استشكل بعض الناس ما رواه البخاري قال: حدثني محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):" إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته" ([1]).
وقالوا: إن هذا الحديث مما انتقد على البخاري من ناحية سنده، فلم يرو إلا عن أبي هريرة، وتفرد به شريك بن عبد الله، عن عطاء، عن أبي هريرة، وتفرد به خالد بن مخلد ، عن سليمان بن بلال، عن شريك.فهذا المتن – على حد زعمهم – لم يرو إلا بهذا الإسناد.
كما أن الحديث قد تضمن إضافة التردد إلى الله تعالى، والتردد معناه: التوقف في الأمر وعدم العزم عليه، وغالبا مايكون ذلك بسبب عدم العلم بالعواقب المترتبة على فعل الأمر من عدمه،وبناء على هذا فلا يجوز وصف الله بالتردد.
وإذا جاز هذاالوصف فما هو معناه في حق الله تعالى، وقد علم يقينا أنه يعلم عواقب الأمور كلها؟
ثم كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره؟ أليست هذه دعوى الحلول والاتحاد التي ينادي بها الحلولية والاتحادية المبتدعة؟
الجواب عن هذا الإشكال.
الجواب عما استشكل من هذا الحديث مداره على أمرين:
أولا: الجواب من ناحية السند.
وثانيا: الجواب عن متن الحديث، والوقوف على معنى ما اشتمل عليه.
أما من ناحية سند الحديث:
فجملة الانتقادات الموجهة للسند مدارها على:
1- تضعيف خالد بن مخلد.
2- تضعيف شريك بن عبد الله.
فهاتان العلتان جعلت بعض النقاد يعدون هذا الحديث من غرائب الصحيح، والجواب عن هذا يمكن تقسيمه قسمين، مجمل ومفصل:
أما المجمل فيقال فيه: إن انتقاد بعض النقاد لسند الحديث يقابل بتصحيح غيرهم، وقد تقدم أن الحديث صححه البخاري، وابن حبان، والبغوي، وابن تيمية، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم.
أما الجواب المفصل: فيكون بالإجابة عما قيل في خالد، وشريك.([2]).
أما خالد بن مخلد:
فقال عنه الذهبي: الامام المحدث، الحافظ المكثر المغرب، أبو الهيثم البجلي الكوفي القطواني.
جل روايته عن أهل المدينة.
حدث عن: مالك، وأبي الغصن ثابت بن قيس، وسليمان بن بلال، ونافع بن أبي نعيم، وعلي بن صالح بن حي، وكثير بن عبد الله ابن عوف، وعبد الله بن جعفر المخرمي، ومحمد بن موسى الفطري وعدة.
حدث عنه: البخاري في " صحيحه "، وعباس الدوري، وعبد بن حميد، وأبو أمية الطرسوسي، ومحمد بن عثمان بن كرامة، ومحمد بن شداد المسمعي، وخلق سواهم. وقد روى له الجماعة سوى أبي داود، روى عن رجل عنه.
وقد حدث عنه من القدماء عبيدالله بن موسى.
قال يحيى بن معين: ما به بأس .
وقال أبو داود: صدوق، لكنه يتشيع ([3]).
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.
وقال الآجري عن أبي داود: صدوق ولكنه يتشيع.
وقال ابن عدي: هو من المكثرين وهو عندي إن شاء الله لا بأس به.
وقال العجلى: ثقة، فيه قليل تشيع، وكان كثير الحديث.
وقال صالح بن محمد جزرة: ثقة في الحديث إلا أنه كان متهما بالغلو([4])
قال الحافظ ابن حجر: أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شئ مما أخرجه له البخاري بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبي هريرة "من عادى لي وليا... الحديث" وروى له الباقون سوى أبي داود.([5]).
ومن خلال هذا نستنتج أن خلاصة القول في خالد بن مخلد أنه ثقة؛ لثبوت ضبطه وعدالته، وأن جلّ روايته عن أهل المدينة، وأن ممن أخذ العلم عنه: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن، أي إنه قد جاز القنطرة- كما قيل –؛ لرواية الشيخين عنه، على ان الشيخين ماكانا ليرويا عنه، ويخفى عليهما حاله، إلا إذا رأيا فيه من العدالة والضبط ماترقى به إلى درجة الرواية عنه.
وأما شريك بن عبد الله بن أبي نمر.
قال الحافظ ابن حجر - في معرض الكلام على حديث شريك في الإسراء والمعراج-: قال أبو الفضل ابن طاهر: تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكا قبله أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به.
وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به.
وقال ابن عدي: مشهور، من أهل المدينة، حدث عنه مالك، وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف.
قال بن طاهر: وعلى تقدير تسليم تفرده... لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور ولو ترك حديث من وهم في تاريخ لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين.([6]).
قلت(ابن حجر): احتج به الجماعة.([7])
