(البيان الأول : ما لم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره)
قال تعالى في المتمتع : {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} . فكان بينا عند من خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبع في المرجع عشرة أيام كاملة . فاحتمل قوله {تلك عشرة كاملة} أن يكون إعلاما بجماع العدد واحتمل أن يكون زيادة في التبيين .
(البيان الثاني : [ما ذكره الكتاب وبينت السنة قيوده وشروطه])
قال تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا} . فذكر كتاب الله الوضوء والغسل من الجنابة ، فكان أقل غسل الوجه والأعضاء مرة واحتمل ما هو أكثر منها فبينت السنة أن الواحدة من الغسل أجزأت ، واحتملت الآية أن يكون الكعبين والمرفقين حدين للغسل أو داخلين فيه فدلت السنة أنهما مما يغسل .
(البيان الثالث : ما فرضه الكتاب وبينته السنة كيف فرضه)
قال تعالى : {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، وقال : {وأتموا الحج والعمرة لله} . ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات ومواقيتها وسننها ، وعدد الزكاة ومواقيتها ، وكيف عمل الحج والعمرة وحيث يزول هذا ويثبت وتختلف سننه وتتفق ، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنة .
(البيان الرابع : ما سنه الرسول بلا نص في الكتاب)
كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب يجب قبوله منه . ففي ذكر ما من الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله وفي ما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله دليل على أن السنة أحد وجوه البيان في كتاب الله . فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن رسول الله سنتة بفرض الله على خلقه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه .
(البيان الخامس : [ما ذكر مثاله أو شبهه في الكتاب أو السنة فيقاس عليه])
قال تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} . فرض عليهم حيث ما كانوا أن يولوا وجوههم شطره وشطر الشيء جهته وتلقاءه ، وهو قصد عين الشيء إذا كان معاينا فبالصواب وإذا كان مغيبا فبالاجتهاد وذلك أكثر ما يمكنه فيه . وقال تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، والعدل العامل بطاعته ، فمن رأوه عاملا بها كان عدلا ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل . وقال تعالى : {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاءه مثل ما قتل من النعم} ، والمثل على الظاهر أقرب الأشياء شبها في العظم من البدن ، فنظرنا ما قتل من دواب الصيد أي شئ كان من النعم أقرب منه شبها فديناه به . ولم يحتمل المثل من النعم القيمة فيما له مثله في البدن من النعم إلا احتمالا مستكرها باطنا فكان الظاهر الأعم أولى المعينين .
وهذا اجتهاد بطلب الدليل على صواب القبلة والعدل والمثل . وهذا الصنف من العلم دليل على أن ليس لاحد أبدا أن يقول في شئ حل ولا حرم إلا من جهة العلم ، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس . والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة لأنهما علم الحق المفترض طلبه كطلب ما وصفنا من القبلة والعدل والمثل . وموافقته تكون من وجهين : (1) أن يكون الحلال والحرام منصوصا لمعنى ، فأحللنا أو حرمنا ما لم ينص فيه بعينه مما فيه ذلك المعنى ؛ أو (2) نجد الشئ منه والشيئ من غيره ولا نجد شيئا أقرب به شبها من أحدهما فنلحقه بأولى الأشياء شبها به كما قلنا في الصيد .