الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أما بعد:
فهذا بحث علمي قصير جمعت فيه بعض الأدلة على بطلان نسبة كتاب السر إلى الإمام مالك رحمه الله، مع بيان كون هذا الكتاب هو نفسه ما ينسب إلى الإمام، مما يعرف في كتب التراجم وكتب الفقه المالكي برسالته إلى هارون الرشيد، أرجو من طلبة العلم أن يتحفونا بآرائهم على هذا الذي ترجح عندي، والعلم عند الله.
وهذا أوان الشروع في المقصود:
قال القاضي عياض:" وقد نسب إلى مالك أيضاً كتاب يسمى كتاب السر من رواية ابن القاسم"
قلت : " كتاب السر" كذا ذكره القاضي عياض في كتابه والذهبي في السير والسيوطي في تزيين الممالك، وابن حجر في تلخيص الحبير، وبنفس الاسم ورد في كثير من كتب المالكية الفقهية، غير أنه ورد اسمه في الديباج المذهب "كتاب السير" وفي بعض الطبعات "كتاب السيرة"، ولعل ذلك من التصحيف الواقع من بعض النساخ، والأصل ما ورد في المصادر السابقة والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر معرفا بهذا الكتاب :" وقفت على كتاب السر في كراسة لطيفة من رواية الحارث بن مسكين عن عبد الرحمن ابن القاسم عن مالك وهو يشتمل على نوادر من المسائل، وفيها كثير مما يتعلق بالخلفاء. ولأجل هذا سمي كتاب السر"[1]
وإذا تأملنا كلام القاضي عياض السابق ظهر لنا أنه يوحي بأن نسبة الكتاب إلى الإمام مالك ليست قوية كباقي كتبه، ولهذا أنكر كثير من العلماء المالكية أن يكون من تأليفه وهذه بعض أقوالهم التي وقفت عليها:
ـ قال الإمام الحطاب المالكي رحمه الله :" أما كتاب السر فمنكر، قال ابن فرحون وقفت عليه فيه من الغض من الصحابة والقدح في دينهم خصوصا عثمان رضي الله تعالى عنه ومن الحط على العلماء والقدح فيهم ونسبتهم إلى قلة الدين مع إجماع أهل العلم على فضلهم خصوصا أشهب ما لا أستبيح ذكره وورع مالك ودينه ينافي ما اشتمل عليه كتاب السر وهو جزء لطيف نحو ثلاثين ورقة انتهى"[2]
ـ وقال ابن الحاجب متحدثا عن حكم إتيان المرأة في الدبر: " ونسب تحليله إلى مالك في كتاب السر وهو مجهول"[3]
ـ وقال الإمام القرافي معلقا على رواية أشهب عن الإمام مالك أن المسافر يمسح على الخفين ثلاثة أيام : " وهذا القول إنما ينسب إليه في كتاب السر الذي بعثه إلى الرشيد والأصحاب ينكرونه"[4]
ـ وقال أبو بكر الأبهري :" نظرت فيه فوجدته ينقض بعضه بعضاً لو سمع مالك من تكلم بما فيه لأوجعه ضرباً وقد سئل ابن القاسم عنه فقال لا يعرف لمالك كتاب سرا"[5]
قلت : وكلام ابن القاسم هذا ـ إن صح عنه ـ لا يدع مجالا للشك في عدم صحة نسبة الكتاب إلى الإمام مالك، لأن الذين ينسبونه إليه يذكرون أن راويه هو ابن القاسم، فتكذيبه لوجود الكتاب إبطال لروايته له، وعليه فلا سند للكتاب إطلاقا.