فتبين من خلال هذا صحة إسناد هذا الحديث وثقة رواته بما لايجعل في النفس أدنى ريبة، وكفى هؤلاء الرواة شرفا أن كانوا من رجال الشيخين (البخاري ومسلم).
من أجل ذلك "ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا، فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح.
وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة؛ يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد، وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.([8])
ومع هذا فإن الحديث قد جاء من عدة طرق تعضده وتقويه، وتشهد له، ولذا قال الحافظ ابن حجر:وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذ الإسناد مردود... ولكن للحديث طرقا أخرى يدل مجموعها على أن له أصلا.([9])
فالحديث كما ذكرنا صححه – بالإضافة للبخاري – ابن حبان([10])،والبغوي([11])،وابن تيمية، والسيوطي، والشوكاني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أصح حديث روي في صفة الأولياء.([12]).
وقد ألف الشوكاني كتابا بعنوان " قطر الولي في حديث الولي " قال فيه عن هذا الحديث: رواته قد جاوزوا القنطرة، وارتفع عنهمم القيل والقال، وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام، أو يتناولهم طعن طاعن، أو توهين موهن"([13])
وألف السيوطي رسالة بعنوان: "القول الجلي في حديث الولي"([14])ذكر فيه بعض طرق الحديث، وحكم عليه بالصحة.
وللدكتور سعد المرصفي رسالة قيمة تحت عنوان" دفاع عن الحديث القدسي"من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" في ضوء أصول التحديث رواية ودراية، ورد الشبهات ودحض المفتريات"([15]) ضمن سلسة قيمة للدفاع عن الحديث النبوي.
فأفاض في شرح هذا الحديث سندا ومتنا، ورد على كل ما اشتبه وطعن على هذا الحديث.
استشكال نسبة التردد إلى الله في الحديث.
إذا تبين لنا من خلال ما سبق أن الحديث صحيح صالح للاحتجاج، فهل التردد المضاف إلى الله تعالى في الحديث يكون صفة لله تعالى أو ماذا؟
الجواب عن هذا أن أهل العلم لهم في هذا مسلكين:
المسلك الأول: إجراء الحديث على ظاهره، والأخذ بمدلوله في إثبات التردد صفة لله تعالى، على مايليق بجلاله وعظمته، مع القطع بكون تردده سبحانه وتعالى ليس كتردد المخلوق؛ لأنه جل وعلا (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فلا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.([16])
وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، عليهما رحمة الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن هذا الحديث: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا : إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب . وربما قال بعضهم : إن الله يعامل معاملة المتردد .
والتحقيق : أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة.
ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل :
الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب وفي الصحيح " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "([17]) وقال تعالى :(كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال : " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه".
فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق، محبا له، يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة، بحيث يحب ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه .
والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادا للحق من وجه، مكروها له من وجه.
وهذا حقيقة التردد وهو : أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته.([18])
وقال: فبين سبحانه أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما يكرهه وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال وأنا أكره مساءته، وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد له أن يموت فسمى ذلك ترددا ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك .
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه .([19])
وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: التردد وصف يليق بالله لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه، وليس كترددنا، والتردد المنسوب لله لا يشابه تردد المخلوقين، بل هو تردد يليق بالله سبحانه وتعالى كسائر صفاته جل وعلا.([20])

