بسم الله وبعد:
فهذا مبحث في بيان استحباب الإشارة بالسبابة في جلوس الصلاة كلِّه، أوّلِه وتشهدِه، من غير تحريك للسبابة، على أن هذه المسألة من الخلاف الواسع الذي لا يجوز فيه التبديع ولا الإنكار والله المستعان، وقد قسمته إلى ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى: ذكر أدلة من قال بالتحريك وبيان عللها
المسألة الثانية: ذكر الأدلة المؤكدة للإشارة من غير تحريك للأصبع.
المسألة الثالثة: في ذكر الأدلة الدالة على استحباب الإشارة في جلوس الصلاة كله:
المسألة الأولى: ذكر أدلة من قال بالتحريك وبيان عللها:
الدليل الأول وعلله: قال ابن عدي في الكامل من ترجمة أبي سلمة الكندي عثمان بن مقسم:" وشيبانٌ يكنيه لضعفه، حدثنا أحمد بن جعفر البلخي ثنا محمد بن عمر البزار ثنا شريح بن النعمان ثنا عثمان بن مقسم عن علقمة بن مرثد عن زر بن حبيش عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا وبسط شريح كفه اليسرى وقال بأصبعه اليمنى يحركها السبابة"، هذا حديث باطل لا يُفرَح به أبدا، أحمد بن جعفر إن كان هو بن محمد بن المثنى فهو ثقة، وإلا فمجهول، ومحمد بن عمر يحتاج إلى معرفةٍ وتوثيقٍ، وعثمان بن مقسم ضعيف جدا بل وقد اتهم، وشاركه غيره ممن هم أولى منه في رواية هذا الحديث من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ولم يذكروا فيه عن أبيه عن عمر بن الخطاب، ولا زيادة التحريك، بل رووه مرسلا وبالإشارة فقط وهم أوثق منه:
فرواه أبو بكر 30298 حدثنَا جَرِير عَن مَنْصُور عَن رَاشِد أَبِي سَعد عَن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا جَلَسَ فِي الصَّلاةِ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ فِي الدُّعَاء"، وكذلك قاله عمر بن عبد الرحمن عن منصور كما ذكر البخاري في تاريخه من ترجمة راشد أبو سعد، وهذا أثر مرسل ، وراشد مجهول العين، واختلف عليه فيه فرواه عنه منصور كما مضى، وخالفه الأعمش فجعله عن عبيد بن عمير، فقال البخاري: قال عثمان ثنا جرير عن الأعمش عن راشد أبى سعد سمع عبيد بن عمير"، بدل سعيد بن أبزى، لكن اختُلف في هذا الحديث على منصور، فرواه عنه جرير وعمر عن راشد عن سعيد كما مضى، وخالفهما شيبان فجعله عن هلال بدل راشد، فقال البخاري: وقال سعد نا شيبان عن منصور عن هلال بن يساف عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: كان النبي صلى الله عليه وسلم"، وهو مرسل رجاله ثقات وقد أُعل، بينما رواه عبد الرزاق 3237 وابن مهدي عن الثوري عن منصور عن أبي سعيد الخزاعي عن ابن أبزى قال:" كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في صلاته هكذا وأشار بإصبعه السبابة"، كذا أبهما ابنَ أبزى، بينما جعله يحيى القطانُ عن الثوريِّ: عبدَ الرحمنِ بنَ أبزى، وفيه أبو سعيد مجهول أيضا، والحديث مضطرب ليس فيه ذكرٌ للتحريك أصلا، بل فيه الإشارة فقط كما تواترت بذلك الأحاديث.
