بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبين يدي شرح هذا الكتاب العظيم وهو كتاب كشف الشبهات نقدم مقدمة مهمة بين يدي هذا الموضوع ألا وهو الدعوة إلى التوحيد وكشف الشبه فيه.
من المعلوم والمتقرر في كتاب الله وفي سنة رسوله أنّ الله جل وعلا بعث المرسلين جميعا وأرسل الأنبياء لعبادة الله وحده لا شريك له، وخلق السموات والأرض وخلق الأفلاك وخلق كل شيء ولم يأذن بعبادة أحد سواه، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾[مريم:93]، وقال جل وعلا ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء:44]، فمن نظر إلى دلائل توحيد الله جل وعلا في الآفاق وفي الأنفس تيقّن أن هذا الملكوت له مدبر واحد، وله خالق واحد، وله متصرف واحد، وهو الله جل جلاله ولا بد من ذلك، وهذه الضرورية التي لا يحتاج معها المرء إلى برهان مفصل؛ لأنه يُحِسُّها في نفسه ويحسها في ما حوله لا بد أن تقوده إلى أن هذا الذي خلق وحده، وأن هذا الذي تصرف في الملكوت وحده أنه هو الذي يجب أن يذل له وأن يخضع له وأن يعبد وحده دون ما سواه، ولهذا كان من براهين توحيد الإلهية توحيد الربوبية، فدلائل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته في الآفاق كلُّ دليل منها يصلح أن يكون دليلا على استحقاق الله جل وعلا العبادة وحده لا شريك له؛ لأنه جل وعلا هو الواحد في خلقه في رَزقه وفي ربوبيته، فكذلك يجب أن يوحد في إلهيته سبحانه وأن يعبد ويفرد بالعبادة، لهذا قال جل وعلا ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَ ْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[الأعراف:172-173]، وقول المحققين من علمائنا في هذا الميثاق أنّه هو الفطرة هو دليل وحدانية الله جل وعلا في الأنفس وفي الآفاق، فكل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة هي توحيد الله جل وعلا، وهذا هو الميثاق الذي أُخذ عليهم، وهذا الميثاق ليس هو استخراج ذرية آدم من ظهره كما قاله طائفة؛ لأن هذا غلط في فهم الآية، وفيما نقل من تفاسير السلف أيضا بأن الله جل وعلا قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) فليست مسالة الميثاق الذي في هذه الآية والإشهاد عليهم هي الأخذ من هذا بل هي الأخذ من بني آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) والظهور ليست هي ظهر آدم بل ظهور ذرية آدم، (ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وهذا الإشهاد هو بلسان الحال لا بلسان المقال كما هو قول المحققين من أهل العلم، وهذا الذي بهذه الآية غير ما ورد باستخراج ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّر كما جاء في بعض الأحاديث.
دلائل وحدانية الله جل وعلا قائمة في الآفاق وفي الأنفس، ودليل الربوبية قائم ظاهر بيّن، من نظر أدنى نظر وصل إليه، ولهذا لم يجعل الله جل وعلا النظر في توحيده في ربوبيته مطلوبا من أتباع الرسل، ولا أَمرت به الرسل بجعل دعوتهم في ذلك، وإنما أمر الله جل وعلا بتوحيده في عبادته، وبعث المرسلين جميعا لهذا الأمر العظيم.