المسلك الثاني: تأويل الحديث وصرفه عن ظاهره، وذلك بنفي صفة التردد عن الله تعالى، وإلى هذا ذهب الشوكاني، وهو مسلك أهل التاويل من شراح الحديث وغيرهم.([21])
وقد ذكروا عدة تأويلات حملوا الحديث عليها، منها:
ماذهب إليه الخطابي وغيره حيث قال: التردد في حق الله عز وجل غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، وتأويله على وجهين:
أحدهما: أن العبد قد يشرف في أيام عمره على المهالك، مرات ذوات عدد من داء يصيبه، وآفة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع مكروهها عنه، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له في ذلك فيتركه ويعرض عنه ، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله ، فإنه قد كتب الفناء على خلقه ، واستأثر البقاء لنفسه..
الثاني: وهو أن يكون معناه : ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله ترديدي إياهم في نفس المؤمن ، كما روي في قصة موسى وملك الموت صلوات الله عليهما ، وما كان من لطمة عينه ، وتردده عليه مرة بعد أخرى ، وتحقيق المعنى في الوجهين معا : عطف الله عز وجل على العبد ، ولطفه به، وشفقته عليه.([22]).
وذهب بعضهم؛ كابن الجوزي إلى احتمال أن يكون المعنى:أن يكون تركيب الولي يحتمل أن يعيش خمسين سنة، وعمره الذي كتب له سبعون، فإذا بلغها فمرض دعا الله بالعافية فيحييه عشرين أخرى مثلا، فعبر عن قدر التركيب وعما انتهى إليه بحسب الأجل المكتوب بالتردد.([23]).
وذهب الشوكاني إلى أن التردد كناية عن محبة الله لعبده المؤمن أن يأتي بسبب من الأسباب الموجبة لخلوصه من المرض الذي وقع فيه، حتى يطول به عمره، من دعاء، أو صلة رحم، أو صدقة، فإن فعل مد الله له في عمره بما يشاء، وتقتضيه حكمته، وإن لم يفعل حتى جاء أجله، وحضره الموت، مات بأجله الذي قضى عليه إذا لم يتسبب بسبب يترتب عليه الفسحة له في عمره، مع أنه وإن فعل ما يوجب التأخير، والخلوص من الأجل الأول، فهو لابد له من الموت بعد انقضاء تلك المدة التي وهبها الله سبحانه له.
فكان هذا التردد معناه: انتظار ما يأتي به العبد مما يقتضي، تأخير الأجل، أو لا يأتي فيموت بالأجل الأول".
قال: وهذا معنى صحيح لايرد عليه إشكال، ولا يمتنع في حقه تعالى، مع أنه سبحانه يعلم أن العبد سيفعل ذلك السبب أو لا يفعله، ولكنه لا يقع التنجيز لذلك المسبب إلا بحصول السبب الذي ربطه جل وعلا به.([24])
ولا ريب أن المسلك الأول هو المسلك الجاري على قواعد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وذلك بحمل الحديث على ظاهره، وإثبات التردد صفة لله تعالى على مايليق بجلاله وعظمته.
ومن أوّل الحديث معتقدا تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، فقد أساء الأدب مع رسول الله، لأنه هو الذي وصفه بذلك، وهو أعلم الناس بربه، "وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة ؛ والاعتقادات الفاسدة.([25])
فإذا كان تردد المخلوق معناه: "التوقف عن الجزم بأحد الطرفين"([26])، فإن هذا المعنى لا يدل عليه الحديث؛ لأن الحديث صريح في الجزم بأحد الطرفين حيث قال: " وما ترددت عن شيء أنا فاعله"؛ أي: سأفعله ولابد؛ لأنه تعالى قد قضى على عباده بالموت، فقال (كل نفس ذائقة الموت ) [آل عمران:185]، يؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض طرق الحديث بعد قوله:" يكره الموت وأكره مساءته" زيادة:" ولا بد له منه ".
فتردد الله تعالى ليس منشؤه عدم الجزم بأحد الطرفين، أو عدم العلم بعواقب الأمور، وإنما هو تردد مفسر في الحديث نفسه، حيث قال: " يكره الموت، وأنا أكره مساءته" فهذا هو حقيقة تردده سبحانه، وهو كون الفعل مراد لله من وجه، فهو يريد الموت لعبده؛ لأنه قضى به عليه، ولابد له منه، ومع ذلك فهو يكرهه؛ لأنه يكره ما يكرهه عبده، ولذلك قال: "وأنا أكره مساءته"([27])
وأما من سلك سبيل التأويل فيكفي في بيان بطلان مذهبه، أنه صرف الحديث عن ظاهره من غير قرينة توجب ذلك.
ومع بيان بطلان هذا المسلك من أساسه، فإن ما ذكر فيه من تأويلات، بعيدة جدا عن ظاهر الحديث، وقد تتبع بعضها الشوكاني في كتابه" قطر الولي" وبين بطلانها([28])
أما ما ذهب إليه الشوكاني من أن معنى التردد: هو انتظار ما يأتي به العبد مما يقتضي تأخير أجله، من دعاء، أو صدقة، أو صلة رحم، فإن أتى به فسح له في عمره وأخر له أجله، وإلا مات بأجله الأول؛ فإنه غير وجيه؛ لأن التردد الوارد في الحديث ليس فيه ما يشعر بالانتظار، بل فيه عزم وجزم بإرادة الموت للعبد، ولذلك قال تعالى: "ما ترددت في شيء أنا فاعله"، ثم إن السبب والمسبب مقدران مكتوبان معلومان لله تعالى، فهو يعلم هل سيأتي عبده بهذه الأسباب الموجبة لخلوصه من المرض، أو لا يأتي بها، وعليه فهو يعلم هل سيموت في مرضه هذا أو لا.فأي معنى وفائدة لهذا الانتظار؟!([29])