وقوله في الحديث:" إذَا جَلَسَ فِي الصَّلاة"، فيه دليل عام على استحباب الإشارة بالسبابة في جلوس السجود والتشهد، ويشهد له أيضا:
الدليل الثاني: خرجه أحمد في مسنده (4/318) والنسائي 889 وغيرهما من طرق عن زَائِدَة بن قدامة ثنا عَاصم بْنُ كُلَيْبٍ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيَّ أخْبَرَهُ قَال:" قُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ قَامَ فَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ ثُمَّ قَالَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهَا وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهَا، ثُمَّ سَجَدَ فَجَعَلَ كَفَّيْهِ بِحِذَاءِ أُذُنَيْه، ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ وَرُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ قَبَضَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَحَلَّقَ حَلْقَةً ثُمَّ رَفَعَ إِصْبَعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا"، ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ الثِّيَابُ تُحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ مِنْ الْبَرْد"، فذكر هذه الصفة بعد السجود الأول، لكنا نظرنا في هذا الدليل فوجدنا أن العلماء أعلوا الحديث في موضعين بعلتين قادحتين:
أولاهما: قول زائدة في هذا الحديث بعد لفظ:"يُحَرِّكُهَ ا يَدْعُو بِهَا"، ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ الثِّيَابُ تُحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ مِنْ الْبَرْد"، فإن الحفاظ كمحمد بن جحادة وغيره رووها من طريق عَبْد الْجَبَّارِ بْن وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَال:"كنْتُ غُلَامًا لَا أَعْقِلُ صَلَاةَ أَبِي قَالَ فَحَدَّثَنِي وَائِلُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي وَائِلِ بْنِ حُجر بنحوها"، لذلك قال موسى بن هرون الحمال عن رواية زائدة: وذلك عندنا وهم"، كما ذكر الخطيب وغيره أنها مدرجة في هذا الحديث من حديث آخر، دليل ذلك ما خرجه أحمد (4/318) من طريق زهير بن معاوية عن عاصم بن كليب عن وائل بن حجر بلفظ الإشارة، وفيه:" قالَ زُهَيْر: قَال عَاصِم: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنَّ وَائِلًا قَالَ أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى وَعَلَى النَّاسِ ثِيَابٌ فِيهَا الْبَرَانِسُ وَفِيهَا الْأَكْسِيَةُ فَرَأَيْتُهُمْ يَقُولُونَ هَكَذَا تَحْتَ الثِّيَابِ"، وقال السيوطي في التدريب وغيرُه: "ورواه مبينا زهير بن معاوية وأبو بدر شجاع بن الوليد فميزا قصة تحريك الأيدي وفصلاها من الحديث وذكرا إسنادهما، قال موسى بن هارون الحمال: وهما أثبت ممن روى رفع الأيدي تحت الثياب".
أما العلة الثانية: فهي أنّ زائدة بن قدامة قد تفرد بهذا اللفظ أو الزيادة:" يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا"، فقد روى هذا الحديث العدد الكبير عن عاصم بن كليب بنفس الإسناد والمتن فلم يذكروا فيه التحريك أصلا، روى ذلك كل من شعبة (طب) والثوري (أح) وابن عيينة (حُمَ) (دا) وبشر بن المفضل (د) وعبد الواحد بن زياد (أح) وزهير بن معاوية (أح) وخالد الطحان (بي) وأبي الأحوص (طب) وأبي عوانة (بي) وابن إدريس (حب) وصفوان (يع) وإسرائيل وهشيم وقيس بن الربيع (طب) وسلام بن سليم ـ وأظنه أبو الأحوص نفسه ـ وموسى بن أبي عائشة (بز) ومحمد بن فضيل (بك) وخلاد الصفار (طب د) وعنبسة بن سعيد وغيلان بن جامع وشريك وموسى بن أبي كثير وشجاع في نحو العشرين، وكذلك رواه عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه وائل، ورواه أبو معدان عن عاصم بن كليب عن أبيه عن جده بلفظ:" يشير بالسبابة"، لم يذكر أحد منهم على كثرتهم لفظة: "يحركها"، فتكون شاذة جدا لوجوه:
أحدها: هذه الكثرة المتكاثرة من الرواة الذين لم يذكر أحد منهم هذا اللفظ.
والوجه الثاني: أن هذا اللفظ لا يُعد في باب زيادة الثقات، بل يدخل في باب العلة ورواية الحديث بالمعنى، فكأن زائدة بن قدامة فهم أن التحريك لا ينافي الإشارة، فأبدل اللفظ الذي رواه الجميع:" يشير بالسبابة"،" يشير بها" ونحو ذلك، فقال فيه من فَهْمِهِ:" يحركها"، ومن المعلوم أن الرواية بالمعنى مقبولة ما لم يتبين خطؤها، وقد تبين ذلك هنا بعد عرضها على سائر طرق رواة هذا الحديثِ نفسِه.
الوجه الثالث: لو سلمنا أنها من باب زيادة الثقة فإنها لا تُقبل أبدا، لأن الذي عليه أهل الحديث أن الزيادة لا تقبل مطلقا، بل العبرة بالقرائن وكثرة الرواة، وقد تبين بكل القرائن وكثرة الرواة أن هذه الزيادة شاذة مردودة لمخالفتها جميع من ذكرنا.
