بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته وبعد: فهذه قواعد في فقه التعامل مع المخالفين لا غنى عنها لمن أراد الحق و استمسك بالعدل من أهل السنة، فأهل السنة أعلم الناس بالحق و أرحمهم بالخلق، فإليكموها
قواعد فقه التعامل مع المخالفين
الشيخ سليمان الماجد حفظه الله
كان من سنن الله تعالى في خلقه أن جعلهم مختلفين في أشياء كثيرة : في ألسنتهم وألوانهم ، وفي طبائعهم وميولهم النفسي والعقلي والعاطفي ، وفي آرائهم ونظراتهم في الدين والنفس والمجتمع وما يحيط بهم :
قال تعالى : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)" هود .
وقال سبحانه : "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)" البقرة .
وكان ذلك لحكم عظيمة من أوضحها : الابتلاء والامتحان ؛ ليظهر من يُعَظِّم الحق ومن لا يُعَظِّمه ، وليُعرف ـ أيضاً ـ جزاء العاصي والمطيع :
قال جل شأنه : "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)" المائدة .
ومن هذه الحِكَم : شحذُ العقل للمزيد من التدبر والتأمل في القرآن والنفس والآفاق .
والمخالف هو كل من خالفك في أي شيء ؛ فهو الوثني والملحد والكتابي والمرتد والمنافق والمبتدع بدعة اعتقادية والمبتدع بدعة عملية ، وهو المنازع في المسائل الفقهية القطعية والظنية ، وكذلك في المناهج المختلفة ، سواء كانت دعوية أو سياسية أو عملية أو في أي صعيد . فكل من لا يرى رأيك أو عملك فهو لك مخالف .
وكل هؤلاء المخالفين ينبغي أن يعاملوا بقواعد العدل التي دلت عليه الشريعة . وإن كان الكلام في أكثره هنا إنما هو على المخالفين من أهل السنة .
وهذه القواعد وإن كان أكثرها ينتظم كل مخالف من أهل القبلة وغيرهم إلا أن محل البحث هم المخالفين من أهل السنة ؛ كالمنسوبين للأشعرية والصوفية .
الأثر المقصدي والشرعي لفقه الخلاف :
إذا تحقق فقه الخلاف كما أراده الله تعالى فإن لذلك آثاراً عظيمة في النفس والمجتمع ؛ فمنها :
1. تحقيق العبودية لله :
يتحقق بإحياء فقه الخلاف أشرف المعاني ، وأجل المقاصد : إنه توحيد الله ، وتمام العبودية له جل شأنه في خطرات الإنسان ، وتفكيره تجاه الآخرين ، وفي تعامله معهم .
2. يحصل به التمحيص والامتحان :
فالخلاف مضيق لآراء الناس ومواقفهم ، وعند المضايق يذهب اللب ، وإذا ذهب اللب فلا تسأل عن ضياع حقوق المخالف ؛ بل ضياع الحق نفسه في أحيان كثيرة .
فالرأي الذي يعلنه الشخص مرآة لعقله وفكره أو أتباعه أو متبوعيه ، والسائد عند كثير من الناس أن المخالفة والنقد انتقاص لعقله وتسفيه لرأيه وعدوان على محبيه ، وحينئذ يبدأ العدوان على المخالفين .. وهو عدوان ظاهره فيه الرحمة : محبة الحق ، وباطنه فيه العذاب : محبة النفس والانتصار لها .
إن أخطر ما في العلاقة بالمخالف هو كثرة اضطراب الموازين في التعامل معه ؛ مما يؤدي إلى العدوان عليه وظلمه وبخسه حقه ، لاسيما إن كثيراً ممن يتكلم في مخالفه إنما يُحدِّث نفسه ، أو يخاطب من هو على مثل رأيه ؛ فلا يسمع إلا ثناء المعجبين بقوله ؛ مما يزيده ضعفاً في بصيرته .
وقد نبه الحق تبارك وتعالى إلى مثل ذلك في قوله جل شأنه : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" المائدة .
وقال تعالى : "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " .
وقد قال بعض أهل التأوبل منهم الحسن البصري : للاختلاف خلقهم . أي ابتلاء وامتحاناً .
3. بعث التفكير ، ونفض غبار التقليد :
فيحصل بفقه الاختلاف صبر النفس على الاستماع إلى الآخرين ، وإلى وجهات نظر متعددة ؛ فينظر إلى المسائل التي يعرض لها بزوايا مختلفة تكشف له محل الغموض ؛ فيحصل من التحقيق ، وكثرة الصواب ما لا يخطر له على بال .
4. تحقيق الألفة ، وقطع أسباب الشحناء :
إن العلاقة بالمخالف من الأهمية بمكان ؛ لأن اختلال ميزانها يؤدي إلى الاختلاف المذموم المفضي إلى فساد الأحوال في الدين والدنيا .
قال الله عز وجل : "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)" آل عمران .
وكان مما امتن الله تعالى به على الرعيل الأول تآلف قلوبهم ، ولهذا حذرهم من التفرق والاختلاف فقال الله تعالى : "وَاعْتَصِمُو بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) " آل عمران .
ولم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المجتمع والدولة ـ بعد هجرته ودخوله المدينة ـ إلا بعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار .
وحين ضاع فقه الاختلاف نهاية القرن الثالث ظهرت آثار مدمرة من الشحناء والعداوات انقشعت أغبرتها على ضياع المصالح ، وتسلط الأعداء ، وكان من أبرز مظاهر هذه العصور الضعف السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري .
وكان من آثاره على الصعيد الجهادي أنه لم تفتح في هذه الحقبة بلدان جديدة ؛ بل صار أكثر عمل الجند رد هجمات الأعداء ، أو الارتماء في أتون الحروب الداخلية .
وأعرض هنا لبعض مظاهر العداوات والشحناء التي نشأت بسبب غياب هذا الفقه :
على "باب الأزج" :
في سنة 494 هـ في "البداية والنهاية" (12/160) في ترجمة منصور أبي المعالي الجيلي القاضي
قال : ( .. كان شافعيا في الفروع أشعريا في الأصول ، وكان حاكما بباب الأزج ، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير ، سمع رجلا ينادي على حمار له ضائع ؛ فقال : يدخل باب الأزج ، ويأخذ بيد من شاء . وقال يوما للنقيب طراد الزينبي : لو حلف إنسان أنه لا يرى إنسانا فرأى أهل باب الأزج لم يحنث ؛ فقال له الشريف : من عاشر قوماً أربعين يوما فهو منهم ، ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيرا . أهـ .
امتحان وتسفيه :
في سنة 545 هـ في "البداية والنهاية" (12/227) ابن أبي القاسم بن أبي الحسن أبو المفاخر النيسابوري قدم بغداد فوعظ بها ، وجعل ينال من الأشاعرة ؛ فأحبته الحنابلة ، ثم اختبروه ؛ فإذا هو معتزلي ؛ ففتر سوقه ، وجرت بسببه فتنة ببغداد ، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئا من شعره من بذلك :
مات الكرام ومروا وانقضوا ومضوا ومات من بعدهم تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي سفه لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا
غبر في وجوههم :
في "طبقات الشافعية الكبرى" (1/651) في ترجمة أبي نصر القشيري : ( .. فإن الأستاذ أبا نصر قام في نصرة مذهب الأشعري ، وباح بأشد النكير على مخالفيه ، وغبر في وجوه المجسمة ) .
