بسم الله الرحمن الرحيم
وبه تعالى نستعين
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد...
خبر نُدُورِ عين (قتادة) رضي الله عنه لما أصيبت يوم أحد؛ وإرجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.. حديثٌ استوقفني، ورأيت أنه في دراسته فائدة مرجوة لا تخلو بإذن الله .. فإن هذا الأمر هو من علامات نبوته ومعجزاته عليه الصلاة والسلام.
وهذا الخبر لهذه القصة والواقعة في الواقع قد أتى من عدة طرق لا تخلو كلها من مقال، وقفت على خمسة منها.
· الطريق الأول لها: فقد روي من طريق (محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة)؛ وهو يروى عنه من أربعة طرق:
الأول: طريق (عبد الله بن إدريس الأودي)؛ رواه:
-ابن أبي شيبة في (المصنف رقم 33031).
-ابن سعد في (الطبقات 3/239) ومن طريقه ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/282).
(فائدة): في هذا الطريق أتى عند ابن عبد البر في الاستيعاب ذكر الراوي الذي روى عنه عاصم هذا الأثر؛ وهو جابر بن عبد الله، فصار السند عنده موصولاً هكذا: (رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ يَوْمَ أُحُدٍ...).. وأيد صحة هذا النقل وروده عند العيني في عمدة القاري؛ حيث قال: (وعن ابن إسحاق من حديث جابر...) فذكره.
ثم رأيت أبو نعيم في (الدلائل رقم 416) قد وصله من طريق آخر؛ فكان السند عنده هكذا: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، ثنا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ سَقَطَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ أُحُدٍ...).
وعندي أن هذا كله من وهم واضطراب محمد بن إسحاق؛ لم يضبطه.
الثاني: طريق (يونس بن بكير الشيباني)؛ رواه:
-البيهقي في (الدلائل رقم 1140) ومن طريقه ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/282)، ابن الأثير في (أسد الغابة رقم 1367)؛ من رواية: أحمد بن عبد الجبار العطاردي.
الثالث: طريق (سلمة بن الفضل الأنصاري)؛ رواه:
-الطبري في (تاريخه رقم 608)؛ من رواية: محمد بن حميد التميمي.
(فائدة): في هذا الطريق صرح ابن إسحاق بالتحديث من عاصم.
الرابع: طريق (زياد بن عبد الله البكائي)؛ رواه:
-عياض في (الشفا 1/197)؛ من رواية: ابن هشام.
(فائدة): في هذا الطريق صرح ابن إسحاق بالتحديث من عاصم.. وحقيقة يعد هذا الطريق ملفق من عدة أخبار متناً وسندا.
· الحكم على هذا الطريق:
هذا الطريق لهذه القصة ضعيف؛ وفيه من العلل:
1) [محمد بن إسحاق]: وإن مشاه بعض الأئمة؛ لكن ضعّفه بعضهم وأقذع، والصحيح أنه ضعيف؛ والكلام في تفسير ضعفه مبثوث يضيق هذا المختصر في نقله.
2) عنعنته؛ فقد عنعن هذا الخبر عن عاصم. وبالنسبة للطريق الذي صرح فيه بالتحديث فلا شيء ولا يطمئن إليه في إزالة أثر العنعنة، فهو من رواية [محمد بن حميد التميمي]: كذاب متروك.. ومن رواية [زيد بن عبد الله البكائي]: وهو وإن كان ثبتاً في ابن إسحاق؛ لكنه فاحش الخطأ كثير الوهم مضعّف.
فقد اتفق ثلاثة من الرواة على رواية العنعنة: ابن أبي شيبة، وابن سعد، وأحمد بن عبد الجبار.. ولا يقاس الأولين بمن رويا الخبر بالتحديث.
3) الانقطاع؛ فعاصم لم يسمع من جده قتادة. وبالنسبة لما أورده ابن عبد البر من وصله بجابر بن عبد الله فلم أقف على ذلك مسنداً في شيء من الكتب.
وسبق أن قلت فيما تقدم أن سند ابن عبد البر وسند أبو نعيم من أوهام واضطراب وتخبط ابن إسحاق.
ثم على فرض تسليم ثبوت الوصل؛ يبقى الخبر ضعيفاً بالعلتين الأوليين.. على أنه يبقى هذا الاضطراب علة رابعة أخرى تضاف لباقي العلل.
· الطريق الثاني لها: طريق (عبد الله بن الفضل بن عاصم، عن أبيه، عن جده عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة)؛ رواه:
-الطبراني في (الكبير رقم 19/8) ومن طريقه أبو نعيم في (الدلائل رقم 417) وابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/281) والذهبي في (تاريخ الإسلام)؛ من رواية: الوليد بن حماد الرملي.
(فائدة): وقع في سند الطبراني زيادة خاطئة لابد من حذفها؛ حيث زيدت (عن) فأصبح السند هكذا: عبد الله بن الفضل، حدثني أبي، عن أبيه، عن عاصم.
· الحكم على هذا الطريق:
هذا الطريق لهذه القصة ضعيف؛ وفيه من العلل:
1) [الوليد بن حماد الرملي]: تفرد بتضعيفه الخليلي في الإرشاد.. والصحيح أنه لا بأس به.
2) [عبد الله بن الفضل بن عاصم]: هو وأبيه مجهولان لا يعرفان.
3) [عمر بن قتادة]: له صحبة؛ مقبول إن شاء الله. تفرد بالرواية عنه ابنه عاصم، ولا يروي إلا عن أبيه.
