدان العالم هي اليوم حُبلى بالموحّدين، وقد شهد العدوّ قبل الصّديق أنّ دين الإسلام هو الأسرع انتشارا بين سائر الاعتقادات، وليس الأمرُ فقط مُجرّد اعتقادٍ بصحّة دين الإسلام، كلّا، بل اتّباعٌ للكتاب والسنّة، ولزومٌ لطريق السّلف الصّالح، وسرورٌ بذلك واغتباطٌ به ودعوة النّاس إليه، ومن شكّ في هذا فدونه مواقع الشّبكة العنكبوتية لأولئك المسلمين الجُدُد، وفيها مالا يخطر على البال من معجزات هذا الدّين العظيم.

لا يريد المحمود وغيره من اليساريّين التصديق بأنّ أوروبا تختلف عن بلاد المُسلمين، وما زالوا يُصرّون على النّظر إلى الديّن في بلاد المُسلمين على أنّه نسخة مشابهة للدّين المُحرّف في أوروبا، ومن ثمّ فهم ينتظرون لحظة الثّورة ضدّ الدين في مجتمعات المُسلمين كما حدث في أوروبا وهيهات، فالمشكلة لديهم في أصل الدّين، وليست في بعض مظاهره وتجلّيّاته، فينبغي أن يكون الخطاب الدّعوي الموجّه إليهم تاصيلياً في المقام الأوّل، لأنّ حقيقة أن يكون الرّسول محمد – صلى الله عليه وسلّم – قد بُعث بالحقيقة المُطلقة التي لا مِرية فيها، وأنّ الكتاب والسُنّة هما النّاقلان المعصومان لتلك الحقيقة، هي عندهم محلّ شكّ وارتياب.

وأمّا جزمهم بأنّ ما يُخالج المؤمن من اطمئنان ويقين ماهي إلا أوهامٌ رسّختها السّنون، فلِأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، والحُكم على الشّيء فرعٌ عن تصوّره، ومن لا يعرف الدُرّ ظنّه بعرا ! ومن عُرف بشيء من الإيمان قبل الارتكاس، فغالبُ الأمر أنّه انقطع في أوّل الطرّيق ولم يصل، أو أنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه، لأنّ تزحزح الجبال الرّاسيات أيسر من تزحزح اليقين من قلب المؤُمن بعد أن يجد برده بين جنبيه.

وخلاصة القول إنّ معركة الشّك واليقين عند الكاتب محمد المحمود لم تُحسم بعد، وإن كانت الأمارات والإشارات تدلّ على أنّ الشّكّ قد انتصر أو كاد، ولا تنخدع أيّها القارئ بمُناصرة هؤلاء لبعض من عُرف بالطّرح الديني ولكن بالطريقة العقلانية كعدنان إبراهيم وأمثاله، لأنّ القضيّة لا تعدو أن تكون تحقيق مكاسب، فهم وجدوا في أولئك المُتكلّمين المحسوبين على الدين – زورا – مكاسب تدعم موقفهم، ولا يخفى أنّ الفلاسفة والمُتكلّمين يلتقون في درجة من الدّرجات، ومتى عجز الفيلسوف عن القيام، فإنّه سيمتطي المُتكلّم ليُمكنّه من ذلك.

اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، آمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛؛؛
http://sunnahway.net/node/1508