تهم وظنون ووشايات :
سنة 469 هـ في "طبقات الشافعية الكبرى " : ( .. لما وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية ، وقام الشيخ أبو إسحاق في نصر أبي نصر بن القشيري لنصره لمذهب الأشعري ، وكاتب نظام الملك في ذلك ، وكان من ذلك أن الشيخ أبا إسحاق اشتد غضبه على الحنابلة وعزم على الرحلة من بغداد ؛ لما نال الأشعري من سب الحنابلة إياه ، وما نال أبا نصر بن القشيري من أذاهم .. ثم كتب الشيخ أبو إسحاق رسالة إلى نظام الملك يشكو الحنابلة ، ويذكر ما فعلوه من الفتن ، وأن ذلك من عاداتهم ، ويسألـه المعونة .. ثم أخذ الشريف أبو جعفر بن أبي موسى وهو شيخ الحنابلة إذ ذاك وجماعته يتكلمون في الشيخ أبي إسحاق ويبلغونه الأذى بألسنتهم ؛ فأمر الخليفة بجمعهم والصلح بينهم بعد ما ثارت بينهم في ذلك فتنة هائلة قتل فيها نحو من عشرين قتيلا .. وأخذ الحنابلة يشيعون أن الشيخ أبا إسحاق تبرأ من مذهب الأشعري ؛ فغضب الشيخ لذلك غضبا لم يصل أحد إلى تسكينه ، وكاتب نظام الملك ؛ فقالت الحنابلة : إنه كتب يسألـه في إبطال مذهبهم .. ) .
تعصب وسفك دماء :
في عام 514هـ في "وفيات الأعيان" (2/98) : ( .. وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد ؛ لأنه تعصب للأشاعرة ، وانتهى الأمر إلى فتنة قُتل فيها جماعة من الفريقين .. ) .
تهجير :
في سنة 550 هـ في "الوافي بالوفيات" عن الخطيب البغدادي : ( .. وخرج إلى الشام لما آذاه الحنابلة بجامع المنصور، وحدّث بدمشق ) .
ولكن الشياطين كفروا :
في "سير أعلام النبلاء" (14/75) في ترجمة البكري : ( .. وفد على النظام الوزير، فنفق عليه، وكتب له توقيعا بأن يعظ بجوامع بغداد، فقدم وجلس، واحتفل الخلق، فذكر الحنابلة ، وحط وبالغ، ونبزهم بالتجسيم ، فهاجت الفتنة، وغلت بها المراجل، وكفر هؤلاء هؤلاء، ولما عزم على الجلوس بجامع المنصور؛ قال نقيب النقباء : قفوا حتى أنقل أهلي، فلا بد من قتل ونهب . ثم أغلقت أبواب الجامع ، وصعد البكري ، وحوله الترك بالقسي، ولقب بعلم السنة، فتعرض لأصحابه طائفة من الحنابلة ، فشدت الدولة منه، وكبست دور بني القاضي ابن الفراء ، وأخذت كتبهم، وفيها كتاب في الصفات، فكان يقرأ بين يدي البكري، وهو يشنع ويشغب، ثم خرج البكري إلى المعسكر متشكيا من عميد بغداد أبي الفتح بن أبي الليث. وقيل: إنه وعظ وعظم الإمام أحمد، ثم تلا: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" فجاءته حصاة ثم أخرى، فكشف النقيب عن الحال، فكانوا ناسا من الهاشميين حنابلة قد تخبئوا في بطانة السقف، فعاقبهم النقيب .. ) .
فتنة :
في سنة 538هـ في "العبر" (2/453) في ترجمة أَبي الفتوح الأَسفَراييني محمدُ بن الفضل بن محمد ( .. وجعل شعارَه إِظهارَ مذهبِ الأَشعريّ، وبالغ في ذلك حتى هاجَت فتنة كبيرة بين الحنابلة والأَشعرية . فأُخرج من بغداد ، فغاب مدةً ثم قدم وأَخذ يُثيرُ الفتنةَ ويبثّ اعتقاده . ويذمُّ الحنابلة . فأُخرج من بغداد وأُلزم بالإِقامة ببلده ) .
سنة 495هـ في "البداية والنهاية" (12/161) : ( .. وفيها قدم عيسى بن عبد الله القونوي ؛ فوعظ الناس ، وكان شافعيا أشعريا ؛ فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعرية ببغداد .. ) .
سنة 716 هـ في "البداية والنهاية" (14/75) : ( .. وفيه وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد وترافعوا إلى دمشق ) .
الجزية على أتباع أحمد :
في سنة 567هـ في "العبر" (3/49) في ترجمة أَبي حامد البَرُّوي الطُوسي الفقيه الشافعي محمد بن محمد : ( .. قدم بغداد وشغب على الحنابلة ، وأَثار الفتنة .. وقيل إِن البروي قال : لو كان لي أَمر لوضعت على الحنابلة الجزية ) .
نبش القبور بين الطرفين :
في سنة 587هـ في "العبر" (3/93) في ترجمة نجم الدين الخُبوشاني محمد بن الموفّق الصوفي الزاهد الفقيه الشافعي : ( .. ثم عمد إِلى قبر أَبي الكيزان الظاهري، وكان من غُلاة السنّة وأَهل الأَثر فنبشه وقال : لا يَكون صِدّيق وزِنْديق في موضع وَاحد . يعني هو والشافعي فثارتْ حنابلةُ مصر عليه ، وقويت الفتنةُ ، وصار بينهم حملات حربية .. ) .
وانظر في هذا "مرآة الجنان" (3/328) .
وفي عام 480 هـ في "ذيل طبقات الحنابلة" (3/256) في ترجمة سعد الله بن نصر : ( .. توفي آخر نهار يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة، ودفن من الغد إلى جانب رباط الزوزني بمقبرة الرباط . قال ابن الجوزي : دفن هناك إرضاء للصوفية ؛ لأنه أقام عندهم مدة في حياته فبقي على ذلك خمسة أيام ، وما زال الحنابلة يلومون ولده على هذا ، يقولون : مثل هذا الرجل الحنبلي أي شيء يصنع عند الصوفية ؟ فنبشه بعد خمسة أيام بالليل ) .
أخرجوه في "إزار" :
في عام في "ذيل طبقات الحنابلة" (4/12) وذلك حين ذكر مآخذ الحافظ عبدالغني المقدسي على كتاب "معرفة الصحابة" لأبي نعيم ، فسمع بذلك الصدر عبد اللطيف بن الخُجندي طلب الحافظ عبد الغني، وأراد إهلاكه فاختفى الحافظ . قال ابن رجب عن أحد الرواة : ( .. وسمعت أبا الثناء محمود بن سلامة الحراني قال : ما أخرجنا الحافظ من إصبهان إلا في إزار . وذلك أن بيت الخجندي أشاعرة ، كانوا يتعصبون لأبي نعيم. وكانوا رؤساء البلد .. ) .
لا يخرجون للجمعات !!
سنة 447 هـ في "البداية والنهاية" (12/227) ( .. وفيها وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة ؛ فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة ، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات .. ) .
تكفير وغوغائية :
في عام 715 هـ في "المنتظم" () : ( .. يوم الثلاثاء ثاني شوال ، وهو يوم يسمى بـ "فرح ساعة" خرج من المدرسة متفقه يعرف بالاسكندراني ، ومعه بعض من يؤثر الفتنة إلى سوق الثلاثاء ؛ فتكلم بتكفير الحنابلة ؛ فرمى بآجرة ؛ فدخل إلى سوق المدرسة واستغاث بأهلها ؛ فخرجوا معه إلى سوق الثلاثاء ، ونهبوا بعض ما كان فيه ، ووقع الشر وغلب أهل سوق الثلاثاء بالعوام ، ودخلوا سوق المدرسة ؛ فنهبوا القطعة التي تليهم منه ، وقتلوا مريضا وجدوه في غرفة ) فحضر الحرس ( .. فدفعوا العوام ، وقتلوا بالنشاب بضعة عشر ، وأنفذ من الديوان خدما لإطفاء الثائرة ، ولحمل المقتولين إلى الديوان حتى شهدهم القضاة .. ) .