وعليه فإن مذهب السلف في إثبات صفات الله وأن النصوص الواردة بها إنما هي على ظاهرها، هو أسلم الذاهب كلها على الإطلاق وأحكمها ، بل وآمنها من الخوض في التأويل والتوقيع عن الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
استشكال قوله في الحديث:" فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"
وقد احتج أهل الحلول والإتحاد بهذا الحديث على صحة ماذهبوا إليه، وقالوا: إن هذا يوجب أن يكون عين الحق هو عين أعضائه.
والحق أن هذا الحديث حجة عليهم كما سنوضحه، فإن الذي عليه أهل السنة أن معنى هذا الحديث: هو الذي يدل عليه ظاهره من أن الله يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله، وتكون هذه الأعضاء مشغولة بالله تعالى، طاعة وامتثالا، فلا يصغي بسمعه ولا يرى ببصره، إلا ما يرضي الله تعالى ويكون هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى .
وليس ظاهره أن الله تعالى يكون نفس الحدقة والشحمة والعصب والقدم، كما يقول أهل الحلول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحديث حق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإن ولي الله لكمال محبته لله وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله وعمله لله وبالله ؛ فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه وما يراه مما يحبه الحق أحبه وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه، ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:" اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا "([30]) . فولي الله فيه من الموافقة لله : ما يتحد به المحبوب والمكروه والمأمور والمنهي ونحو ذلك فيبقى محبوب الحق محبوبه ومكروه الحق مكروهه ومأمور الحق مأموره وولي الحق وليه وعدو الحق عدوه.([31])
وقال الشيخ ابن عثيمين: معنى هذا الحديث:" هو أن الله تعالى يسدد هذا الولي بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره، وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصا، وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعا واتباعا، فيتم له كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة، وهذا غاية التوفيق، وهذا ما فسره به السلف،وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ، موافق لحقيقته، متعين بسياقه، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره، ولله الحمد والمنة"([32])
وأما احتجاج أهل الحلول والاتحاد بهذا الحديث على باطلهم، فحجتهم بما فهموه من الحديث داحضة، وقولهم الذي ذهبوا إليه مردود، مناقض للعقل والشرع، ولذلك قال الشوكاني: قول الاتحادية يقضي عقل كل عاقل ببطلانه، ولا يحتاج غلى نصب الحجة معهم"([33])
ومع هذا فإن الحديث حجة عليهم، مبطل لمذهبهم من عدة وجوه، منها:
1- أنه قال: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب"، فأثبت ثلاثة: وليا، وعدوا يعادي وليّه، وميّز بين نفسه وبين وليّه، وعدو وليه.
2- أنه قال:"وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"، ففرق بين العبد المتقرب ، والرب المتقرب إليه.
3- وقال :"ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" فجعل العبد سائلا مستعيذا، والرب مسئولا مستعاذا به، وهذا يناقض الحلول.([34])
4- أنه قال:" وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته"
قال ابن تيمية:" هذا تصريح بأنه عبده، ليس الرب جزءا منه، ولا صفة له، وأنه يقبض ويموت، ومعلوم أن الله حي لا يموت، فضلا عن أن يكون بعضا، أو صفة لمن يموت، فإنه لو كان ظاهره أن الله نفس عين العبد وسمعه ويده ورجله، لكانت هذه الأعضاء تموت بموت الجملة"([35])
ومن خلال ما سبق نستطيع القول أن حديث" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" حديث صحيح رواه البخاري، وهو أشرف حديث روي في فضل الأولياء.
وأن أسلم المسالك وأحكمها في فهم مراد الله ورسوله هو إجراء الحديث على ظاهره، والأخذ بمدلوله في إثبات التردد صفة لله تعالى، على مايليق بجلاله وعظمته، مع القطع بكون تردده سبحانه وتعالى ليس كتردد المخلوق؛ لأنه جل وعلا (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فلا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وأن المراد من قوله:" فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" أن الله يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله، وتكون هذه الأعضاء مشغولة بالله تعالى، طاعة وامتثالا، فلا يصغي بسمعه ولا يرى ببصره، إلا ما يرضي الله تعالى ويكون هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى، وليس كما يزعم أهل الحلول والاتحاد من خرافات باطلة واعتقادات فاسدة من أن هذا القول يوجب أن يكون عين الحق هو عين أعضائه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

