العلاقة بين ضرورة وجود الشرط، وضرورة فِقدان المانع علاقة العموم والخصوص المطلق، فإن فقدان الشرط يمثل أحد الموانع من تحقق صحة التكليف؛ فيقال كل فقدان شرط مانع، وليس كل مانع سببه فِقدانُ شرط؛ كالطهارة؛ فإنها شرط في الصلاة، وفقدانها مانع من صحة الصلاة، وهناك موانع أخرى غير فقدان الشرط؛ وهذا متحقق في الموانع التي لها أضداد، ولا تدخل في التقسيم الدائر بين النفي والإثبات؛ كالفلس مانعا من صحة التصرفات، وليس الملك شرطا في صحتها؛ إذ إن ذمة العاقد تحل محل ملكه؛ في نحو السَّلَم، والبيع بالتقسيط، والإجارة الخاصة، والجعالة، والمشاركات،،، ونحوها.
كما أن فقدان الشرط قد لا يكون مانعا في بعض الصور؛ كاشتراط حولان الحول في وجوب الزكاة، فإن للمكلف أن يخرج زكاة ماله قبل حَوَلان الحول.
وفي الحق أن هذه المسألة من دقيق المباحث الأصولية، التي التبست على الكثيرين؛ ولهذا عقد الإمام القرافي فرقا خِصِّيصَى لهذه المسألة؛ فقال:
((الفرق العاشر بين قاعدتي الشرط وعدم المانع:
فإن القاعدة أن عدم المانع يعتبر في ترتيب الحكم ووجود الشرط أيضا معتبر في ترتيب الحكم مع أن كل واحد منهما لا يلزمه منه الحكم فقد يعدم الحيض ولا تجب الصلاة ويعدم الدين ولا تجب الزكاة لأجل الإغماء في الأول وعدم النصاب في الثاني وكلاهما يلزمه من فقده أنه العدم ولا يلزم من تقرره وجود ولا عدم فهما في غاية الالتباس ولذلك لم أجد فقيها إلا وهو يقول عدم المانع شرط ولا يفرق بين عدم المانع والشرط ألبتة وهذا ليس بصحيح بل الفرق بينهما يظهر بتقرير قاعدة وهي أن كل مشكوك فيه ملغي في الشريعة فإذا شككنا في السبب لم نرتب عليه حكما أو في الشرط لم نرتب الحكم أيضا أو في المانع رتبنا الحكم فالأول كما إذا شك هل طلق أم لا بقيت العصمة فإن الطلاق هو سبب زوال العصمة وقد شككنا فيه فتستصحب الحال المتقدمة وإذا شككنا هل زالت الشمس أم لا لا تجب الظهر ونظائره كثيرة وأما الشرط فكما إذا شككنا في الطهارة فإنا لا نقدم على الصلاة وأما المانع فكما إذا شككنا في أن زيدا قبل وفاته ارتد أم لا فإنا نورث منه استصحابا للأصل لأن الكفر مانع من الإرث وقد شككنا فيه فنورث فهذه قاعدة مجمع عليها وهي أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه فإن قلت : كيف تدعي الإجماع في هذه القاعدة ومذهبك أن من شك في الحدث بعد تقرر الطهارة أن الوضوء يجب فلم يجعل ملك المشكوك فيه كالمتحقق العدم بل هذا مذهب الشافعي رضي الله عنهم أجمعين . قلت : القاعدة مجمع عليها وإنما انعقد الإجماع هنا على مخالفتها لأجل الإجماع على اعتبارها وبيان هذا الكلام مع أنه مستغلق متناقض الظاهر أن الإجماع منعقد على شغل الذمة بالصلاة والبراءة للذمة من الواجب تتوقف على سبب مبرئ إجماعا والقاعدة أن الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط ضرورة فالشك في الطهارة يوجب الشك في الصلاة الواقعة سببا مبرئا فإن اعتبرنا هذه الصلاة سببا مبرئا كما قاله الشافعي فقد اعتبرنا المشكوك فيه ولم نصيره كالمحقق العدم وهو خلاف القاعدة المتفق عليها وإن اعتبرنا هذا الحدث المشكوك فيه كما قاله مالك فقد اعتبرنا مشكوكا فيه ولم نصيره كالمحقق العدم وهو خلاف القاعدة المجمع عليها