في سنة 835 هـ في "إنباء الغمر بأبناء العمر" ( .. في هذه السنة ثارت فتنة عظيمة بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق ، وتعصب الشيخ علاء الدين البخارى نزيل دمشق على الحنابلة ، وبالغ في الحط على ابن تيمية ، وصرح بتفكيره ؛ فتعصب جماعة من الدماشقة لابن تيمية ، وصنف صاحبنا الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين جزءا في فضل ابن تيمية ، وسرد أسماء من أثنى عليه من أهل عصره ؛ فمن بعدهم .. وأرسله إلى القاهرة، فكتب له عليه غالب المصريين بالتصويت ، وخالفوا علاء الدين البخارى في إطلاقه القول بتفكيره ، وتكفير من أطلق عليه أنه شيخ الإسلام .. ) .
دم حلال ! :
في سنة 705 هـ في "مرآة الجنان" (4/180) : ( .. وقعت فتنة شيخ الحنابلة ابن تيمية ، وسؤالهم عن عقيدته ، وعقدوا له ثلاث مجالس وقرئت عقيدته الملقبة بالواسطية ، وضايقوه ، وثارت غوغاء الفقهاء له وعليه ، ثم إنه طلب على البريد إلى مصر ، وأقيمت عليه دعوى عند قاضي المالكية ؛ فاستخصمه ابن تيمية .. ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه ) .
مرافعة .. ثم إيقاف الدروس :
في سنة 580هـ في "السلوك" (1/197) : ( .. جرت فتنة بين الأشاعرة والحنابلة ، سببها إنكار الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلمه في مسألة من مسائل الكلام في مجلس وعظـه ، وترافعوا إلى الملك المظفر بمخيمه ؛ فرسم برفع كراسي وعظ الفريقين ، وقد أطلق كل من الفريقين لسانه في الآخر ) .
حرق المساجد :
في سنة 495هـ في "البداية والنهاية" (13/22) : في ترجمة نظام الدين مسعود بن علي : ( .. وكان حسن السيرة ، شافعي المذهب ، له مدرسة عظيمة بخوارزم ، وجامع هائل ، وبنى بمرو جامعا عظيما للشافعية ؛ فحسدتهم الحنابلة ، وشيخهم بها يقال له شيخ الاسلام ؛ فيقال : إنهم أحرقوه ، وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل ؛ فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه ) .
تعصب .. وتحرق :
عام 543 هـ في "العبر" (2/463) : ( .. وأَبو الحجاج الفِنْدَلاوي يوسف بن دوباس المغربي المالكي. كان فقيهاً عالماً صالحاً حُلْوَ المجالسة، شديدَ التعصُّب للأَشعريّةِ، صاحبَ تحرُّق على الحنابلة . قُتل في سبيل الله في حصارِ الفرنج لدمشق مقبلاً غَيْرَ مُدْبِر بالنّيْرَب أَوّلَ يومٍ جاءَت الفرنجُ .. ) .
ضلال وزيغ :
في عام 580 هـ في "تاريخ اليمن" : في ترجمة أحمد بن محمد البريهي ثم السَّكسكي : كان ينسخ (.. الكتب ويوقفها ، حتى وقف أكثر من مائة كتاب في مدينة إب .. وشرط في وقفه لها أنها على أهل السنّة ، دون المبتدعة من الأشعرية وغيرهم ، وكتب في غالبها بيتين من الشعر هذا أحدهما :
هذا الكتاب لوجه الله موقوفُ منّا على الطالب السني موصوفُ
ما للأشاعرة الضلال في حسبي حـقّ ولا للذي بالزيغ معروفُ
لا رحمه الله :
في عام 450 هـ في "تاريخ دمشق" (55/265) : ( سمعت أبا غالب من أبي علي بن البنّا الحنبلي بن الحنبلي قال : لما مات القاضي أبو يعلى بن الفرَّاء ذهبت مع أبي إلى داره ، وكان يسكن بآخرة باب المراتب ؛ فلقينا أبو مُحَمَّد التميمي الحنبلي الفقيه فقال له أبي : مات القاضي أبو يعلى
فقال التميمي : لا رحمه الله ، فقد جرى على الحنابلة جرية لا تنغسل إلى يوم القيامة، فهجره أبي إلى أن مات ) .
قال في "الوافي في الوفيات" : ( يعنـي الـمقالة فـي التشبـيه ) .
قلع مذهبكم ، وقطع ذكركم :
سنة 560 هـ في "البداية والنهاية" (12/249) في ترجمة مرجان الخادم : ( .. كان يقرأ القراءات ، وتفقه لمذهب الشافعي ، وكان يتعصب على الحنابلة ، ويكرههم ، ويعادي الوزير ابن هبيرة وابن الجوزي معاداة شديدة ، ويقول لابن الجوزي : مقصودي قلع مذهبكم ، وقطع ذكركم ، ولما توفي ابن هبيرة في هذه السنة قوي على بن الجوزي وخافه ابن الجوزي ؛ فلما توفي في هذه السنة فرح ابن الجوزي فرحا شديدا ..) .
هذه لمحة لبعض مظاهر العداوات والشحناء التي أورثتها العصبية والظلم والعدوان على المخالفين .
يقول الإمام ابن تيمية بعد ذكر الخلافات العقدية : ( .. وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها ، وأمرائها وكبرائها ، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها.. وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا ، وإذا اجتمعوا أصلحوا وملكوا ؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب ) .
5. تحقيق المقاصد في شمول وإتقان :
فإن تضييع فقه الاختلاف ينتج عزلاً لأهل المنهج الحق وتناقصاً في قوة نفوذهم وسلطانهم .
وقد ظهر هذا فيما تقدم عرضه مما وصل إليه تنازع المختلفين .
وحين تأخذ لمحة تاريخية لآخر القرن الثالث الهجري ترى أن الناس حين بدأوا بإهمال مقومات هذا الفقه ؛ كمخاطبة العواطف والقلوب من خلال الرقائق والإيمانيات ، واستخدام الرصيد الأخلاقي في التعامل مع الناس ؛ كالحلم والتواضع والصبر وطلاقة الوجه ، واستعمال السياسية الشرعية ، واعتبار قواعد المصالح والمفاسد ، والتعاون مع السلاطين ، واحتمال المفاسد الدنيا لأجل المصالح العليا حتى بدأت الآثار تظهر بعد تصرم القرون المفضلة ضعفاً وتشرذما ، وعلى إثر ذلك حتى بدت النتائج المرة : ظهور الشرك الأكبر بالطواف على القبور والأضرحة ودعاء غير الله؛ مما لم يكون موجوداً في القرون الأولى ، وكان لأهل السنة قوة ظاهرة وتأثير في المشهد العام .
ولكن لا زالوا يعرضون عن هذه الأمور ، أو يهملونها ؛ فما أطل القرن التاسع إلا وقد صارت البدع العملية والاعتقادية المخالفة لمنهج القرون المفضلة ظاهرة لا يمكن إنكارها ، واكتسح المخالفون لهذا المنهج من الغلاة الشارع العام ، واستمرت الحال منذ ذلك القرن ، إلى حين قيام الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بدعوته الإصلاحية التجديدية ؛ فأحيا رحمه الله ما اندرس منه ، وجدد ما عفا .
وقد ترسخ عند العامة بسبب حالة القحط في المنافحين عن هذا المنهج في هذه الحقبة ، وبسبب قلة الأتباع وانتشار البدع ترسخ عندهم أن ما عليه العالم الإسلامي من هذه المفاسد الكبرى هي الحال التي كانت عليها القرون المفضلة .
أما في التاريخ المعاصر فمنذ الانطلاقة الأولى للصحوة المعاصرة ، وما جاء بعد انطلاقتها بقليل من توجهها إلى العناية بعقيدة القرون المفضلة بالمنافحة عن هذا المنهج والتفرغ له ـ وقد أحسنوا في هذا ـ إلا أن حالة الحماس والنشوة التي ترافق قيام الحركات بأنواعها أذهلتها عن تقويم التجربة التاريخية القديمة في التعامل مع البدع التي استقرت وقوي أصحابها ؛ فكان بينهم وبين مخالفيهم نوع من المنافرة والمفاصلة والشدة ، وإن لم تصل إلى ما كان في عصور الانحطاط الغابرة .
وبالنظرة السريعة إلى هذه التجربة خلال الثلاثين عاماً الماضية ترى إهمال هذا الفقه باتباع منهج التنفير لم يغير في خرائط الانتماءات إلى المناهج الأخرى ؛ فبقي كل على منهجه وطريقته ، والذي بقي في اليد بعد هذه التجربة حنظل من الإحن وعلقم من العداوات ؛ فيما لم يتحقق اختراق يذكر لهذه الاتجاهات ، والمكاسب القليلة التي قد نجنيها من هذا المنهج لا تسوغ تلك القطيعة .
بل حمل ذلك بعض غلاة المخالفين إلى البحث عن هوية كاد ينساها ؛ ليعود إلى إحيائها مكايدة لمن نافره وقاطعه .
وهذه أهم قواعد التعامل مع المخالفين :
قواعد عمل القلب
1. الخشية :
وكان من أعظم صفات العلماء هي الخشية والعمل المخلَص ، قال جل شأنه : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال الله تعالى : "أمن هو قانت آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب" .
وزوال الخشية أو نقصها فهي من أعظم أسباب العدوان على المخالفين وبخسهم حقوقهم ؛ حيث يحل محلها الهوى .
فليست أزمة قبول الحق والإذعان له أزمة علمية ، أو معضلة في البحث والتحقيق ، ولكن الأزمة الكبرى هي في التجرد من الهوى ، والمؤثرات المتعلقة به .
وهوى الإنسان يكون في نفسه وفي والده وولده ، وفي منصبه وجاهه ، وفي ماله ووطنه وعشيرته ، وما يراه وفاء لشيخه ، أو رعاية لتلاميذه وأتباعه ومحبيه أن يقول أو يفعل ما يخذلهم .
وقد عرف إبراهيم عليه السلام أن تعلق المشركين بآلهتهم ليس لأنهم يعتقدون نفعها وضرها ؛ فعقولهم أكبر من ذلك ، ولكن مصالحهم وأهوائهم ارتبطت بهذه الأوثان : من العادات والمألوفات ، وشبكة المصالح المادية والاجتماعية ، ومكاسب السدنة وأقربائهم وأتباعهم ؛ فكان بقاء الوثن سبباً من أسباب بقاء هذه المصالح فتمسكوا به ولهذا قال الله تعالى على لسانه عليه السلام : "وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" .
وصارت روابط العرق أو البلد أو الإقليم أو الحزب وعلاقة الشيخ بالتلميذ تدفع حتى بعضاً من المهتمين بالشأن الإسلامي إلى العمى عن رؤية الحق ، ومن ثم العدوان على المخالفين .
ولعل أظهر ما يدل على ذلك أن بعض المسائل الفقهية التي قوي فيها الخلاف ؛ بل ثبت فيها الأخذ بالقولين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة والعلماء من بعدهم ترى في بعض الأزمنة أو الأمكنة عدواناً مبينا على المخالف فيها ؛ فتُساء به النيات ، وتذهب فيه الظنون كل مذهب ، ثم لا ترى وصفاً مؤثراً لهذا العدوان إلا مخالفة السائد في هذا المكان أو ذلك الزمان .
ومما يؤكد وقوع الهوى أن بعض المسائل ضعف فيها الخلاف حتى قال صار قول الجماهير بل أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها بخلاف هذا القول ، ولكن حين صار السائد في نفس المكان هو قول القلة صارت المسألة توصف بأنها محل اجتهاد من أهل العلم ، والأخذ بخلاف قول الجماهير له ما يسوغه .
ألم يظهر أن الرابطة المكانية هي السبب الرئيس إن لم يكن الوحيد في الاختيار ؟ ألم يقع بهذا تحييد لدلالة النص ، ومراد الباري ، ومقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأجل هذه المعاني الترابية ؛ فأين الخشية الباعثة على التجرد من الهوى ، ولهذا قال الله تعالى : "ألم ص كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱتَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَۗ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ" . فنبه إلى الأخذ بالمنزل بلا حرج ، وحذر من خطر المتعلقات الأرضية في الصد عن ذلك فقال : "ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَۗ " .
ولا عجب ـ حينئذ ـ أن ترى أن غالب أهل المكان الذي يسود فيه مذهب ، أو يعتاد الناس فيه على قول أن يكون الراجح عند الواحد منهم في غالب المسائل هو ذلك المذهب ، أو ما اعتاده الناس من الأقوال !! فهل كانت العقول والفهوم متساوية بهذه الدرجة حتى تتوافق في نتائج الأفكار ؟
ولهذا كانت الحالة الصحية هي في عهد الصحابة : أن ترى الاختيارات المختلفة في تلاميذ الأستاذ الواحد ، وأهل المحلة الواحدة ؛ فضلاً عن الإقليم ، أو البلد .
وتظهر آثار الهوى في مظاهر منها : عدم العناية بتأصيل المسائل التي قد تخالف سائداً ، وكراهة بحثها ، خشية من الوصول إلى نتائج لها تبعات . ومنها : أنك تراه إذا حط أحد على مبغض له لم يدافع عنه بطلب محاسنه ؛ بل تظهر منه علامة الإعجاب والرضا . وإن حط أحد على محبوب بدا غضبه ، وثارت ثائرته . ومنها حياؤه من عرض طروحات صحيحة يقول أو يعمل بها فريق ، أو تيار آخر .
2. أن يكون مقصود المخالفة براءة الذمة بالبيان للأمة :
ينطوي قلب المؤمن على نية حسنة وسريرة صافية ؛ فهو لا يريد من مخالفته لأحد إلا تعظيم الحق والبحث عن الحقيقة ، ولا غرض له فيما سوى ذلك ؛ كتقديس النفس أو الهوية أو الانتصار لهما ، ومتى علم الله ذلك منه حصل له من القبول ومحبة الخلق وانتفاعهم به ما يرفع الله به قدره ، ويخلد به ذِكْره .
وقد تشوهت هذه المعاني السامية عند بعض الناس ؛ فحل محل الإخلاص : الرياء والتصنع ، ومحل الحرص على الهداية : محبة النفس والدوران حول الذات وتعظيم الهوية الترابية من بلد أو عرق أو حزب أو عادة ومألوف .
فأصبح النزاع والخلاف المعلن لله وهو في الحقيقة بين الذوات ، أو الهويات المختلفة ؛ فما أعظم الذنب وأكبر المصيبة إذا جعل المخالف تعظيم الله لافتة يخفي تحتها أخس المعاني الترابية .
وإذا بلغ الأمر هذا الحد فلا تسأل عن الفوضى العلمية ، ولا عن التدابر والعدوان على المخالفين من كل فريق .