الوجه الرابع: أن سائر الأحاديث عن عامة الصحابة بلفظ الإشارة، ليس فيها لفظ:" يحركها"، فقد رواه عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير و عبد الرحمن بن أبزى وجابر بن سمرة وأبو قتادة ونمير، كما رواه مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنْهُمْ أَبُو قَتَادَة وأبو أسيد وسهل بن سعد فذكروه بلفظ:" وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ".
الوجه الخامس: أنّ من سلَّمَ بصحة لفظ التحريك، فإنه محمول على أنه يحرك أي يرفع أصبعه في أول الأمر عند بداية التشهد، ثم بعد ذلك يبقى مشيرا بها لا يحركها، قال مثل ذلك البيهقي في سننه 2/121 :"يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها"، وقال الشوكاني في النيل:" ومما يرشد إلى ما ذكره البيهقي رواية أبي داود لحديث وائل فإنها بلفظ" وأشار بالسبابة"، وقال الملا في مرقاة المفاتيح: ويمكن أن يكون معنى يحركها يرفعها إذ لا يمكن رفعها بدون تحريكها والله أعلم"، وقال في عون المعبود:" قال الشيخ سلام الله في المحلى شرح الموطأ:"... على أن المراد بالتحريك هاهنا هو الرفع لا غير، فلا يعارضه ما في مسلم عن ابن الزبير كان صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها"، وهذا من أحسن الجمع لو صح لفظ زائدة الشاذ كما مر، بينما قال بعض المالكية في الجمع أنه يشير بأصبعه فإذا وصل إلى كلمتي التشهد حركها والله أعلم .
الوجه السادس: أن لفظة:" كان يحركها"، مخالفة تماما للفظ الثقات:" يشير بها"، لأن التحريك غير الإشارة، إذ الإشارة هي عبارة عن رفعٍ للأصبعِ أو اليدِ وتصويبها نحوَ الشيء، بخلاف التحريك فإنه أكثر من إشارة لأنه يفيد الإستمرارية عليه، وهذا الكلام يؤيده تأويل البيهقي وغيره ممن حمل التحريك على رفعها في أول الأمر فقط.
الوجه السابع: أن للإشارة مع نفي التحريك شواهد أخرى في:
المسألة الثانية: وهي ذكر الأدلة المؤكدة للإشارة من غير تحريك للأصبع: وهي على نوعين:
النوع الأول: أدلة فيها إثباتٌ للإشارة فقط: وهي متواترة قد مرت الإشارة إلى بعضها سابقا، وذكرها بعض الأئمة في كتب المتواتر.
النوع الثاني: أدلة خاصة في نفي التحريك: وفيها أيضا عموم الإشارة في جلوس الصلاة، وهي ثلاثة:
الدليل الأول: قال أبو عوانة في صحيحه المستخرج على مسلم: باب بيان الإشارة بالسبابة إلى القبلة ورمي البصر إليها وترك تحريكها بالإشارة، حدثنا هلال بن العلاء ويوسف بن مسلم قالا: ثنا حجاج ثنا ابن جريج أخبرني زياد عن محمد بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن الزبير أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها"، قال ابن جريج: وزاد عمرو قال: أخبرني عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كذلك ويتحامل بيده اليسرى على رجله اليسرى"، ومن هذا الوجه خرجه النسائي 1160 وغيره، وقد صرح ابن جريج بالتحديث في الطريق الثانية أيضا، فقال البيهقي في سننه (2/ 131) نا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن اسحاق الصغانى ثنا الفضل بن يعقوب ثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج اخبرني زياد عن محمد بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا لا يحركها"، قال ابن جريج: ورأيت عمرو بن دينار قال اخبرني عامر عن ابيه انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كذلك يتحامل النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على رجله اليسرى على فخذه"، قال البيهقي: وكذلك رواه مبشر بن مكسر عن ابن عجلان"،
