بسم الله الرحمن الرحيم
ولا يلتفت منكم أحد

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، رافع السماء بلا عمد، والصلاة والسلام على أشرف من لربه عبد، نبينا محمد وهو أحمد، وعلى آله وصحابته الركع السجد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعد.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:
خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ (وفي رواية زاد: مُتَفَرِّقَةٌ)، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ". رواه أحمد والدارمي
ما أروعه من تصوير وما أوضحه من بيان، خط مستقيم لمن يريد النجاة وخطوط من طريق النجاة لا من غيره معوجة لمن تلفت يمنة ويسرة يدعو على أبوابها شياطين الأنس والجن بالشهوات والشبهات يسترقون كل من التفت إليها أو وقف عندها.
أما رأيت الظبي أشد سعيا من الكلب ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، لان الملتفت لا بد له من فترة فيدركه الكلب فيأخذه.

لذا أوصيك أن لا تلتفت... لا تلتفت... لا تلتفت

لا تلتفت... عن طريق التوحيد
بعد أن أنعم الله تعالى عليك بتوحيده وعدم الشرك به فتوكل عليه وحده، ولا يصح التوكل إلا بعدم تعلق القلب بالأسباب ولو تعلقت بها الجوارح، فلا يلتفت قلبك إلى غيره ولا تلتفت بجوارحك إلى سواه وإلا تركك للذي التفتّ إليه.
ثم إذا سلكت الطريق فلا عليك بالمتساقطين عنه يمنة ويسرة فإن استطعت أن تدل على الطريق ضالهم فتأخذه معك وإلا فلا تقف عند معاندهم وليكن شعارك " قل آمنت بالله ثم استقم"

لا تلتفت... عن طريق الإخلاص
فاعلم أن الله تعالى إن لم تكن تراه فإنه يراك فاعمل على استحضار مراقبة الله إياك واطلاعه وقربه منك، فإذا استحضرت هذا في قولك وعملك ولم تلتفت به إلى غيره فهو الإخلاص بعينه وهو طريق الخلاص فإن استحضار العبد رؤية الله تعالى له يمنعه من الالتفات إلى غيره، فاسلك الطريق على وحشته وقلة سالكيه وليكن شعارك " فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب "

لا تلتفت... عن طريق الإتباع
ثم إذا منّ الله تعالى عليك بالفهم ولم تكن ممن أعار عقله غيره وكان منار طريقك كتاب ربك وهدي نبيك مسترشدا بأئمة الهدى من الصحابة فمن بعدهم من أولي العلم والبصيرة، فهذا هو الطريق فالزمه، وانظر أمامك ولا تلتفت لمن يقف على مفترقاته يزخرفون لك المرور من عندهم فإنما هم في أحسن أحوالهم تحويلات مؤقتة تعرقل وصولك وتبطئ مسيرك فأن استطعت أن تأخذهم معك وإلا فلا تذهب معهم، وليكن شعارك " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ "

لا تلتفت... عن طريق الجهاد
يا من سلكته نصرة لربك وإعزازا لدينك لا تنحرف عنه بل لا تقف في وسطه، فأنت ما سلكته طلبا لمال، بل إنك أنفقته فيه، ولم تسلكه طلبا لجاه فإنك بذلت نفسك ودمك، وطلبت الموت لتحيا في جنات ابتعتها من رب الأرض والسماء، فاثبت وقل لا أقيل ولا أستقيل، ولا تستمع ولا تلتفت للواقفين على جنباته يخذلون عنه ويصدون عن سبيله سترا لجبنهم وخورهم أو باستهواء الشيطان لهم، وتنور بدماء إخوانك من الشهداء والزم طريقهم ولا تظنن أن الله تعالى سيضل أعمالهم كما يظنه المتخاذلون.. لا "سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ " وليكن هذا شعارك.

لا تلتفت... عن طريق الدعوة
فإن كان قد وهبك الله علما فاعمل به وادع إليه بالحكمة فإن العلم رزق، شكره بنشره، وزيادته بشكره، فلا يصدنك عن نشره ما يتقوله الجهلة المتعالمون أو المرجفة المثبطون، الواقفين على فروع السبيل المستقيم شعارهم؛ "عليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت"، و"لا تلقِ بنفسك إلى التهلكة"، يفهمونهما على غير المراد، فلا تلتفت فإن الناجي في الدنيا ويوم المعاد، المصلح لا الصالح " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ "، وليكن شعارك في المسيرة " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ".

لا تلتفت... عن طريق الحق سبيل الله المستقيم
ثم اعلم أن طريق الحق واضح المعالم وإن كان شائكا، قد نصبت عليه منارات للهداية، ليله كنهاره من أوله إلى النهاية، من التفت تعثر أو ضل، ومن لا فقد وصل.
قال بعضهم: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها : انقطع ولم يمكنه السفر قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك.
واعلم أن وحشة الطريق في الدنيا سببه قلة سالكيه فربما لا تجد رفيقا، لذا كان جزاء سالكه يوم القيامة التنعم مع أحسن الرفقاء من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فاثبت وليكن شعارك... " وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ "

ثم ليكن أنيسك في الطريق ذكر الله تعالى ودعاءه وصدق الالتجاء إليه وتعاهد قلبك، فبصلاحه يصلح الجسد وبفساده الفساد، ونفسك فاملكها ولا تدعها تملكك فإنك شديد قوي ما ملكتها, فإن ملكتك أردتك بين القتلى.
وإنما تخرج هذه النفوس على آخر سورة الواقعة، فلتكن نفسك ما في آخر سورة الفجر.
قال الحسن البصري: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الذنوب واقرعوا هذه الأنفس فإنها طالعة ، وإنها تنازع إلى شر غاية ، وإنكم إن تعاونوها لا تبق لكم من أعمالكم شيئا ، فتصبروا وتشددوا فإنما هي أيام قلائل ، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى الرجل منكم فيجيب ولا يلتفت، فانتقلوا بصالح ما بحضرتكم.
اللهم اهدنا السبيل واجعلنا من الشاكرين، واغفر لنا ولوالدينا والمؤمنين، واجمعنا في رفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصلِّ وسلم وبارك وأنعم على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.