ومن المعلوم أن البيان للأمة بنشر العلم ، والنقض على أهل البدع والمخالفات لا يتوقف على رضا أحد أو سخطه ؛ فإن الله تعالى ما أنزل الكتب وبعث الرسل ، ولا حمًّل العدول هذا العلم إلا للقيام بواجب نشره ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (1/221) بعد ذكره الرد على المخالف :
( .. وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح ، وابتغاء وجه الله تعالى ؛ لا لهوى الشخص مـع الإنسان : مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية ، أو تحاسد .. أو تنازع على الرئاسة ، فيتكلم بمساويه مظهراً للنصح ، وقصده في الباطن الغضُ من الشخص ، واستيفاؤه منه ؛ فهذا من عمل الشيطان ، و«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى» .. ) .
وقال : (28/221) في هجر العاصي : ( .. وإذا عرف هذا ، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله ؛ فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله ، وأن تكون موافقة لأمره ؛ فتكون خالصة لله صواباً . فمن هجر لهوى نفسه ، أو هجر هجراً غير مأمور به : كان خارجاً عن هذا ، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ، ظانة أنها تفعله طاعة لله ) ..
.. ( فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله ، وبين الهجر لحق نفسه ؛ فالأول : مأمور به ،
والثاني : منهى عنه ؛ لأن المؤمنين أخوة .. ) ..
.. ( وهذا لأن الهجر من «باب العقوبات الشرعية» فهو من جنس الجهاد في سبيل الله ، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله . والمؤمن عليه أن يعادي في الله ، ويوالي في الله ؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه ؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية .. ) ..
.. ( فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر ، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك ؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله ، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه ، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه ) أهـ .
وقال في "الاستغاثة" (1/380) ( .. أئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العدل والإيمان والرحمة ؛ فيعلمون الحق الذين يكونون به موافقين للسنة ، سالمين من البدعة ، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم.. ويرحمون الخلق ؛ فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ، لا يقصدون الشر ابتداءً ؛ بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق ..) .
3. أن يحرص على الانتفاع من المخالف :
من أعظم أسباب تأبي الحق على القلوب الكبرُ ، وإشعار المرء نفسه أو الآخرين بأنه إنما بُعث إليهم هادياً لا يقبل مع ذلك توجيها أو تصحيحاً من أحد ، وأن على الناس الاستماع إلى قوله وتوجيهاته ونصائحه .
وأكمل الأحوال أن يوطن المرء نفسه للانتفاع من المخالف مهما كانت ديانته وجنسه ، وأن يعلم أن هذا من أظهر علامات حسن قصده من إظهار الخلاف .
وهذا يوطن لأمرين مهمين :
الأول : تهيئة النفس لقبول الحق ؛ فزوال الكبر سبب من أسباب ذلك .
والثاني : التواضع للخلق ، وهذا يبعثهم على الاستماع إليك في حال من الطمأنينة والأمان ؛ لأن المخالف قد سل سخيمة نفسه ، ورفع حالة التوتر والاحتقان التي يشعر بها بسبب مخالفتنا ، أو بسبب ما يراه من علوية البعض بأنه ما خالف أو ناظر إلا لإهداء ما عنده من الحق .
وبعض المسائل وإن كانت قطعية ظاهرة والشك فيها قد يكون كفراً إلا أن إظهار التنَزل الجدلي طريق صحيح لإزالة التوتر ؛ فالله عز سبحانه وتعالى قد قال : "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" ، ويقول تعالى : "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة" ؛ فما الذي يدعو إلى التفكر مع كون القضية قطعية إلا توطين نفس المخالف على قبول الحق .
وعن قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت أتى حبر من الأحبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون ! قال : سبحان الله ! وما ذاك ؟ قال : تقولون إذا حلفتم : والكعبة . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : "فمن حلف فليحلف برب الكعبة" . قال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا ! قال : سبحان الله وما ذاك ؟ قال تقولون : ما شاء الله وشئت . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : "فمن قال ما شاء الله فليقل معها ثم شئت" .
فقد سمع صلى الله عليه وسلم من اليهود في أمور عقدية ، ولم يأنف أن يقول به حين وافق الحق .
4. أن يحرص على انتفاع المخالف لا ظهور القول ، أو معقد الهوية :
فيكون الباعث على المخالفة ، أو مجادلة المخالف هو انتفاعه بما تراه من الحق ؛ لا أن يكون القصد إرغامَه وإظهارَ خطئه عند الناس .
وحين كره السلف المناظرات فلعلهم إنما رأوا سبب ذلك قلة الانتفاع منها ؛ لأن أكثرها إنما يراد منه إظهار الغلبة أو إذلال المخالف ومراغمته ، ونتائج هذه المناظرات إنما تزيد المخالف عنادا ، وتزيد أتباعه صدوداً .
قال حسن الزعفراني كما في "الإبانة الكبرى" لابن بطة (1/127) سمعت الشافعي يحلف وهو يقول : ( ما ناظرت أحدا قط إلا على النصيحة, وما ناظرت أحدا ما فأحببت أن يخطئ ) .
وكان يقول كما في "السنن" للبيهقي : ( ما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه ) .
والمناظرة والجدل المشروعان إنما هي حين يكون الطرفان كلاهما مستعدين لقبول الحق .
قواعد العلم واليقين :
ما وقع عدوان على مخالف إلا كان أكثر أسبابه جهل المعتدي فيما يتكلم فيه ، أو جهله بكيفية التعامل مع المخالف في مثل هذا الخلاف .
وحتى نعرف صحة هذا التقرير النظري فإن المتأمل في حال الأمة يرى أن أكثر نزاع المختلفين ، الذي يؤدي إلى هذا العدوان هو في الجهلة والمقلدين لا في أهل العلم والمحققين ، وما قد يقع من بعض أهل العلم فهو على وجه الندرة ، أو الزلة .
فمن أراد أن يعرف أثر العلم في كل شيء ، ومنه التعامل مع المخالف ؛ فلينظر إلى أثر الجهل : إنه وضع الشيء في غير موضعه ، وهو الجمع بين المفترقات والتفريق بين المتماثلات ، وإعطاء الشيء حكماً مبنياً على الوهم والشك ، أو العصبية وإظهار الغلبة .
ومن المعلوم أن حكم المرء لا يكون صحيحاً في شيء إلا بمعرفة دليل ما قال به ، ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، ومعرفة منهج السلف في ذلك ، والإجابة على أدلة المخالفين ، ومتى ما فرط في شيء من ذلك فحكم على أحد أو أبدى رأياً فيه قبل ذلك فقد اعتدى على المخالف بجهله .
وحتى لو أصاب الحق في نفس الأمر فهو آثم لتفريطه ، وهذا معنى ما قاله بعض أهل العلم : أخطأ وإن أصاب ؛ كالقاضي يحكم بعقوبة المتهم بغير بينه ولا إقرار ولا قرينة فهو مخطئ آثم ؛ وإن كان المتهم في نفس الأمر مجرماً .
قال الإمام ابن تيمية في "منهاج السنة" (5/83) : ( .. لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ؛ ليتكلم بعلم وعدل ، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت ، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات ، وجهل وظلم في الكليات ) .
5. أن يحقق المسائل :
فالاكتفاء في مثل هذه القضايا بالثقافة العامة والمطالعات السريعة ، والبناء على ذلك في نتائج نظرها إنما هو نوع من اعتبار الجهل والظن .
فلا تبرأ ذمة العالم إلا بإمعان النظر فيها ، وتحقيق القول في مآخذها وقواعدها .
والمسائل العلمية المتعلقة بالحكم على أي شيء ، ومنه الحكم على المخالف تمر بمراحل هي :
1. تخريج المناط ؛ وهو استخراج ما يحتمل أن يكون علة للحكم ومقصدا له ، وما يتبعه من تنقيح المناط ، وما ينتجه ذلك من حكم المجتهد في المسألة بكونها كفراً أو فسقاً أو بدعة ؛ كقوله بعد الاجتهاد : إن الحكم بغير ما أنزل الله على وجه التشريع العام كفر أكبر مخرج من الملة .
2. تحقيق المناط ، وهو إنزال الحكم على الواقعة الجديدة ؛ كقوله بأن قانون تشريع إباحة الربا في الحالة المعين هو هذا الكفر .
3. التحقق والتثبت من أن الذي نتعامل معه قد قال أو فعل ما يوجب أو يجيز عقوبته ؛ فكثير من الناس يبني على مجرد الإشاعة ، أو على ما يقال في وسائل الإعلام ، وعلى النقل الذي يتغير عند الشخص الواحد أكثر من مرة ؛ فكيف عند طول السلسلة .
4. التحقق من قيام الحجة التي يكفر منكرها ، ووجود الشروط وانتفاء الموانع .
5. وصف الفاعل بآثار فعل المخالفة ؛ بـأن يقال عن شخصه : إنه كافر أو فاسق أو مبتدع .
6. إظهار هذه الأحكام أو إخفاؤها بالنظر إلى المصالح والمفاسد ، واختلاف الأزمنة والأمكنة ، واختلاف الأشخاص الحاكمين والمحكوم عليهم .
وكل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى جمع علمي ، ثم تأمل وموازنة ، ثم إصدار الحكم .
فهل استقصى الناس في مخالفاتـهم للآخرين هذه المراحل ، أو أن واقع كثيرين هو ارتجال إصدار الأحكام ، والتسرع في تطبيقها عليهم ؟
6. أن ينبذ التقليد :
فليس من العدل ولا من العلم أن يقلد المرء غيره في الحكم على الآخرين ، وما يترتب عليه من التعامل معهم بهجر أو تنفير أو عقوبة ، أو الحكم على أحد بكفر أو فسوق أو بدعة ؛ فما كان قطعياً فلا تقليد فيه لظهوره ، وما كان محل اجتهاد أهل العلم ، أو مشكوكاً فيه لم يجز لأحد أن يخرج من المقطوع به ، وهو حرمة عرض المسلم ، ولزوم وفائه جميع حقوقه بأمر مشكوك فيه لا يعرف وجهه ولا دليله ، والعالم المستدل فيما يختار من أقوال ، وفي مواقفه : يجد ما يُخرجه من العهدة ، ويبرئ به الذمة ، ولكن ما الذي يُخرج المقلد ؟
والتقليد إنما أُبيح على خلاف الأصل ، وهو وجوب النظر والاستدلال أُبيح لدفع حاجة أو ضرورة في عبادة أو معاملة ؛ فما هي الضرورة والحاجة في الحكم على الآخرين بحكم ، أو معاملتهم بما يُخشى معه بخس أعظم حقوقهم ؟
ولو فقه المسلمون خطر التقليد ، ووكلوا علم ما لم يحققوه إلى العلماء الربانيين ، وجعلوا لهم القياد في مواجهة المخالفة وأهلها لما وقع العدوان والظلم على المخالف ؛ مما اختلت به الموازين ، واضطربت معه الأحكام ، وتشوهت به الصورة ، وأعرض عن الحق بسببه فئام من الخلق .
7. أن يتثبت ويتبين :
يقع الظلم والعدوان على المخالف بسبب العجلة وأخذ الكلام من مصادر غير معتبرة ؛ إما في ورعها ، وإما في ضبطها وحسن فهمها ، ولهذا قال الله تبارك وتعالى : "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" .
قال الإمام مالك رحمه الله كما في "التمهيد" (1/67) : ( .. إن هذا العلم دين ؛ فانظروا عمن تأخذونه ، لقد أدركتسبعين ممن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين ، وأشار إلىالمسجد ؛ فما أخذت عنهم شيئا ، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينا ، إلا أنهملم يكونوا من أهل هذا الشأن ) .
وقال الإمام السبكي رحمه الله كما في "قاعدة في الجرح والتعديل" ص 93 : ( كثيراً ما رأيت من يسمع لفظةً فيفهمها على غير وجهها ؛ فيُغير على الكاتب والمؤلف ومن عاشره واستن بسنته .. مع أن المؤلف لم يرد ذلك على الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل ) .
نماذج لأحكام لم يحقق الكلام فيها ، واعتدي فيها بسبب ذلك على المخالف :
التفريق في التعامل مع المخالف بين مسائل الفروع والأصول :
جعل بعضهم الفروع والأصول ، أو العقائد والفقهيات هي المفرق لما يسوغ فيه الخلاف ، وما لا يسوغ ، وبنوا على ذلك أحكاما في التكفير ، بل واستحلال عقوبته ، أو حتى قتله .
وهذا التفريق بدعة أحدثها المخالفون لأهل السنة ، وجعلوها سيفاً مصلتاً عليهم ؛ لحملهم على أن يأخذوا بقولهم ؛ فاستعدوا عليهم السلاطين ، وعزلوهم بسببها من وظائفهم ، وجردوهم من إمامة الناس في الصلاة ، والتدريس والفتوى والوعظ .
وقد حقق هذه المسألة الإمام ابن تيمية رحمه الله ؛ فرأى أنه لا يفرق في ذلك بين الأصول
والفروع ؛ فقال في "مجموع الفتاوى" (1/207) : ( .. والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ، ومن سلك سبيلهم ، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره ) .
وقرر في هذا الموضع أنه لا يوجد ضابط صحيح للتفريق بينها ، وأن كون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ؛ فليس هو وصفاً للقول في نفسه ؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة ؛ أو بالنقل المعلوم صدقه عنده ، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعاً ولا ظناً ، وأن ذكاء المحكوم عليه وعدمه مؤثر في هذا .
كما قرر أن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين ، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه ، ويكفِّرون من خالفهم فيها ، ويستحلون دمه ؛ كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم .
أقول : وقد صار الحكم على الناس بالبدعة مبنياً على هذه المسألة ، دون أن يعرف المتكلم فيها دليلاً أو ضابطاً .
اعتبار مسائل البدع العملية من قضايا الاعتقاد :
فلو سلمنا بالتفريق بين مسائل الفروع والأصول ، والقطعية والظنية فإن مسائل البدع العملية التي يختلف فيها الناس ، وتبنى على الاستنباط هي من مسائل الفقه والظن لا من مسائل القطع واليقين ، وتكون في أبواب الفقه ، وليست في أبواب العقائد ، وعلى التسليم بالفرق فإن محل مصنفات البدع العملية هو قسم الفقه وليس قسم العقيدة .
والبدع العملية هي التي تكون في الصلوات ؛ كدعاء ختم القرآن فيها ، والأذكار ؛ كالذكر الجماعي ، والأعياد ؛ كالمولد واليوم الوطني ، وتعليق التمائم من القرآن ، والتعريف في الأمصار .
وهذا وإن كان اصطلاحا إلا أنه بسبب هذا التصنيف وقع الانطباع عند الناس أن الخلاف في هذه المسائل لا يقبل الاجتهاد ، وأن المخالف المعين فيها من أهل البدع .
وإذا استثنينا ما يقع في بعض الموالد من الشرك بالله فإن من رام الإنصاف لا يجد فرقاً بين الحكم ببدعية المولد وبدعية دعاء الختم في الصلاة ؛ فكلاها عمل ، وكلاهما مبني على أدلة نظرية ليس عند أحد الفريقين دليل يحسم به الخلاف .