فحاصل هذا الطريق أنه قد رواه كل من زياد بن سعد ومبشر بن مكسر عن ابن عجلان عن عامر بزيادة: " لا يحركها"، وكذلك رواها ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عامر بها، لأنه عطف رواية عمرو على رواية ابن عجلان به، وفيها:" رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كذلك"، وقد أخبر أولا أنه عليه السلام كان:" إذا دعا لا يحركها"، فالرواية الثانية مثلها كذلك، وهذا الحديث صحيح، خرجه أبو عوانة في صحيحه، وذكر ابن حجر في التلخيصِ وغيرُهُ:" أن ابن حبان خرجه في صحيحه"، وقال النووي في المجموع (3/454):" إسناده صحيح "،
فإن قيل: قد روى هذا الحديث الليث بن سعد وأبو خالد الأحمر عند مسلم فلم يذكرا التحريك، فقد روياه عَنْ ابْن عَجْلَانَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيه بلفظ:" إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى"، مخالفين بذلك رواية زياد بن سعد ومبشر بن مكسر عن ابن عجلان مع رواية ابن جريج عن عمرو بزيادة التحريك، بينما رواها زيد بن حبان عن محمد بن عجلان بلفظ:"..نصب أصبعه التي تلي الإبهام"، فجعله بلفظ نصب الأصبع، أي رَفْعُهَا مُشيرا بها، قالوا: وكذلك روى الحديث عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ (م) ومخرمة بن بكير (ن) ويحيى بن سعيد (خز) حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ بلفظ:" إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ ... وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَأَشَارَ بِإِصْبَعِه"، قالوا: ورواية الستة أو السبعة تُقدم على رواية الثلاثة، فكان الجواب على هذا من وجوه:
أحدها أن يكون من عجائب الدنيا والعلم أن يقبلوا زيادة لفظة تفرد به ثقة واحد، مخالفا بها أكثر من عشرين راويًا ممن لم يذكروها، ثم يردون بعد ذلك زيادةً قالها ثلاثة بل أربعة في مقابل ستة فقط، ومعهم الإمام ابن جريج الذي رواها عن عمرو بن دينار، أليس هذا هو عين العجب والتناقض ؟،
والثاني: أن مما يشهد لرواية عدم التحريك ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد بعد إيراده رواية ابن جريج:" لا يحركها"، قال:" ورواه روح بن القاسم عن ابن عجلان بإسناده وقال فيه:" ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وقال بأصبعه هكذا لم يمدها ولم يعقفها"، فإن مقتضى هذا نفي التحريك، لأن من يحرك أصبعه فإنه يمد أصبعه أحيانا ويعقفها أخرى.
والوجه الثالث: أن لفظة زائدة في التحريك مخالفة للفظ الثقات:" يشير بها"، لأن التحريك غير الإشارة كما أسلفنا، لأن الإشارة هي عبارة عن رفعٍ للأصبعِ وتصويبه نحوَ الشيء، بخلاف التحريك فإنه أكثر من إشارة لأنه يفيد الإستمرارية عليه، أما زيادة لفظة:" يشير بأصبعه ولا يحركها"، فهي زيادة مؤكدة لرفع الأصبع والإشارة بها، لأن مقتضى ذلك وحده أن يكون من غير تحريك، فتكون زيادتها من قبيل الزيادة المؤكة لنص الحديث فتُقبل.
الوجه الرابع: أن طائفة من العلماء صححوا ورجحوا رواية: "لا يحركها"، على رواية التحريك، فقال ابن مفلح في الفروع: وَلَا يُحَرِّكُهَا فِي الْأَصَحِّ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يُحَرِّكُهَا".