· الطريق الثالث لها: طريق (يحيى بن أيوب الغافقي، عن عمارة بن غزية الأنصاري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري)؛ رواه:
-ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/283)؛ من وراية: سعيد بن أبي مريم.
· الحكم على هذا الطريق:
هذا الطريق لهذه القصة ضعيف؛ وفيه من العلل:
1) [يحيى بن أيوب]: ليس بذاك القوي؛ سيء الحفظ.
2) الانقطاع؛ فإن يحيى بن سعيد لم يسمع من قتادة.. فالخبر مرسل.
· الطريق الرابع لها: طريق (عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده)؛ روي عنه من طريقين:
الأول: طريق (يحيى بن عبد الحميد الحماني)؛ رواه:
-أبو يعلى في (المسند رقم 1549) وفي (المفاريد رقم 59)، ومن طريقه ابن عدي في (الكامل 4/283) والبيهقي في (الدلائل رقم 1001، 1142) وابن الأثير في (أسد الغابة رقم 1366) والذهبي في (المعجم الكبير رقم 191). ومن طريق البيهقي ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/279)
-أبو نعيم في (معرفة الصحابة رقم 5789)؛ من رواية: محمد بن إبراهيم السراج.
-ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/280)؛ من رواية: ابن أبي الدنيا.
الثاني: طريق (مالك بن إسماعيل النهدي)؛ رواه:
-البيهقي في (الدلائل رقم 1141) ومن طريقه ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/279)، قوام السنة في (الدلائل رقم 120)؛من رواية: أحمد بن أبي خيثمة.
(فائدة): قد حصل خللٌ وخطأ في سند أبي يعلى في المسند وتابعه عليه بعض من رواه عنه من طريقه في المسند؛ وهو خطأ قديم حاصلٌ _ في نظري _ من راوية المسند عنه، قد أتى على الصواب والجادة عنده نفسه في المفاريد، وعند الأئمة ابن عدي والبيهقي وابن الأثير وابن عساكر والذهبي.. وهو على الصواب أيضاً في متابعة محمد بن إبراهيم السراج له عند أبو نعيم.
فإن كان راوية المسند عنه هو (محمد بن أحمد بن حمدان أبو عمرو) فقد بان السبب.
وبالنسبة لطريق مالك بن إسماعيل؛ فقد جعل رواية عاصم عن جده قتادة مباشرة؛ مسقطاً أبيه.. ومثلها رواية ابن أبي الدنيا عن يحيى عند ابن عساكر.
· الحكم على هذا الطريق:
هذا الطريق لهذه القصة ضعيف جداً؛ وفيه من العلل:
1) [يحيى الحماني]: ضعيفٌ جداً، متهم بالسرقة. وكلام الأئمة في حقه بالتضعيف والتشنيع لا يسع هذا المختصر وضعه فيه.
لكنه هنا تابعه مالك بن إسماعيل النهدي.
2) [عبد الرحمن بن الغسيل]: لين الحديث.
3) [عمر بن قتادة]: وقد تقدم.
4) الانقطاع في الطريق الذي روى فيه عاصم عن جده قتادة.
· الطريق الخامس لها: طريق تفرد به البيهقي في (الدلائل رقم 1144)؛ قال: (أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ _ وَكَانَ أَخَاهُ لأُمِّهِ _ أَنَّ عَيْنَهُ ذَهَبَتْ يَوْمَ أُحُد...).
أخرجه من طريقه: ابن عساكر في (تاريخ دمشق 49/282).
· الحكم على هذا الطريق:
هذا الطريق لهذه القصة تالفٌ لا شيء؛ فيه من العلل:
1) [سليمان بن أحمد الواسطي]: كذابٌ متروك الحديث، ومتهم بالسرقة.
2) [إسحاق بن عبد الله]: متروك الحديث ذاهبه، لا تحل الرواية عنه، ولو لم يوجد إلا هو علة لهذا الخبر لكفى.
والخلاصة: أن هذه القصة لقتادة رضي الله عنه قد رويت من عدة طرق لا تخلو جميعها من مقالٍ وضعف.. ولكن مع هذا؛ فإن هذا المجموع يوحي بأصلٍ للقصة، وأتوقف في الحكم عليها بشيء أرفع من أصلها وهو (الضعف)، ولا يعني هذا أني أحكم به. فتنبه وتأمل.
وفي الواقع كنت قد وقفت عند هذه القصة وأسانيدها وكونها في باب خصائصه صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ودلائل نبوته؛ ووجدت أن كلَّ ما ورد في مثل هذا الباب من متشابه هذه القصة يحتاج إلى دراسة متأنية.. وليس كلامي عن بصقه صلى الله عليه وسلم؛ ونحوه.. بل هو ما فوق البصق من أمثال خبر قتادة من المعجزات الخارقة.
ولا يأتي أحدٌ ويقول: لا يُتَشَدَّدُ في هذا.. فهذا والله لا يقبل منه، بل ويرد عليه، كيف والأمر إذا لم يثبت = فيه تكذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة أنه فعل ذلك وهو لم يفعل.
ففعلاً هذا باب يحتاج إلى دراسة.. وإن كنت _ بفضل الله وتوفيقه _ قد بدأت أول هذا الباب؛ فالبقية على الأحبة الكرام الغوالي حفظهم الله.
والله تعالى أعلم.. وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد.