سلسلة طيبة ايمانية عقدية تربوية
شرح حديث ذكر قيام الليل رواه الامام مسلم

نحو سبع حلقات
تابعونا
الحلقة الاولى
كتبه/دكتور ياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد،
فإن من أنفع ما يعين العبد على حضور قلبه في الصلاة أن يتدبر ويتأمل أدعية الاستفتاح التي وردت عن النبي - -، وخصوصا إذا كان العبد في قيامه بالليل، فقرأ وتدبر ما ورد من أدعية استفتاح قيام الليل، فاحفظ وتدبر - أخي الحبيب- هذا الدعاء الجامع العظيم الذي ثبت عن النبي - - إذ يقول: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين(1)، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك)(رواه مسلم).
فلقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله - - مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا سراجا، ينير القلوب بعد ظلماتها ويوقظها بعد رقدتها وغفلتها فتبصر حقائق الوجود وتحيا من موت الكفر والنفاق وتشفى من أدواء الشبهات والشهوات. فاللهم لك الحمد على إرساله وإنزال الكتاب عليه، ولك الحمد على هدايتنا للإسلام وتوفيقنا له كما نقول وخيرا مما نقول، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وقد خصه الله عز وجل وفضله على من سبقه من النبيين بخصال عديدة، منها أنه أوتي - - جوامع الكلم، فكانت كلماته ودعواته على اختصارها وإيجازها جامعة لمعاني الإيمان، مجددة لحقائقه في القلوب، مذكرة بالله واليوم الآخر، باقية لتكون معجزة مستمرة دالة على صدقه ونبوته - -، جمع الله له فيها من معاني الإيمان وحقائق التوحيد وأسباب حياة القلب ما يستغني به القلب عن غيره من أدعية يدعو بها سائر الناس.
ولا شك أن من تدبر الأدعية الثابتة عنه - - وجد نفسه أمام شمس مبهرة لا ينقطع نورها، ووجد حياة لقلبه تحركه على طريق النور الذي سار عليه النبي - - وصحبه الكرام - رضوان الله عليهم- وتبعهم على ذلك السلف الصالح - رحمة الله عليهم-، ولما كانت حاجتنا إلى تذكر معالم هذا الطريق ضرورية، خصوصا في أيام المحن التي تمر بها أمتنا، وكان تحقيق التغير من داخلنا من الأعماق وليس فقط في الظاهر مطلبا أساسيا لكل العاملين في الحقل الإسلامي حتى يغير الله ما بنا،فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلما كانت هذه الحاجة ضرورية، كانت هذه الوقفات مع ما في هذا الحديث الصحيح من معاني الإيمان والتوحيد وتزكية النفوس واستنارة القلوب وإحيائها بحقيقة ذكر الله عز وجل، فنسأل الله عز وجل أن يعيننا على شرح هذا الحديث وتدبر ما فيه،فإن تدبر هذا الحديث وغيره مما يشرح الله به الصدور، ويفتح للقلوب عيونا تبصر بها هذا الجمال والجلال، وتطعم وتسقى من معينه الميسر حتى تحيا من جديد حياة من نوع آخر، وتستنير بنوره - - الذي جعله الله له (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً)(الأحزاب:45-46)، فنحن نأخذ من النور الذي جعله الله للنبي - -، جعله الله سراجا منيرا فالقلوب لها طعام وشراب من هذا المعين الذي فضله الله - عز وجل- به، ورغم تباعد السنين يصل نور هذا السراج إلى من اجتباه الله من عباده قويا ظاهرا مبهرا.
فيقول المرء: فكيف بمن اقترب منه - - زمانا ومكانا وعلما وعملا وسلوكا؟ فكيف بمن رآه وصحبه كيف نصيبهم من هذا النور؟ لاشك أن الصحابة كانوا أعظم الناس نصيبا من نوره - - ولذلك اهتدت بهم الأمم، فالصحابة لم يؤلفوا كتبا ولم يسجلوا أشرطة ولم يكن أكثرهم خطباء فصحاء يجتمع المئات والآلاف عليهم، ومع ذلك فكانوا أساتذة العالم وغيروا الأمم تغييرا جذريا، فالواحد منهم كان يفتح الله به البلاد و تتغير به موازين القوى في المعارك، ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه-قال: قال رسول الله - -: (يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله ؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم) متفق عليه،فالله عز وجل فتح بهم البلاد وقلوب العباد وفتح بهم القلوب والأمصار، وذلك لأن نصيبهم من النور الذي جاء به النبي - - كان أعظم.