الوجه الخامس: أن لعدم تحريك الأصابع شواهد أخرى في :
الدليل الثاني: ذكره ابن حبان في الثقات من ترجمة مسلم بن أبى مريم المدني الأسلمي، وهو أيضا عام في كل الجلوس:
قال ابن حبان: حدثنا عمر بن محمد الهمداني ثنا زيد بن أخزم ثنا أبو عامر العقدى ثنا كثير بن زيد عن مسلم بن أبى مريم عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يده اليمنى على ركبته اليمنى ويده اليسرى على ركبته اليسرى ويشير بإصبعه ولا يحركها، ويقول: إنها مذبة الشيطان، ويقول:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله"، هذا حديث حسن صحيح متصل، مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلُّهُ، وكل رجاله ثقات إلا كثير بن زيد فهو السهمي الأسلمي المدني، ففيه خلاف يسير، فقد وثقه الأكثرون منهم ابن معين والموصلي، وابن حبان وابن شاهين في ثقاتهما، والبخاري، والبوصيري في زوائده، وقال ابن عدي وأحمد: ما أرى به بأس، وحسن له الترمذي في سننه 1579 وقال:" هذا حديث حسن غريب وسألت محمدا فقال هذا حديث صحيح، وكثير بن زيد قد سمع من الوليد بن رباح والوليد بن رباح سمع من أبي هريرة، وهو مقارب الحديث"، وكذلك خرج وصحّح له ابن خزيمة وقد اشترط أن لا يخرج إلا عن ثقة، وصحح له الحاكم ثم قال:" كثير بن زيد و أبو عبد الله القراظ مدنيان لا نعرفهما إلا بالصدق"، بينما لينه بعض الحفاظ من المتشددين تليينا يسيرا جدا فقال علي: صالح وليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين"، ويعني كلامهم أن رتبة حديثه من الحسن كما قال الفاسي في بيان الوهم (5/211):" وَيَنْبَغِي أَن يُقَال فِيه: حسن، لما بِكَثِير بن زيد من الضعْف، وَإِن كَانَ صَدُوقًا"، وكذا قال ابن حجر في التقريب: صدوق يخطىء، يعني أن حديثه من الحَسَن، وقد قال ـ ابن حجرـ في تغليق التعليق (3/282):" لينه ابْن معِين وَأَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ أَحْمد: مَا أرَى بِهِ بَأْسا، فَحَدِيثه حسن فِي الْجُمْلَة"، وقال في التلخيص عن حديثه في حمل الصخرة لقبر عثمان بن مظعون:" وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ لَيْسَ فِيهِ إلَّا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ رَاوِيهِ عَنْ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ صَدُوق"، وجملة القول فيه ما قاله ابن عدي:" ولم أر بحديثه بأسا وأرجو أنه لا بأس به"، أما الذي ضعفه ابن معين وابن حبان فهو رجل آخر ذكر ابن حبان أنه يروي عن عبد الله بن كعب، أما الأسلمي فهو ثقة عنهما نصا.
ولهذا الحديث متابعة أخرى وهي تامة لأبي عامر العقدي من طرف عبد الكبير أبي بكر الحنفي وهو أيضا ثقة:
فقال ابن النجار في ذيل تاريخه من ترجمة عمران بن محمد: قرأتُ على الحو بنت عبد الرحمن النيسابور عن أبي المظفر عبد المنعم بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنبأنا أبي أنبأنا أبو الحسين أحمد بن محمد الخفاف ثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدثنا أبو عاصم عمران بن محمد العسكري ثنا أبو بكر الحنفي حدثنا كثير بن زيد عن مسلم بن أبي مريم عن نافع قال: كان ابن عمر إذا صلى وضع يديه على ركتبه وقال: بإصبعه السبابة يمدها يشير بها ولا يحركها، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هي مذعرة الشيطان"، هكذا روى الحديث كل من أبي عامر العقدي وأبي بكر الحنفي عن كثير بن زيد به بزيادة :" ولا يحركهما"، ورواه أبو أحمد الزبيري عن كثير بن زيد به ولم يذكر فيه مسلم بن أبي مريم ولا الزيادة، والأول أصح:
خرج روايته أحمد بن منيع وأحمد بن حنبل في مسنده (2/119) قال ثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري ثنا كثير بن زيد عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه واتبعها بصره ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهي أشد على الشيطان من الحديد يعني السبابة".
وخالف كل هؤلاء الواقدي، ولا يُحتج به أبدا إذا خالف الثقات: فخرج ابن عدي في ترجمته عن الصغاني عن الواقدي ثنا كثير بن زيد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" تحريك الأصبع في الصلاة مذعرة للشيطان"، ثم ذكر ابن عدي أن هذا الحديث غير محفوظ، وقد يكون الواقدي رواه بالمعنى فوهم فيه كما وهم في سابقه زائدة بن قدامة والله أعلم، وقد اشترك هؤلاء ـ العقدي والحنفي والزبيري والواقدي في هذا الحديث عن كثير بن زيد به، وتفرد عنهم الواقدي بذكر التحريك، ونفاه الأولان، وهو الأصح، لثقتهما مع الكثرة والشواهد، ولا بد من الترجيح لأن طريقهم واحدة وحديثهم واحد عن كثير بن زيد به.
وقد روى عُبَيْد اللَّهِ بْنِ عُمَر عَن نافع عَن ابْن عُمَر حديثا آخرَ غيرَ حديثِ أن "الإشارة مذعرة للشيطان وأشد عليه"، فإن لفظ هذا الثاني لفظٌ آخر وهو حديثٌ مغاير، ولفظه عن نافع عن ابن عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى بَاسِطَهَا عَلَيْهَا"، ورواه حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ "، خرجهما مسلم، وله عن مُسْلِم بْنِ أَبِي مَرْيَم عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن قَال:" رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصَى فِيي الصلاة وفيه:" قبضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِه..".
