بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونسترشده ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير، وعلى آله وصحبه التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}.
إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فإن موضوع المرأة وتحريرها من الموضوعات المهمة التي كَثُر الحديث عنها في زماننا، وشاعت حولها الإدعاءات، والضلالات خاصة في أيامنا ولا سيما ممن ابتغى نهجاً مخالفاً لشرعنا.
ولقد تشعبت مسالك الناس قديماً وحديثاً في تعاملهم مع المرأة، ولم تتمكن الديانات المحرفة والفلسفات المختلفة من تحقيق التوازن والانسجام لها، بل زادتها تشتتاً وتعاسة؛ لانحرافها عن الفطرة وإغراقها في الخرافات والعقائد الباطلة.
وفي خضم هذه الأمواج المتلاطمة من التيارات الفكرية والعقدية بعث الله بالشريعة الربانية التي هي الحق .فكانت الحكم الفصل في المسائل كافة .وكان للمراة النصيب الكافي.ومما منحته المراه في الشريعة الاسلامية مايلي
1 – المهـر وهو ما يقدمه الرجل للمرأة من مال ومنفعة إذا أراد تزوجها.
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال( مهيم يا عبد الرحمن ؟ ). قال يارسول الله تزوجت امرأة من الأنصار قال ( فما سقت فيها ) . فقال وزن نواة من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أولم ولو بشاة).
وهذا حق واجب على الرجل للمرأة إذا أراد تزوجها ، فقد أمر الله تعالى به في قوله (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : عن عائشة : نحلة: فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نحلة: أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماه. وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذباً بغير حق.
ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حَتمًا، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبًا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيبًا؛ ولهذا قال الله تعالى { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }.
ومع أن الإسلام أوجب على الرجل تقديم مهر للمرأة التي يريد التزوج بها لكن لم يجعله شرطاً ولا ركناً في العقد، وإنما يجب به؛ بمعنى أنه أثر من آثار العقد فيصح مقدماً ومؤخراً ، قال الله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين )، فرفع الله الجناح عمن طلّق في نكاح لم يسم فيه المهر، والطلاق لا يكون إلا في نكاح صحيح ، فدل على جواز النكاح بلا تسمية المهر.
ومع هذا فقد حفظ الإسلام حق المرأة في المهر ، وجعله معلقاً في ذمة الرجل حتى يؤديه ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ « أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلاَنَةَ ». قَالَ نَعَمْ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ «أَتَرْضِينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلاَنًا ». قَالَتْ نَعَمْ. فَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَدَخَلَ بِهَا الرَّجُلُ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَكَانَ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَنِى فُلاَنَةَ وَلَمْ أَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا وَإِنِّى أُشْهِدُكُمْ أَنِّى أَعْطَيْتُهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمِى بِخَيْبَرَ فَأَخَذَتْ سَهْمًا فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- وَحَدِيثُهُ أَتَمُّ - فِى أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم« خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ ».
وعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا الصَّدَاقَ فَقَالَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهِ فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ. بل جعل الإسلام منع المرأة حقها في المهر أو أخذ منه شيئاً بغير رضاها من أعظم الذنوب قال الله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوّج امرأةً ؛ فلما قضى حاجته منها طلقها، وذهب بمهرها، ورجل استعمل رجلاً فذهب بأجرته، وآخر يقتل دابة عبثاً ).
ولا يحلّ شيء من مهر المرأة إلا ما كان عن طيبة نفس منها ( فكلوه هنيئاً مريئاً )،وليس للمهر مقدار محدد، وإنما يصح بكل ما تنتفع به المرأة وإن قلّ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها فقال ( ما لي اليوم من النساء من حاجة ) . فقال رجل يا رسول الله زوجنيها قال ( ما عندك ؟) . قال ما عندي شيء قال ( أعطها ولو خاتم من حديد). قال ما عندي شيء قال ( فما عندك من القرآن ؟) . قال كذا وكذا قال ( فقد ملكتكها بما معك من القرآن ).
والمهر تكريم للمرأة وتطييب لنفسها كشأن الهدية -سبيل للتحابب والتوادّ ، لا أنه ثمن للمرأة كما يظن بعض الجُهّال فيُغالي فيه ليبلغ به قدر المرأة كما يظن وما هو ببالغه ، فهاهي سيدة نساء أهل الجنة ابنة سيد المرسلين فاطمة رضي الله عنها لما تزوّجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأراد الدخول بها ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعطها شيئاً ) قال : ما عندي شيء . قال ( أين درعك الحُطَمية ؟ ) فأعطاها درعه.
وهاهي مهور أمهات المؤمنين رضي الله عنهن لم تتجاوز خمسمائة درهم فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت عائشة رضي الله عنها ، كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت : كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة وقية ونشًّا ، قالت : أ تدري ما النّشّ ؟ قلت : لا ، قالت : نصف أوقية ، فذلك خمسمائة درهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :[ والمستحب في الصداق -مع القدرة واليسار- أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا بناته ، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة ، نحواً من تسعة عشر ديناراً ، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك فقد استنّ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصداق .... فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هنّ خير خلق الله في كل فضيلة ، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة ، فهو جاهل أحمق ، وكذلك صداق أمهات المؤمنين ، وهذا مع القدرة واليسار ، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة .
وغلاء المهر ومؤونة الزواج سبب لوقوع عداوة للمرأة في نفس زوجها ؛ إذ تكلّف لها ما لا يطيق ، فلا يطيق منها بعدئذ هفوة أو زلل أو تقصير يسير ؛ عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَلَا لَا تَغْلُوا صُدُقَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَكْرُمَةً وَفِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ
بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُغْلِي بِصَدُقَةِ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي نَفْسِهِ وَحَتَّى يَقُولَ كُلِّفْتُ لَكُمْ عِلْقَ الْقِرْبَةِ. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من تكلف من المهر ما لا يطيق ، وقد أتى يستعينه على آداء المهر ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ.فَق الَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئًا ». قَالَ قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا. قَالَ « عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا ». قَالَ عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ. فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِى بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ ». قَالَ فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِى عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ.
2- النفقة وهي تشمل الطعام والشراب ، والملبس ، والمسكن وسائر ما تحتاج إليه الزوجة .
وقد أخبر عز وجل أن الرجال هم المنفقون على النساء ، ولذلك كانت لهم القوامة عليهن بسبب الإنفاق عليهن قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ).
قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: [ يعني بقوله جل ثناؤه: "الرجال قوّامون على النساء"، الرجال أهل قيام على نسائهم ، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم "بما فضّل الله بعضهم على بعض"، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن ].
وقد دلّ على وجوب النفقة . قوله تعالى ( لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً ).
وقوله سبحانه ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها )
إلا أن هذه النفقة تكون بقدر السعة ، قال الإمام أبي جعفر الطبري : [ يعني تعالى ذكره بقوله:"وعلى المولود له"، وعلى آباء الصبيان للمراضع"رزقهن"، يعني: رزق والدتهن. ويعني بـ"الرزق": ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم .

و"كسوتهن"، ويعني: بـ"الكسوة": الملبس.
ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره:( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا ) ، وكما القول في تأويل قوله تعالى : ( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا ) يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك:لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره:( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) ].
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع ( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف ) .
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : ( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَصلى الله عليه وسلم( أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ - أَوِ اكْتَسَبْتَ - وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِى الْبَيْتِ ).
وإذا كان الرجل بخيلاً ، أو مقصراً في النفقة لأي سبب كان مع قدرته عليها ، جاز للمرأة أن تأخذ من ماله قدر حاجتها وولدها بدون إذنه ، لأن في منعها النفقة مضارة لها ولولدها وتضييع لهما ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : إن هند بنت عُتبة قالت : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم . فقال ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )
قال ابن قدامة رحمه الله :[ فيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها ، وأن ذلك مُقدر بكفايتها ، وأن نفقة ولدها عليه دونها بقدر كفايتهم ، وأن ذلك بالمعروف ، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه ].
والرجل مؤاخذ على تضييع زوجته وإحواجها ومحاسب عليه كما في حديث أنس رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه ، أحَفِظ ذلك أم ضيّع ، حتى يُسأل الرجل عن أهل بيته )( .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ )، وهذا حث على النفقة على العيال – الزوجة والأولاد وغيرهم ممن يعول– والتحذير من التقصير فيها .
وتسقط النفقة إذا نشزت المرأة وهو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح فمتى ظهر منها إمارات النشوز مثل أن يدعوها فلا تجيبه أو تجيبه مكرهة متبرمة سقطت نفقتها ، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه المتقدم (اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) .
إكرام الزوجة وتقديرها:
ويأخذ الإكرام صوراً متعددة ؛ فتارة يكون بالثناء الحسن عليها ، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها ، واستغفار لها ، فذكرها يوماً ، فحملتني الغيرة ، فقلت: لقد عوَّضك الله من كبيرة السن ! قالت: فرأيته غضب غضباً أُسقطتُ في خَلَدي ، وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أَعُد أذكرها بسوء ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت ، قال:" كيف قلتِ؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ رفضني الناس ، ورُزقت منها الولد، وحرمتموه مني " قالت: فغدا وراح عليَّ بها شهراً .