فنسأل الله عز وجل أن يجعل في قلوبنا نورا وفي ألسنتنا نورا، وأن يجعل لنا في أسماعنا نورا وفي أبصارنا نورا، وأن يجعل من خلفنا نورا ومن أمامنا نورا، ومن فوقنا نورا ومن تحتنا نورا، اللهم أعطنا نورا، ومن لم يجعل له نورا فما له من نور.
(1)وإن كان يجب على الواحد منا أن يقول وأنا من المسلمين، هذا هو الصحيح، ولكن الوارد عن
وجهت وجهي أي وجهتي وقصدي وإرادتي، والوجه يطلق ويراد به الوجهة كما يقال سرت في هذا الوجه، أي سرت في هذه الوجهة، ومنه الوجه البحري والوجه القبلي. ويحتمل في الحديث أن يكون الوجه بمعنى الوجه المعروف، وتوجهه لازم للوجهة والقصد، ولكن المعنى الأول أظهر.
و قضية توجيه الوجهة والقصد لله -عزوجل- يحتاج الإنسان أن يتذكرها كل يوم، لذا يتذكرها عند تلاوته هذا الذكر في قيام الليل، فالإنسان تشغله مشاغل الحياة كل يوم عن وجهته وقصده فتأخذه بعيداً عنها، وتلقيه في غمرة التنافس على متع الحياة وأموالها ومناصبها وفي صراعاتها ونزاعاتها، فتنسيه قضية وجهته.
وهذه الجملة في الحديث - "وجهت وجهي" - موافقة لقول إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- والذي جاء في الآية (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام79)،وهي قد وقعت بعد مجادلته قومه في عبادتهم للكواكب، وقوله عن الكوكب الأول (قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)الأنعام76، وعن القمر قال بعده (فلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(الأنعام77)، ثم لما رأى الشمس بازغة (قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام78-79 يتبين لنا بعد هذا الترتيب أن توجيه الوجهة لله سبحانه وإفراده بالحب -حب العبادة- أمر لا يستغني عنه العبد طرفة عين. وقد قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-(لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) لأنه لا يستطيع أن يستغني عن إلهه طرفة عين، لا يستطيع أن يستغني عن حبه وتوجهه لحظة وحدة، فمن يغيب لا يُحَب، وأما حبه لله عز وجل فهو في كل لحظة.
وتأمل هاتين الجملتين (قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)، و (قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) لتعلم أنه يحتاج إلى الأمرين معا، يحتاج إلى هداية ويحتاج إلى حب مستمر دائم، إذا فقد واحداً منهما لا يستطيع أن يحيى حياة مستقرة مستمرة، لا يحيى قلبه إلا بحب دائم لا يغيب، وبهداية من الله سبحانه وتعالى.
فيوجه العبد وجهته لله عزوجل الذي فطر السماوات والأرض طالبا منه أن يهديه وأن يوفقه لحبه على الدوام، هداية لاتغيب وحبا لا ينقطع، فهو يحتاج إلى هداية ربه في كل لحظة وخطرة ونفس. فإن القلب ترد عليه خواطر في كل لحظة بالليل والنهار، فما يميز بين الحق والباطل منها إلا بهداية وتوفيق من الله، ولايميز إلا بإخلاص يتوجه به إلى الله عز وجل، ولو لم يهده الله لوردت عليه خواطر وإرادات ورغبات تهلكه، وهو لا يستطيع أن يميز بينها وبين ما ينفعه إلا بتوفيقٍ من الله (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )(هود88) فيستشعر الإنسان أنه يحتاج إلى الله في كل لحظة، يحتاجه هادياً ومعبوداً محبوباً يخلص له عمله فلا غنى له أبداً عن إلهه وموالاه.
فإذا قال العبد "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض" استشعر حبه -سبحانه وتعالى- وتذكر فضله بهدايته له، فوجًّه وجهة قلبه إليه، فهو لا يحب غيره لأنه يأفل، ولا يطلب الهداية من غيره لأنه يعجز عن أن يهديه، وعند ذلك يشعر العبد بعظيم قدر هذا الدعاء.
فأنت أيها العبد وجهت وجهك لله لأن الله هداك ووفقك وأعانك وأخذ بناصيتك إليه حتى أحببته وعرفته فاطراً للسماوات والأرض، وهذا إقرار بتوحيد الربوبية، فهذه الجملة الأولى جمعت توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية في قوله (وجهت وجهي) هذا هو توحيد الألوهية، وقوله (للذي فطر السماوات والأرض) هذا توحيد الربوبية.
نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا وعملا صالحا متقبلا ، ونكمل في حلقة قادمة إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.

موقع صوت السلف