الدليل الثالث: وقد استدل بعضهم على نفي التحريك بعموم حديث جابر بن سمرة قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم [والناس رافعوا أيديهم في الصلاة] فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة..."، خرجه مسلم 430 والنسائي 1184 وغيرهما، وهو يقتضي سكون الجسم واليدين بما فيهما من أصابع ، ولا يكون هذا السكون إلا بترك التحريك، لأن أذناب الخيل كثيرة التحرك فنُهينا نهيَ تنزيه عن التشبه بها.
وقد أخرج أبو بكر 30313 حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَر عَن هِشَام بْن عُرْوَة أنَّ أَبَاهُ كَانَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ فِي الدُّعَاء، وَلا يُحَرِّكُهَا".
المسألة الثالثة: في ذكر الأدلة الدالة على استحباب الإشارة في جلوس الصلاة كله: وهذه الأدلة عامة وخاصة:
فمن العمومات: حديث أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص قال:" مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصبعَيَّ فقال:"أَحِّد أحد، وأشار بالسبابة"، ومن المعلوم أيضا أن جلوس السجود فيه الدعاء أيضا، وسنة الدعاء في جلوس الصلاة هي الإشارة بأصبع، لأنها شديدة على الشيطان كما روى نافع قال:" كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه وأتبعها بصره ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لهي أشد على الشيطان من الحديد يعني السبابة"، وقد مضى، وفي قوله في الحديث:" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاة... أشار بسبابته"، فإن فيها دليلا ظاهرا على قعل ذلك في الجلستين، على أن بعض الرواة قد ذكر هذه الصفة بعد ذكره صفة السجود الأول كما فعل زائدة وغيره، فإن قيل قد جاءت بعض الروايات بذكر الإشارة في جلوس التشهد فقط فيُحمل عليه، والجواب عنه من وجوه:
أحدها أن هذا من باب ذكر بعض أجزاء العام فلا يُعد تخصيصا، ولا يدخل في باب حمل المطلق على المقيد.
والوجه الثاني: لو جعلنا هذا من باب التقييد، لكان جوابه بأن النبي عليه السلام كان يشير في جلوس الصلاة كله، وأحيانا كان يشير في جلوس التشهد فقط، ويترك الآخر بيانا للجواز والله أعلم.
والوجه الثالث: أن من ذكر الإشارةَ من الرواة في جلوس تشهد الصلاة، فإنه لم ينف الإشارة أبدا في الجلوس الذي بين السجدتين.
والوجه الرابع: أن الإشارة في جلوس السجود قد جاءت منطوقا بها، والمنطوق يُقدم على المفهوم كما في:
الأدلة الخاصة: فخرج عبد الرزاق 2522 عن الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال:" رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فرفع يديه في الصلاة حين كبر ثم حين كبر رفع يديه ثم إذا قال سمع الله لمن حمده رفع قال ثم جلس فافترش رجله اليسرى ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى وذراعه اليمنى على فخذه اليمنى ثم أشار بسبابته ووضع الإبهام على الوسطى حلق بها وقبض سائر أصابعه ثم سجد فكانت يداه حذو أذنيه"، خرجه عنه أحمد (4/317)، وقد روى هذا الحديث أبو عوانة عن عاصم وجعل الإشارة في جلوس التشهد فقال:" " ثم سجد ، فوضع رأسه بين كفيه، ثم صلى ركعة أخرى، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ثم دعا و وضع كفه اليسرى على ركبته اليسرى، وكفه اليمنى على ركبته اليمنى، ودعا بالسبابة"، ورواه سفيان وأبو الأحوص وشعبة عن عاصم بلفظ:" فلما قعد يتشهد... أشار بالسبابة"، ورواه عامة أصحاب عاصم بالعموم، وقالوا فيه:" كان إذا جلس في الصلاة"، ورواه زائدة وغيره عن عاصم فذكروا هذا الوصف بعد ذكرهم السجود الأول، كما مضى، ويُفهم من روايتهم مشروعية فعله في جلوس السجود، والتشهد أيضا، وإن كلا لواسع ولا معنى للتبديعات الأثيمة والحمد لله رب العالمين.
كتبه أبو عيسى الزياني الجزائري