وتارة بإكرام أهلها، وأهل ودها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول عنه عائشة - رضي الله عنها- ( ما غِرتُ من امرأة ما غرت من خديجة ، من كثرة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ، وما رأيتها قط ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ).

وتارة بأن يتحدث إليها، ويستمع إلى حديثها ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر ...، فإن كنت مستيقظة حدّثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة ). وهذا المصطفى عليه الصلاة والسلام ينصت لحديث عائشة الطويل عن إحدى عشر نسوة اجتمعن في الجاهلية، فتعاهدن، وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً ، فلما قضت حديثها ، قال لها ملاطفاً ( وأنا لك كأبي زرع لأم زرع ) .
وتارة بأن يحترم رأيها ، ويأخذ بشوراها، إذا أشارت عليه برأي صواب ؛ فقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة يوم الحديبية حين تأخر الصحابة - رضي الله عنهم- عن تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يانبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك . فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل غماً.

وكذلك يقدِّر حال زوجته ؛ فمن الزوجات من تكون صغيرة السن، تحب اللهو واللعب، ولا تحسن الطبخ وعمل البيت ، عن عائشة، قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم .فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.
وفي حادثة الإفك سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية عن عائشة - رضي الله عنها- :" هل رأيت من شيء يريبك "؟ قالت: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فيأتي الداجن، فيأكله، وما كان عليه السلام يعتب عليها في شيء من ذلك .

ومنهن من تكون ذات ولد من غيره، تحتاج إلى رعاية شؤونه ، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قالت أم سلمة: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمني، وبيننا حجاب، فخطبني، فقلت: وما تريد إلي ؟ ما أقول هذا إلا رغبة لك عن نفسي ; إني امرأة قد أدبر من سني، وإني أم أيتام، وأنا شديدة الغيرة، وأنت يا رسول الله تجمع النساء.
قال: " أما الغيرة فيذهبها الله، وأما السن فأنا أكبر منك، وأما أيتامك فعلى الله وعلى رسوله " فأذنت، فتزوجني، فكانوا في حجره صلى الله عليه وسلم .

ومنهن من تكون غريبة عن قومه، فيواسيها ويؤانسها ، فعن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال:" ما يبكيك "؟ فقالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك "؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة.
3-العدل بين الزوجة وصويحباتها/
أصبح الحديث عن الزوجة الثانية من الأمور التي تهدد أمن الأسرة واستقرارها النفسي والمادي ، وهذا يرجع إلى أسلوب الزوج في مناقشة هذا الموضوع مع زوجته؛ إذ كثيراً ما يكرره على مسامع زوجته على وجه التهديد ، أو التسلية؛ لإثارة غيرتها عليه، والعبث بمشاعرها ، أو المزاح الثقيل ، أضف إلى ذلك النماذج الموجودة في المجتمع، التي تعطي صورة سيئة لقضية التعدد . والإعلام الذي يركز على هذه النماذج، ويشيعها في المجتمع .
ولا شكّ أن كل زوج يتمنى التزوّج بثانية، وثالثة، ورابعة -وإلا لما جعله الله مما يتنعم به الرجل إن كان من أهل الجنة- ولكن ليس عليه أن يبديه للمرأة حفظاً؛ لقوله تعالى ( وعاشروهن بالمعروف ) .

