إن من أهم أسس المنهج العلمي في المجال الفقهي والأصولي هو بيان الحكم الشرعي لموضوع الدراسة، هذا وإن كان مطبقاً وواضحاً في مجال الفقه، إلا أنه نادر في مجال الدراسات الأصولية، فلا يولونه الأهمية المطلوبة، وإن تطرق إليه بعض الدارسين؛ فبشكل جزئي دون استيعاب وشمول، مما حدا بي لسلوك هذا المنهج ـ في مسألة الاجتهادـ لتأكيد أهميته في مجال البحث الأصولي.
و يتبين الحكم الشرعي للاجتهاد بمعرفة الحكم التكليفي ثم الحكم الوضعي، وذلك في مطلبين:
أولا: الحكم التكليفي للاجتهاد
تستطيع أن تقول أن الاجتهاد تعتريه أكثر أقسام الحكم التكليفي، لكن الحكم العام للاجتهاد هو أنه فرض كفاية على مجموع الأمة، إن لم تقم به أو ينفر بعض أبنائها لأدائه؛ أثمت كل الأمة قال تعالى: )وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( [الأنفال:122]،والتفقه هو التفهم والتعقل والاستنباط، وهو معنى الاجتهاد. وقال تعالى: )وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ([النساء:83]، فإثبات الله تعالى هذه الصفة لبعض الأمة؛ هو إيجاب على بعضهم الاتصاف بها. وغير ذلك من عموم النصوص التي جاءت في فرضية العلم و التعلم.
وقد يصبح الاجتهاد فرض عين:
وذلك في حالتين:
1ـ إذا عرضت حادثة على مجتهد بعينه، ولم يكن هناك مجتهد سواه، أو قد ضاق الوقت بها، فيتعيّن عليه الاجتهاد.
2ـ وكذلك فرض عين على المجتهد بحق نفسه إذا وقعت له حادثة (عند من يقول بحرمة تقليد المجتهد غيره من المجتهدين).
وقد يكون الاجتهاد حراماً:
وذلك في حالتين:
1ـ إذا كان الاجتهاد في غير محله، كما إذا كان في مورد نص قطعي دلالة وثبوتاً، أو كان في مورد الإجماع المتيقن.
2ـ أو إذا صدر الاجتهاد من غير أهله المتحققين بشروطه؛ كما لو مارس الاجتهاد عالم لم تتحقق به الأهلية العلمية للاجتهاد، أو كان غير مختص أصلا.
ويكون مندوباً:
وذلك إذا وقعت حادثة مع توفر المجتهدين، فيندب لهم المبادرة لبيان الحكم الشرعي للنازلة، وكذلك الاجتهاد (السبقي) لأوضاع غير واقعة في وقت الاجتهاد، ولكن يرجى حدوثها؛ كالاجتهاد والتنظير لشكل الدولة الإسلامية المعاصرة وتنظيماتها، والاجتهاد في النظم الاقتصادية الإسلامية، وإيجاد صيغ تمويل واستثمار إسلامية جديدة، وغير ذلك.
و هو جائز مباح فيما عدا هذه الأحوال.(1)
ثانيا: الحكم الوضعي للاجتهاد
أسباب الاجتهاد:
نستطيع القول أن أهم أسباب الاجتهاد هي:
1ـ فهم النصوص الشرعية واستنباط معانيها وأحكامها، ورفع التعارض الظاهري بينها، والجمع بين مختلفها ـ فيما يبدو للناظر فيها ـ و تنزيل ذلك على أقوال وأفعال المكلفين.
2ـ استنباط الأحكام الشرعية للنوازل والحوادث المتجددة في حياة الناس؛ لحفظهم من معصية الله ومخالفة الشريعة، وإبقائهم على المحجة.
3ـ إيجاد القيادة الفقهية والفكرية(2) للمجتمع الإسلامي، كمرجعية قادرة على قيادة حياة الناس نحو الأفضل، ومواكبه التغيرات والحوادث على الصعد كافة بالحكم الشرعي الصحيح.
أركان الاجتهاد:
و له ثلاث أركان:
1ـ المجتهد: وهو بالغ عاقل ذو ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام (الشرعية) من أدلتها(3).
2ـ المجتهد فيه: وهو مالا يكون المخطئ فيه آثماً؛ وهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي: أي ما دليله نص ظني دلالة أو ثبوتاً.
3ـ النظر وبذل الجهد: وهو إعمال الفكر وبذل الوسع في الفهم والاستنباط.
فهذه هي الأركان التي يصح بها الاجتهاد الشرعي الصادر من أهله وبشروطه والواقع في محله، وبالتالي فما أدى إليه فهو حكم شرعي مقبول (أي يدور بين الأجر والأجرين)(4).
موانع الاجتهاد:
1 موانع الاجتهاد في المجتهد: وهي انعدام أحد الشروط الأساسية الواجب تحققها في المجتهد، أو انعدام أهليته الشرعية(مثل الجنون والعته وفقدان الذاكرة...).
2 موانع الاجتهاد في المجتهد فيه: وهما مانعان:
الأول: إذا كان الاجتهاد واردا على حادثة فيها نص قطعي دلالة وثبوتاً، فإن القاعدة المقررة أنه (لا اجتهاد في مورد النص) وذلك لصريح المخالفة والمشاقة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم.
الثاني: إذا كان الاجتهاد وارداً على حادثة فيها إجماع سابق متيقن، فيحرم الاجتهاد لحرمة خرق الإجماع.
شروط الاجتهاد:
وهذا القسم من أقسام الحكم الوضعي هو الذي يتناوله الباحثون في مسائل الاجتهاد عادة، والكلام فيه كثير ولا يكاد يخلو منه كتاب أصول؛ لذلك لن أتكلم عليه في هذا البحث، على أن أتناوله بمنظور جديد إن شاء الله تعالى، في بحث قادم، والله تعالى أعلم وأحكم.



(1) انظر البحر المحيط (198/6)،أصول الفقه لأبي النور زهير (189/4).
(2) أضيفت كلمة (فكرية) إشارة إلى أهمية العلم الشرعي وشروط المجتهد ـ ولو جزئيا ـ لما يسمى بالمفكر الإسلامي اليوم، حيث اقتحم هذا المجال الخطير الكثير من المتعالمين والعاطلين عن العمل!
(3) (199/6) البحر المحيط للزركشي.
(4) انظر المستصفى 170/2،البحر المحيط 195/6.