ـ وقال القرطبي رحمه الله : حذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، و مالك أجل من أن يكون له كتاب سر"[6]
ـ وقال الشيخ خليل في التوضيح : " كتاب السر إلى هارون الرشيد أنكره الأبهري وابن القاسم وغيرهما "[7]
ـ وقال ابن عسكر: " ولا شك أن مقام مالك أعلى من أن يلصق به هذا الكتاب المشتمل على بعض الطامات "[8]
وبهذا يترجح ـ والله أعلم ـ أن هذا الكتاب ليس من تأليف مالك رحمه الله... فمن الخطإ العلمي نسبة ما فيه إلى مالك أو إلى المذهب المالكي، وعليه فلا معنى لتشغيب الروافض ببعض ما جاء فيه على أهل السنة.
أما رسالته إلى هارون الرشيد[9] : في الآداب والمواعظ، وهي مشهورة طبعت أكثر من مرة.
فقد قال القاضي عياض : " وقد أنكرها بعض مشايخنا إسماعيل القاضي والأبهري وأبو محمد بن أبي زيد وقالوا إنها لا تصح وإن طريقها لمالك ضعيف وفيه أحاديث لا نعرفها.
قال الأبهري فيها أحاديث منكرة تخالف أصوله، قالوا وأشياء فيها لا تعرف من مذهب مالك ورأيه، وقد أنكرها أصبغ بن الفرج أيضاً، وحلف ما هي من وضع مالك "
وقال عنها الذهبي : " هذه الرسالة موضوعة"[10]
وذهب أبو زهرة رحمه إلى الله إلى صحة نسبة مقدمتها فقط[11]
قلت : والظاهر لي ـ والله أعلم ـ أن هذه الرسالة هي نفسها " كتاب السر" السالف ذكره، وذلك لأدلة أهمها :
ـ أن كلا منها قد بعث به إلى هارون الرشيد.
ـ أن في كلا الكتابين أباطيل ومناكير، وكلام المالكية في ردهما يكاد يكون واحدا، فعلى سبيل المثال: الإمام الأبهري قال في كتاب السر : " لو سمع مالك من تكلم بما فيه لأوجعه ضرباً" وقال عن هذه الرسالة : " فيها أحاديث لو سمع مالك من يحدث بها، لأدبه"[12] والظاهر أن هذا الكلام واحد، وعليه أثر من التطابق بارز لمن تأمله.
ـ أن من بين المسائل التي استنكرها المالكية بشدة في كتاب السر القول بالتوقيت في المسح على الخفين، وهي نفس المسألة التي أحال فيها الحافظ ابن عبد البر إلى هذه الرسالة في كتابه التمهيد فقال : " وقد روي عن مالك في رسالته إلى هارون أو بعض الخلفاء التوقيت وأنكر ذلك أصحابه"[13]
وهي نفس المسألة أيضا التي نقل فيها ابن رشد الجد عن الرسالة في كتابه البيان والتحصيل.
وبهذا يتبين بجلاء أن هذه الرسالة في الآداب والمواعظ التي نسبت إلى الإمام مالك هي نفسها كتاب السر الذي لا تصح نسبته إليه، وسبب وهم من فرق بينهما هو اختلاف الاسم، والأصل أنها رسالة في الآداب والمواعظ، وإنما سميت أيضا بكتاب السر لأنهم زعموا أن مالكا رحمه الله أسر بما فيها إلى هارون الرشيد. والله أعلم بالصواب.
وهذا آخر ما زبره اليراع المكلول وجمعه الذهن المعلول والحمد لله رب العالمين
[1] تلخيص الحبير 3/183
[2] مواهب الجليل 3/407 .
[3] جامع الأمهات 1/ 260 .
[4] الذخيرة 1/323 .
[5] إرشاد السالك إلى أشرف المسالك لابن عسكر 1/18
[6] الجامع لأحكام القرآن 3\88
[7] إرشاد السالك إلى أشرف المسالك لابن عسكر 1/18
[8] المصدر السابق 1/18
[9] ترتيب المدارك 2/92 .
[10] سير أعلام النبلاء 8/89
[11] مالك ص 173 .
[12] سير أعلام النبلاء 8/89
[13] التمهيد 11/152 .