بسم الله الرحمن الرحيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري


يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة النحل 91

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأََيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون
روى الامام مسلم رحمه الله من حديث بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام
اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا, واذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم: ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرينفان أَبَوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم, واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه, واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا

هذا باب عظيم من الأبواب الأخيرة في هذا الكتاب، وهو باب ما جاء في ذمة الله عزّ وجلَّ وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذِكر الإمام ابن تيمية رحمه الله لهذا الباب لأجل حديث بريده رضي الله عنه الذي ساقه وفيه: وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه .
وهذا لأجل تعظيم الرب جل وعلا، وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تعظيم الله جل وعلا في مناجاته، وفي سؤاله، وفي العبادة له جل وعلا، وفي التعامل مع الناس، هذا كله من كمال التوحيد.
وهذا الباب من جهة التعامل مع الناس، كما جاء في الباب الذي قبله، فالباب الذي قبله -وهو باب ما جاء في كثرة الحلف , متعلق بتعظيم الله جل وعلا حين التعامل مع الناس، وباب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه متعلق بالتعامل مع الناس في الحالات العسرة الصعبة، وهي حال الجهاد.
فنبّه بذلك على أن تعظيم الرب جل وعلا يكون في التعامل، ولو كان ذلك التعامل في أعصب الحالات وهي الجهاد، فإن العبد يكون موقرا لله مجلا لله عزوجل، معظما لأسمائه وصفاته، ومن ذاك أن يعظم ذمة الله وذمة نبيه.
والذمة هنا بمعنى العهد، وذمة الله تبارك وتعالى تعني عهد الله عزوجل وعهد نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا كان يعطي بعهد الله ثم يخفر فيكون قد خفر عهد الله جل وعلا وفَجَر في ذلك، وهذا منافٍ لكمال التوحيد الواجب؛ لأن الواجب على العبد أن يُعظم الله جل جلاله وألا يخفر عهده وذمته؛ لأنه إذا أعطى بذمة الله عزوجل فإنه يجب عليه أن يُوفي بهذه الذمة مهما كان؛ حتى لا ينسب النقص لعدم تعظيم ذمة الله جل جلاله من أهل الإسلام.
لهذا كان إعطاء مثل هذه الكلمة مثل كثرة الحلف، فلا يجوز أن تجعل في العهد ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما لا يجوز كثرة حلف الأيمان؛ لأن في كل منهما نقصا في تعظيم الرب جل جلاله.
قال: وقولة تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأََيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
العهد في قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ , فسر بالعقد، وفسر باليمين، فالعهد بمعنى العقد كما قال جل وعلا في سورة الاسراء 34: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا , وقال جل وعلا في مستهل سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فالعقد والعهد بمعنى؛ فلهذا فُسِّر وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ , بأنها العقود التي تكون بين الناس، وفُسِّر العهد هنا بأنه اليمين، ودل عليه قوله بعدها: وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
فيجب الوفاء بالعقد، ويجب الوفاء باليمين تعظيما لحق الله جل وعلا؛ لأن من أعطى اليمين بالله فإن معناه أنه أكد وفاءه بهذا الشيء الذي تكلم به، وأكد ذلك بالله جل جلاله، فإذا خالف وأخفر فمعنى ذلك أنه لم يُعظم الله جل جلاله تعظيما خاف بسببه من أن لا يقيم ما يجب لله جل وعلا من الوفاء باليمين؛ ولهذا قال: وَلا تَنْقُضُوا الأََيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا
حين استشهدتم الله جل جلاله، أو حين حلفتم بالله جل جلاله؛ لهذا كفارة اليمين واجبة على ما هو مفصل في موضعه من كتب الفقه والحديث.
ظاهر الدلالة على ما ذكرنا، ففيه تعظيم الله جل جلاله, بألاّيُعطي العبد الناس بذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل أن يعطي بذمته هو، وفي هذا تنبيه عظيم لأهل التوحيد، وطلبة العلم الذين يهتمون بهذا العلم، ويعرف الناس منهم أنهم يهتمون بهذا العلم، ألا يبدر منهم ألفاظ أو أفعال تدل على عدم تمثلهم بهذا العلم.
فإن التوحيد هو مقام الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومقام أولياء الله الصالحين، فأن يتعلم طالب العلم مسائل التوحيد، ثم لا تظهر على لسانه، أو على جوارحه، أو على تعامله، لا شك أن هذا يرجع (ولو لم يشعر) يرجع إلى اتهام ذلك الذي حمله من التوحيد، أو من العلم الذي هو علم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام .
فتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا: وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه
لأجل أنه قد يُدخَل على أهل الإسلام، أو على الدين في نفسه من جهة فعلهم، فيخفرون هذه الذمة، فيرجع الإخفار ذلك إلى اتهام ما حملوه من الإسلام ومن الدين
فهذه مسألة عظيمة، فتستحضر أن الناس ينظرون إليك، خاصة في هذا الزمان الذي هو زمان شُبَهٍ وزمان فتن، ينظرون إليك أنك تحمل سنة، تحمل توحيدا، تحمل علما شرعيا، فلا تعاملهم إلا بشيء يكون معه تعظيم الرب جل وعلا، وتجعل أولئك يعظمون الله -جل وعلا- بتعظيمك له، ولا تخفر في اليمين، ولا تخفر في ذمة الله، أو تكون في الشهادة حائفا، أو في التعامل حائفا؛ لأن ذلك منقص لأثر ما تحمله من العلم والدين، فتذكر هذا
وتذكر أيضا قوله عليه الصلاة والسلام هنا: وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا
وذلك حتى إذا كان غلط فيكون الغلط منسوبا إلى من حَكم؛ إلى هذا البشر؛ ولا يكون منسوبا إلى حكم الله؛ فيصد الناس عن دين الله.
وكم من الناس ممّن يحملون سُنة أو علما أو يحملون استقامة, يسيئون بأفعالهم وأقوالهم لأجل عدم تعلمهم، أو فهمهم ما يجب لله جل وعلا , وما يجب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه الرب الكريم جل وعلا وتعالى وتقدس ، نبرأ إلى الله جل وعلا من كل نقص، و نسأله أن يعفو ويتجاوز ويرحمنا جميعا.

والله وحده أعلم بغيبه

رحم الله شيخنا وشيخ الاسلام ابن تيمية على هذا التوضيح وجمعنا الله به في مستقر رحمته في مقعد صدق عند مليك مقتدر, انه وحده عزوجل وليُّ ذلك والقادر عليه.