فكلا المذهبين يلزم عليه مخالفة القاعدة فتعين الجزم بمخالفتها وأن هذا الفرع لا يساعد على إعمالها واعتبارها من جميع الوجوه وأنه لا بد من مخالفتها من بعض الوجوه فمالك خالفها في الحدث والشافعي في الصلاة التي سبب براءة الذمة . لكن مذهب مالك أرجح إذ لا بد من المخالفة لهذه القاعدة فإن الطهارة من باب الوسائل والصلاة من باب المقاصد وانعقد الإجماع على أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد فكانت العناية بالصلاة وإلغاء المشكوك فيه وهو السبب المبرئ منها أولى من رعاية الطهارة وإلغاء الحدث الواقع لها فظهر أن هذا الفرع لا بد فيه من مخالفة هذه القاعدة جزما فلذلك انعقد الإجماع على مخالفتها لأجل اعتبارها بحسب الإمكان وإنما يبقى النظر على مخالفتها من أي الوجوه أولى وقد ظهر أن مذهب مالك أرجح في مخالفتها فظهر حينئذ أن القاعدة مجمع عليها وأن الضرورة دعت لمخالفتها في هذا الفرع وتعذرت مراعاتها.
فإذا تقررت هذه القاعدة فنقول: لو كان عدم المانع شرطا لاجتمع النقيضان فيما إذا شككنا في طريان المانع وبيانه أن القاعدة أن الشك في أحد النقيضين يوجب الشك في الآخر بالضرورة فمن شك في وجود زيد في الدار فقد شك في عدمه من الدار بالضرورة فالشك في أحد النقيضين يوجب الشك في الآخر فإذا شككنا في وجود المانع فقد شككنا في عدمه بالضرورة وعدمه شرط عند هذا القائل . فنقول : قد شككنا في الشرط أيضا فإذا اجتمع الشك في المانع والشرط اقتضى شكنا في الشرط الذي هو عدم المانع أن لا نرتب الحكم بناء على ما تقدم واقتضى شكنا في المانع أن نرتب بناء على ما تقدم في القاعدة فنرتب الحكم ولا نرتبه وذلك جمع بين النقيضين وإنما جاءنا هذا المحال من اعتقادنا أن عدم المانع شرط فيجب أن نعتقد أنه ليس بشرط وإذا كان ليس بشرط ظهر الفرق بين عدم المانع والشرط وهو المطلوب)) انتهى، الفروق: 1/110-112.
وانظر في التفريع على هذه القاعدة: العناية شرح الهداية: 9/469، مواهب الجليل للحطاب: 1/470، شرح مختصر خليل للخَرَشِيِّ: 2/247، 6/63-64، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/84، منح الجليل للشيخ عليش: 6/337-338، المنثور في القواعد: 2/260، 3/146، الفروع لابن مفلح: 2/352-353، الإنصاف للمرداوي: 3/45؛ فقد نصوا على أن: كل ما كان وجوده شرطا كان عدمه مانعا:
بل قال المرداوي في الإنصاف: 3/47-48: ((هل السوم شرط , أو عدم السوم مانع ؟ فيه وجهان , وأطلقها في الفروع , وابن تميم . والرعاية الكبرى , والفائق , فعلى الأول : لا يصح التعجيل قبل الشروع , ويصح على الثاني , قلت : قطع المصنف في المغني والشارح وغيرهما بأن السوم شرط , قلت : منع ابن نصر الله في حواشي الفروع من تحقق هذا الخلاف , وقال : كل ما كان وجوده شرطا كان عدمه مانعا , كما أن كل مانع فعدمه شرط , ولم يفرق أحد بينهما بل نصوا على أن المانع عكس الشرط , وأطال الكلام على ذلك وقال في الفروع في الخلطة , في أول الفصل الثاني : التعلق بالعين لا يمنع انعقاد الحول اتفاقا))، وللمسألة بحث في شرح الكوكب المنير لابن النجار: تحت عنوان: فوائد تتعلق بالشرط والمانع، تبع فيه القرافي في كثير مما ذكره ثَمَّة، وانظر: شرح ميارة على تحفة ابن عاصم: 1/58.