[1] ) صحيح البخاري( بشرح الفتح ) كتاب الرقاق، باب التواضع، (11/348) رقم (6502).

[2] ) انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها ، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص257.

[3] ) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، مرجع سابق، (10/ 217- 218).

[4] ) تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكرللنشر والتوزيع، ط1، 1404هـ/ 1984م، (3/ 101)

[5] ) هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث- القاهرة، ط1، 1407هـ ، 1986م،ص420.

[6] ) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، (13/ 493). بتصرف

[7] ) هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ص430.

[8] ) هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ص403.

[9] ) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، (11/ 349). بتصرف

[10] ) أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها،(2/ 58)، رقم(347).

[11] ) شرح السنة للبغوي، كتاب الدعوات،باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل والذكر، (5/ 19) رقم (1248).

[12] ) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، مرجع سابق، (18/ 129).

[13] ) قطر الولي في حديث الولي، الإمام الشوكاني، تحقيق إبراهيم إبراهيم هلال، مطبعة غسان- القاهرة، ص230-231.

[14] ) وهي مطبوعة ضمن كتابه " الحاوي للفتاوي" للسيوطي(1/ 560- 564). نقلا عن أحاديث العقيدة، للدبيخي، مرجع سابق، ص254.

[15] ) دفاع عن الحديث القدسي" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب "، د/ سعد المرصفي، مكتبة المنار- الكويت، مؤسسة الريان – بيروت،ط1، 1421هـ/ 2000م.

[16] ) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص260.

[17] ) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (7530) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5458)

[18] ) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، مرجع سابق، (18/ 129- 131)

[19] ) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، مرجع سابق،(10/ 58- 59).

[20] ) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الشيخ ابن باز، (9/ 417). نقلا عن: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص260.

[21] ) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص261.

[22] ) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، أبو سليمان الخطابي، تحقيق د/ محمد بن سعيد آل سعود، جامعة أم القرى – السعودية، ط1، 1409هـ/ 1988م، (3/ 2259 - 2260)، وانظرالأسماء والصفات، أبو بكر البيهقي، مرجع سابق، (2/ 449).

[23] ) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، (11/ 354). وانظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق : علي حسين البواب، دار الوطن - الرياض - 1418هـ - 1997م،(1/ 1009).


[24] ) قطر الولي في حديث الولي، الإمام الشوكاني، مرجع سابق، ص(515 – 516 ).

[25] ) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، مرجع سابق، (18/ 129- 130)

[26] ) قطر الولي في حديث الولي، الإمام الشوكاني، مرجع سابق، ص488.

[27] ) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص263- 264.

[28] ) انظر: قطر الولي في حديث الولي، الإمام الشوكاني، مرجع سابق، ص489 – 492 .

[29] ) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص266- 268 .

[30] ) صحيح البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل،(11/ 119) رقم (6316)، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه،(3/ 1348) رقم (1757) .

[31] ) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، مرجع سابق،(2/ 373).

[32] ) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، محمد صالح العثيمين، مرجع سابق، ص73.

[33] ) قطر الولي في حديث الولي، الإمام الشوكاني، مرجع سابق، ص438.

[34] ) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح،أبو العباس ابن تيمية ، دار العاصمة – الرياض، الطبعة الأولى ، 1414هـ،(3/ 335 - 336)


[35] ) بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس، ابن تيمية،(1/ 300) نقلا عن: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، سليمان الدبيخي، مرجع سابق، ص270 .