أما المولد النبوي فهو بلا ريب داخل في حد البدعة بجلاء ووضوح ؛ كدرجة الوضوح في بدعية دعاء الختم في الصلاة ؛ وذلك لأنه اجتمع في المولد سمات العيد الشرعي ، ولأن الأعياد محددة بأوجه تعبدية محضة اُختير فيها الزمان على وجه لا يُعقل معناه على التفصيل ؛ فصارت من الدين المحدد ؛ فتكون الزيادة على ما قدره الشارع وحدده بدعة ، هذا عدا ما فيه من المضاهاة للمشروع ؛ ولانقطاع الأعياد التي كانت قبل الإسلام ، وبقائها منقطعة إلى تصرم القرون المفضلة .
وأما دعاء الختم في الصلاة فهو عبادة محضة ، وقد أُحدث في عبادة أخرى وهي الصلاة على وجه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة بحديث أو أثر صحيحين أو ضعيفين .
فعلى هذا : لا وجه لاعتبار هذه البدعة أمرا يسوغ الخلاف فيها ، والأخرى لا يسوغ الخلاف فيها مع تساويهما في طرق الاستدلال والاستنباط .
وقد صارت هاتين المسألتين والحكم فيهما على المخالف معقداً للمفاصلة ، وسبباً لتفرق الناس .
ويكون العمل بهذه الخلافيات وإنكارها بحسب قواعد السياسة الشرعية التي ستأتي إن شاء الله .
الهجر في غير موضعه :
فالخطأ في مسألة الهجر وعدم تحقيق القول فيها أدى إلى اعتقاده ديناً مقصوداً لذاته لا يتغير
بتغير الأشخاص والأمكنة والأزمنة ؛ بينما دلت الشريعة وقواعدها على أن الهجر إنما هو وسيلة لزجر العاصي ؛ فإن كان مؤدياً هذا الغرض وإلا استبقى المسلمُ مع المخالف الحقوق المتعلقة بإسلامه .
وقد وقع بسبب ذلك الاعتداء على المخالف ، وفاتت بذلك الفرص للتأثير على المخالفين لا سيما من أهل البدع المعلظة ، حتى صار رؤساؤهم يحبون أن يُهجر أتباعهم ؛ لما فيه من تحصينهم من تأثير الآخرين .
قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن هجر المبتدع في "مجموع الفتاوى" (28/210) : ( .. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد ؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها .. ) .
واعتبر رحمه الله في هذا الموضع قوة الهاجر وضعف المهجور ، وأنه لا يلزم المسلم في مواقع نفوذ المخالفين أن يهجرهم .
وقرر أن أقواماً جعلوا ذلك عاماً ، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به . وأنه قد وترتب على ذلك تفرق المسلمين وتسلط الأعداء .
بين النوع والعين :
في هذا الباب وقع ما يُعد من أعظم العدوان على المخالف ؛ فبسببه وقع التكفير والتفسيق والتبديع على المعين .
وبسببه حصل الاقتتال في هذه الأمة ، وبدت ظاهرة الغلو والعنف .
وإنما كان مقصود الشريعة في هذه الأسماء أمران :
الأول : الإعذار إلى من كان متصفا بهذه الصفة ؛ ليقلع عن فعله ، أو أن تكون الحجة قد قامت عليه ؛ فيقع مقصود الشريعة بأن لا يعاقب إلا بعد إعذاره .
قال الله تعالى : "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" .
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل" رواه الشيخان من حديث ابن مسعود .
الثاني : إنذار المتردد ، ومن في قلبه مرض أن لا يسلك سبيلهم .
أما تطبيق ذلك على الأعيان من أهل القبلة فليس حتماً لازماً ؛ فلو تركه المرء لم يكن مخالفاً لمقصود الشريعة في وضع هذه الأسماء .
والفعل وإن كان يُسمى كفراً بيقين فلا يجب الحكم على الفاعل بالكفر ، وإجراء أحكامه الظاهرة مادام متأولا في ذلك ، أو مستتراً به ، أو متنصلاً مما نُسب إليه .
ولا يعني هذا منع أو تحريم إلحاق الوصف به ؛ بل يجوز ذلك ، عند تحقق الشروط ، وانتفاء الموانع، وظهور الحجة التي يكفر منكرها ، وهذا إنما يكون للحاكم ، وليس لآحاد الناس .
وقد أخطأ في ذلك كثير من الناس فظنوا أن تكفير المعين هو مثل معرفة الكفر والحذر منه ؛ فمن لم يُظهر تكفير من فعل كفرا أو قاله فقد فرط في حق الإيمان ؛ بل غلوا في ذلك ؛ فرأوا أنه لا يصح لهم إيمان إلا بذلك .
والناظر في هديه صلى الله عليه وسلم يظهر بجلاء أنه لم يقم أحكام الكفر على من ظهر منه ذلك سواء كان من المؤمنين ؛ كحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، حين وُجدت منه مظاهرة للمشركين على المؤمنين ؛ بل إن آية البراء من المشركين التي كُفِّر به كثيرون قد نزلت فيه رضي الله عنه ، أو كان من المنافقين الذي بدت منهم مقالات الكفر ؛ كقولهم : ليخرجن الأعز منها الأذل ، وكقولهم : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، وقول الآخر للنبي صلى الله عليه وسلم : اعدل .
وقد بين الإمام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (12/487) سبب الخطأ والانحراف في هذه المسألة بتقريره أن القائلين بالكفر بمجرد فعل ذلك أو قوله قد أصابـهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع ، وأنهم كلما رأوهم قالوا : من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع ، قد تنتفي في حق المعين ، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين ؛ إلا إذا وُجِدت هذه الشروط ، وانتفت تلك الموانع .
وأوضح أن الإمام أحمد والأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ، وأيد هذا بأن الإمام أحمد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن وذكر دعوتهم للكفر وإكراههم للناس عليه ثم قال : ( .. ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم ؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها ، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها ، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب ، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه ، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم ) أهـ .
وقد أورث الخطأ في تأصيل هذه المسألة أحكاما جائرة بالكفر ، وظلما للمخالفين بوصف المعين منهم بالمبتدع ، حتى صرنا نسمع من البعض وصف من تلبس ببدعة عملية بأنه مبتدع فتراهم يقولون : جاء المبتدع وذهب ، ويقولون للمعينين : أولئك المبتدعة .
ومثل ذلك الحكم على المعين بأنه هالك ، أو أن الطائفة المعينة هالكة بمجرد قول أو فعل .
والحكم بالهلاك على المعين هو كالحكم بالكفر لا بد له من اجتماع شروط وانتفاء موانع . والمقصود من حديث : كلها في النار إلا واحدة هو تبيين أسباب الهلاك ؛ ليحذرها الناس لا أن تُطبق على المعين .
قال الإمام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (3/179) : ( ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا ؛ فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه ، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته ؛ وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك : فهذا أولى ؛ بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا ، وقد لا يكون ناجيا ، كما يقال من صمت نجا ) أهـ . أي : ولا يلزم أن من تكلم هلك .
ومن المعلوم أن من جاء بأسباب النجاة الاعتقادية ثم وقع منه موبقات عظيمة ؛ كقطع الطريق والقتل والظلم في الأعراض فإنه قد يُعذب حتى مع سلامة معتقده ، وقد يُعفى عن صاحب البدعة بتأويل يُعذر فيه مثله ، أو بحسنات ماحية ؛ فصح أن المقصود بذلك الحث على استكمال أسباب النجاة ؛ لا أن تكون هذه اسما يفرق به بين أعيان الخلق في النجاة والهلاك .