ولو تأملنا الحكمة من شرعية التعدد لوجدنا حكماً عظيمة، تصب في مصلحة الفرد، والمجتمع، والأمة، منها :
- تكثير سواد الأمة الإسلامية.
-كفالة الأيامى من النساء واليتامى.
- الحد من شيوع الفواحش في المجتمع.
- حل بعض المشكلات الأسرية الناتجة عن عقم الزوجة، أو مرضها، أو عدم قدرتها على القيام بالحقوق الزوجية كما ينبغي .
لكن تبقى قضية العدل والقدرة المحور الأساس الذي يبيح للزوج التزوج بثانية وأكثر؛ للحفاظ على كيان الأسرة ، فالهدف من التعدد بناء المزيد من الأسر، وليس استبدال الأسر ببعضها، أو هدم أسرة وبناء أسرة أخرى مكانها .
فإن ترتب على هذا التعدد ظلم وتعدي ، أو تضييع لبعض الزوجات ، أو تفريط في حق الأولاد ، أو أي ضرر آخر لحق بالرجل من الإثم بقدر الضرر الحاصل .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد جمع - عليه الصلاة والسلام- في عقده أحد عشرة امرأة، حقق لهن كلهن السكن، والمودة، والرحمة، وهذا يدل على أن العدل ليس مستحيلاً ؛ بل هو جدٌ ممكن إذا اتقى الزوج الله تعالى، واستشعر الخوف من الوقوع في الظلم ، واجتهد لتحقيق العدل بين نسائه . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل).

وأما قوله سبحانه وتعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
قال العلامة الطبري - رحمه الله-: " لن تطيقوا أيها الرجال، أن تسوُّوا بين نسائكم وأزواجكم في حُبِّهن بقلوبكم حتى تعدِلوا بينهنّ في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثلُ ما لصواحبها؛ لأن ذلك مما لا تملكونه، وليس إليكم "ولو حرصتم"، يقول: ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك، "فلا تميلوا كلَّ الميل"، يقول: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهن كلَّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق: في القسم لهن، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف "فتذروها كالمعلقة"، يقول: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها "كالمعلقة"، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيِّمٌ."

يدل على ذلك أيضاً حديث عائشة - رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ، ويقول ( اللهم هذا قَسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ).
والعدل الواجب هو في المبيت، والسكن، والنفقة.
والأفضل في المبيت أن لا يزيد في القسم على ليلة ليلة؛ لأن فيه مخاطرة بحقوق زوجاته، وأن لا يأتي غير صاحبة النوبة في بيتها في الليل ؛ بل ذلك حرام، إلا لضرورة ، وإلا بإذنها ، ويستحب للزوج أن يأتي كل امرأة في بيتها ، ولا يدعوها إلى بيته ، لكن لو دعا كل واحدة في نوبتها إلى بيته كان له ذلك ، وهو خلاف الأفضل، ولو دعاها إلى بيت ضرائرها لم تلزمها الإجابة، يدل على ذلك كله حديث أنس رضي الله عنه قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة ، وكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع ، فكن يجتمعن في كل ليلة في بيت التي يأتيها ...).
وحق المبيت يثبت للزوجة وإن كانت حائضاً، أو نفساء، أو مريضة ؛ لأن مقاصد المبيت المؤانسة، والتوادد، ونحوه ، وهذا تستوي فيه جميع الزوجات .
وإذا تزوّج بكراً على امرأته أقام عندها سبعاً، ثم قسم بينهما ، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً، ثم قسم بينهما ؛ لحديث أنس رضي الله عنه ( من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقَسَّم ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ).
هذا والله اجل واعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه والتابعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخوكم ابا عبدالرحمن عبدالله الاثري المغربي المعروف بناصر الدعوة