الشرح والبيان
لحديث: (( شهرا عيد لا ينقصان ))..
-الذي رواه الشيخان-




قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-في (( مشكل الآثار )):

"بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ قَوْلِهِ: " شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ ".
- حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:
" شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ "
.....


فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ؛ لِنَقِفَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَا فِيهِ :
وَهَلْ هُوَ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ -كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ- ؟
أَوْ: هَلْ هُوَ عَلَى وُجُودِ النُّقْصَانِ مِنَ الْعَدَدِ فِي أَحَدِهِمَا، وَعَلَى انْتِفَائِهِ مِنَ الْآخَرِ -حَتَّى لَا يَكُونَا جَمِيعًا نَاقِصَيْنِ-؟
أَوْ خِلَافُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ؟؟

فَوَجَدْنَا مَا قَدْ عَهِدْنَاهُ فِي الْأَزْمِنَةِ :أَنَّ النُّقْصَانَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمَا -جَمِيعًا- لَا تَنَازُعَ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ حَقَّقَهُ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِمَّا أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِه ِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ
:
- كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، وَابْنُ مَرْزُوقٍ قَالَا حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ:
إنِّي لَأَعْجَبُ مِنَ الَّذِينَ يَصُومُونَ قَبْلَ رَمَضَانَ ،إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ".
..

- وَكَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ؛ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ "
- وَكَمَا حَدَّثَنَا فَهْدٌ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيُّ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
" إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَصُمْ ثَلَاثِينَ ؛إلَّا أَنْ تَرَى الْهِلَالَ قَبْلَ ذَلِكَ".
فَعَقِلْنَا بِذَلِكَ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ ،وَقَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.
فَاحْتَجْنَا إلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: " شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ " مَا هُوَ؟

فَوَجَدْنَا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ -وَهُمَا رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ- يَبينانِِ عَلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ الشُّهُورِ ; لِأَنَّ فِي أَحَدِهِمَا الصِّيَامَ وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَفِي أَحَدِهِمَا الْحَجَّ وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ.
فَكَانَ مَوْهُومًا أَنْ يَقَعَ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا (تِسْعًا وَعِشْرِينَ= تِسْعًا وَعِشْرِينَ) نَقَصَ بِذَلِكَ الصَّوْمُ الَّذِي فِي أَحَدِهِمَا، وَالْحَجُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخَرِ عَنْ مَا يَكُونَانِ عَلَيْهِ إذَا كَانَا (ثَلَاثِينَ= ثَلَاثِينَ):فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ , وَإِنْ كَانَا (تِسْعًا وَعِشْرِينَ= تِسْعًا وَعِشْرِينَ) عَن مَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنْ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْن ِ , وَأَنَّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْن ِ كَامِلَتَانِ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَا فِي الْعَدَدِ كَذَلِكَ كَكَمَالِهِمَا فِيهِمَا إذَا كَانَا (ثَلَاثِينَ= ثَلَاثِينَ).

وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ هَذَا الْمَعْنَى:

- كَمَا حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " كُلُّ شَهْرٍ حَرَامٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَثَلَاثُونَ لَيْلَةً " !
فَكَانَ هَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛إذْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَا يُقَاوِمُ خَالِدًا الْحَذَّاءَ فِي إِمَامَتِهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَا فِي ضَبْطِهِ فِيهَا، وَلَا فِي إتْقَانِهِ لَهَا.
وَإِذْ كَانَ الْعِيَانُ قَدْ دَفَعَ ذَلِكَ -وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ
-."

وقال-رحمه الله- في (( شرح معاني الآثار )):
"بَابُ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ : رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ"....
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ لَا يَنْقُصَانِ ؛ فَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ:
فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَنْقُصَانِ ، أَيْ :لَا يَجْتَمِعُ نُقْصَانُهُمَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ أَحَدُهُمَا.
وَهَذَا قَوْلٌ قَدْ دَفَعَهُ الْعِيَانُ ؛ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَاهُمَا يَنْقُصَانِ فِي أَعْوَامٍ ،
وَقَدْ يُجْمَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَدَفَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ بِهَذَا، وَبِحَدِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-... أَنَّهُ قَالَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» ، وَبِقَوْلِهِ: «إِنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ , وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ» .
فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَصْحِيحِ هَذِهِ الْآثَارِ كُلِّهَا ، وَقَالُوا:
أَمَّا قَوْلُهُ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»؛ فَإِنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ , وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ , فَذَلِكَ كُلُّهُ كَمَا قَالَ , وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ : رَمَضَانُ ،وَذُو الْحِجَّةِ» ؛فَلَيْسَ ذَلِكَ-عِنْدَنَا- عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ ، وَلَكِنَّهُمَا فِيهِمَا مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الشُّهُورِ ؛ فِي أَحَدِهِمَا الصِّيَامُ ، وَفِي الْآخَرِ الْحَجُّ. فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ وَإِنْ كَانَا تِسْعًا وَعِشْرِينَ ، وَهُمَا شَهْرَانِ كَامِلَانِ ، كَانَا (ثَلَاثِينَ =ثَلَاثِينَ)، أَوْ (تِسْعًا وَعِشْرِينَ= تِسْعًا وَعِشْرِينَ) ؛ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ فِيهِمَا - وَإِنْ كَانَا (تِسْعًا وَعِشْرِينَ= تِسْعًا وَعِشْرِينَ) مُتَكَامِلَةٌ فِيهِمَا غَيْرُ نَاقِصَةٍ عَنْ حُكْمِهَا إِذَا كَانَا (ثَلَاثِينَ= ثَلَاثِينَ).

فَهَذَا وَجْهُ تَصْحِيحِ هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ .
وَاللهُ أَعْلَمُ
".
منقول من أبي الحارث .