وقال رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (5/253) بعد ذكر بعض شطحات الصوفية : ( .. وهذا يبين أن كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك ، ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار لم يكفر بجحده ، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله ـ وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته ـ .. وكل من أظهر الإسلام ، ولم يكن منافقا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك ، وهو ممن يخرج من النار ؛ ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم ) ..
.. ( ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم لم تدخل أمته الجنة ؛ فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة ؛ بل يدخلونها ، وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم ، وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعرف الله به ، وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه لم يحمل ما لا يطيق .. ) ..
.. ( فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ، ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها ؛ كالقرآن والحديث المشهور ، وهم مختلفون في معنى ذلك ) . أهـ.
وذكر رحمه الله (3/352و353) في شرح حديث الافتراق أصلين في تكفير الفرق ؛ فقال :
( أحدهما : أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقا .. ) ..
.. ( .. ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا .. وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا
له خطـأه ، وقد يكون مع ذلك معـه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه ) أهـ .
معذرة المخالف :
وهذه المعذرة ينبغي أن تُعتبر في الحاكم على الناس بأي حكم ، وكذلك في المحكوم عليه ، أما في الحاكم فظاهر ؛ حيث ينتفع بذلك في اعتبار معذرته ، وأما في المحكوم عليه فينبغي أن يعذر الحاكم عليه ؛ مادام مجتهدا متحرياً للحق .
قال الإمام ابن تيمية في "الفتاوى" (28/234) : ( .. وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له خطؤه ، وهو مأجور على اجتهاده ، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب ؛ وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله ) .
وأسباب هذه المعذرة كثيرة ؛ فمنها :
الحسنات الماحية :
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في "الاستقامة" (1/297) عن الغناء الصوفي : ( .. والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والإخلاص والصلاح غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وفي غيره من السيئات أو الخطأ في مواقع الاجتهاد ، وهذا سبيل كل صالحي هذه الأمة في خطئهم وزلاتهم . قال تعالى : "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون" وذلك كالمتأولين في تناول المسكر من صالحي أهل الكوفة ، ومن اتبعهم على ذلك ، وإن كان المشروب خمرا لا يشك في ذلك من اطلع على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة ، وكذلك المتأولون للمتعة والصرف من أهل مكة .. وكذلك المتأولون في بعض الأطعمة والحشوش [إتيان المرأة في الدبر] من أهل المدينة ، وإن كان لا يشك في تحريم ذلك من اطلع على نصوص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. ) .
وقال رحمه الله تعالى (1/156) في السماع الصوفي أيضاً : ( .. وإن كان من المشايخ الصالحين من تأول في ذلك ، وبتأويله واجتهاده يغفر الله له خطأه ، ويثيبه على ما مع التأويل من عمل صالح ، فذلك لا يمنع أن يقال ما في الفعل من الفساد ، إذ التأويل من باب المعاريض في حق بعض الناس تدفع به عنه العقوبة ، كما تدفع بالتوبة والحسنات الماحية ، وهذا لمن استفرغ وسعه في طلب الحق ) .
التأويل السائغ ، أو ما يسوغ من مثله :
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله (1/156) في السماع الصوفي : ( .. وإن كان من المشايخ الصالحين من تأول في ذلك ، وبتأويله واجتهاده يغفر الله له خطأه ويثيبه على ما مع التأويل من عمل صالح ، فذلك لا يمنع أن يقال ما في الفعل من الفساد ، إذ التأويل من باب المعاريض في حق بعض الناس تدفع به عنه العقوبة ، كما تدفع بالتوبة والحسنات الماحية ، وهذا لمن استفرغ وسعه في طلب الحق ) .
وقال في "الاستقامة" (2/189) : ( .. فالاستحلال الذي يكون في موارد الاجتهاد ، وقد أخطأ المستحل في تأويله ـ مع إيمانه وحسناته ـ هو مما غفره الله لهذه الأمة من الخطأ في قوله : "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" ؛ كما استحل بعضهم بعض أنواع الربا ، واستحل بعضهم نوعا من الفاحشة ، وهو إتيان النساء في حشوشهن ، واستحل بعضهم بعض أنواع الخمر ، واستحل بعضهم استماع المعازف ، واستحل بعضهم من دماء بعض بالتأويل ما استحل ) .
وقال رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (19/191) : ( لا ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد يعفى عنه خطؤه ، ويثاب ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" ، لذا يعذر كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد ؛ فإن كثيرا من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ، ولم يعلموا أنه بدعة ، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة ، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها ، وإما لرأي رأوه ، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم ، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى : "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" ، وفي الصحيح أن الله قال : "قد فعلت" ) .
التقليد السائغ ـ، أو ما يسوغ من مثله :
قال ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" : (10/371و372) : ( وإنما المقصود هنا : أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه ؛ إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه ، وإما لعدم قدرته ) أهـ.
وقال عن المقلدة في عقيدة وحدة الوجود في المرجع نفسه (2/367) : ( .. وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه ، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين ، الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس ؛ فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانا ، ومتابعة للكتاب والسنة ؛ بحسب إيمانهم التقليدي .. ) أ.هـ .
وقال الإمام ابن تيمية في مصطلح "تسليم الحال" وهو معذرة الشيخ في بعض المخالفات :
( .. وأما إذا قيل : ذلك بمعنى أنه صواب أو صحيح فلا بد من دليل على تصويبه . وإلا فمجرد القول أو الفعل الصادر من غير الرسول ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل ، فإذا علم أن ذلك الاجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعنى رفع الذم عنه لا بمعنى إصابته ، وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره أنه يقر على حكمه فلا ينقض ، أو على فتياه فلا تنكر ، أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه ، بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده واتباعه من العلماء والمشايخ فيما لم يظهر لهم أنه
خطأ ، لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني الذي لم يعلم مخالفته للشريعة ) .
ثم قال في نفس المرجع (2/379) : ( ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق ، وهذا السر أشد كفرا وإلحادا من ظاهره ؛ فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس ) ..
.. ( ولهذا تجد كثيرا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ، ويتواجد عليها ويعظمها ، ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة ، وهو لا يعلم مراد قائلها ، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين ، فلا يفهمون حقيقته ) .
وقال رحمه الله في هذا المرجع عن بعض العلماء المناظرين في البدع الاعتقادية (5/563) :
( .. لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول ، وحصل اضطراب في المعقول به ؛ فحصل نقص في معرفة السمع والعقل ، وإن كان هذا النقص هو منتهى قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته ؛ فالعجز يكون عذرا للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام ، هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به ) ..
.. ( وأما من قال من الجهمية ونحوهم : إنه قد يعذب العاجزين ، ومن قال من المعتزلة ونحوهم من القدرية : إن كل مجتهد فإنه لا بد أن يعرف الحق ، وإن من لم يعرفه فلتفريطه ، لا لعجزه ، فهما قولان ضعيفان ، وبسببهما صارت الطوائف المختلفة من أهل القبلة يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا ) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في "الطرق الحكمية" (1/255) عن شهادة الفساق : ( .. فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام , ولكنهم مخالفون في بعض الأصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم . فهؤلاء أقسام : أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له , فهذا لا يكفر ولا يفسق ) .
غلبة الأمر :
قال ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (10/567) عن الذكر بتكرار لفظ الجلالة "الله" :
( وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي ، وغيرهم من ذكر الاسم المجرد فمحمول على أنهم مغلوبون ؛ فإن أحوالهم تشهد بذلك ، مع أن المشايخ الذين هم أصح من هؤلاء وأكمل لم يذكروا إلا الكلمة
التامة ، وعند التنازع يجب الرد إلى الله والرسول ؛ فليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق ) أهـ .
يتبع