لهذا نقول إنّ دليل وحدانية الله جل وعلا في الربوبية هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة الذي تبعوا فيه طريقة الأنبياء والمرسلين أنهم يفيضون فيه ولا جعلوه غاية، كما جعله طائفة من المعاصرين غاية في ذلك، والمتكلمون طريقتهم في هذا الباب أنّ التوحيد المطلوب هو توحيد الربوبية، ولهذا يجعلون أو واجب على العباد النظر أو القصد إلى النظر أو الشك كما هي أقوال عندهم، فإثبات توحيد الربوبية وأنّ الله جل وعلا هو الواحد في ربوبيته هذا هو التوحيد عندهم، وهذا ليس بالأمر عندنا، وبهذا أتباع الأنبياء والمرسلين الذين قَفَوا أثر السلف الصالح تجد عندهم من براهين توحيد الإلهية ما فيه التفصيل والتفصيل والكلام والمكرر فيه الذي يعيدون فيه ويبدؤون ويكررون لأجل تثبيته وإقامة الحِجاج والحجة عليهم، أما غيرهم فإنهم يتوسعون في أبواب توحيد الربوبية، ومَن عبد الله جل وعلا وحده لا شريك له فتضمن ذلك أنه مقر بربوبيته وحده دون ما سواه، بخلاف من وحد الله في ربوبيته فإنه قد يعبد معه آلهة أخرى، كما فعل أهل الجاهلية فإنهم موحدون في أكثر أفراد الربوبية ولكنهم مع ذلك مشركون ما قادهم توحيد الربوبية إلى توحيد الإلهية، قال جل وعلا ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[لقمان:25]، وقال سبحانه ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ إلى أن قال في آخر آية سورة يونس ﴿فَسَيَقُولُ نَ اللَّهُ﴾[يونس:31]، والآيات في ذلك كثيرة.
المقصود من هذا أن الغاية بعد الأنبياء والمرسلين هو تحقيق توحيد العبادة وإقامة الحجة فيه وكشف الشبه عنه وإيضاح الدلائل فيه بتفصيل وإيضاح أفراده، ولا يخفى عليكم قول الربّ جل وعلا ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَن اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾[النحل:36].
الدعوة إلى التوحيد هي ميراث الأنبياء والمرسلين؛ لكن هذه الدعوة من لم يعشها ولم يتوسع فيها لا يعرف كيف يدعو إلى التوحيد، بل قد يأتي من يظن أنه لا حاجة إلى ذلك، وعبودية الخلق لله جل وعلا التي هي غاية وجود الخلق إنما تكون بأن يُدْعَوا إلى الله جل وعلا بتوحيده وفهم ذلك والعلم به وتطبيقه، فإذا هديتَ الناس إلى أن يوحدوا الله في أقوالهم وأعمالهم وبما تعتقده قلوبهم انبعث ذلك الاعتقاد وذلك التوحيد عن عمل صالح وعن نفس مخبِتة منيبة لله جل وعلا، وهذه النفس هي التي تحوز فضل تكفير الذنوب «يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة»، «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة، يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» هذا لأهل التوحيد، والنفس المشركة أو المترددة أو التي في ريب في أمر التوحيد لا تحصل على فضائل الإسلام ولا على فضل الإسلام على أهله ولا على فضل التوحيد على أهله، ولهذا نعجب أنه مع اشتداد الحاجة إلى دعوة الناس إلى توحيد الله فإنّ من الناس من يقول لا حاجة إلى ذلك، وهذا من جرّاء عدم معرفتهم لعظم حق الله جل وعلا وكيف يعظم ربنا جل وعلا، وإنما تعظيمه بتحقيق التوحيد من حقق التوحيد فقد عظّم، ومن أضاع التوحيد فقد أضاع حق الله، ولو كان السجود في جبهته مؤثرا، ولو كان جلده على عظمه من الصيام مؤثرا، فلا قيمة لذلك؛ بل قد قال جل وعلا لنبيه ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر:65]، بهذا تعجب أشد العجب أن هناك أناسا كثيرين بلغوا في أمر العلم ما بلغوا، وبلغوا في أمر الدعوة ما بلغوا، وعندهم من الكلمات الشركية ومن عدم معرفة حق الله ومن الغلو المذموم ومن تعلق القلوب أو تعليق القلوب بغير الله ما رأيتموه وسمعتموه في كتب وفي غيرها، وهذا من اشتداد الفتنة التي ستبقى إلى أن تقوم الساعة.


الشيخ صالح آل الشيخ.
ـــــ ابو عبد الله الأثري ـــــ