ثالثاً : من مباحث الحديث الفقهية
المسألة الأولى :
ما حـدّ السفـر ؟
أو ما هي المسافة التي تُبيح الترخّص ؟
لم يرِد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحديد مسافة السفر [7] .
فالفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقا [8] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد تنازع العلماء في قصر أهل مكة خلفه [9] فقيل : كان ذلك لأجل النُّسك ، فلا يَقصر المسافر سفرا قصيرا هناك ، وقيل : بل كان ذلك لأجل السفر ، وكلا القولين قاله بعض أصحاب أحمد ، والقول الثاني هو الصواب ، وهو أنهم قصروا لأجل سفرهم ، ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وكانوا محرمين ، والقصر مُعلّق بالسفر وجودا وعدما ، فلا يُصلى ركعتين إلا مسافر ، وكل مسافر يصلى ركعتين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : صلاة المسافر ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة النحر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير نقص - أي غير قصر - على لسان نبيكم ، وفى الصحيح [10] عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، ثم زِيد في صلاة الحضر وأُقِرّت صلاة السفر ، وقد تنازع العلماء : هل يختص بسفر دون سفر ؟ أم يجوز في كل سفر ؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرا كان أو طويلا ، كما قصر أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومنى ، وبين مكة وعرفة نحو بريد أربع فراسخ ، وأيضا فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر لا بقصر ولا بفطر ولا تيمم ، ولم يَحد النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد لا زماني ولا مكاني . ولا يمكن أن يُحدّ ذلك بِحَـدٍّ صحيح ، فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار ، وحركة المسافر تختلف ، والواجب أن يُطلق ما أطلقه صاحب الشرع ، ويُقيَّد ما قيّده ، فيَقْصُر المسافر الصلاة في كل سفر ، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة والمسح على الخفين ، ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل ، وخَصّ بعض الأحكام بهذا ، وبعضها بهذا ، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل ، فليس معه حجة يجب الرجوع إليها [11] .
المسألة الثانيـة :
حُكم الجمع في السفر ، وفيها خمسة أقوال :
القول الأول : جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي وَقْتِ الأُولَى مِنْهُمَا ، وَجَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْجُمْهُور .
القول الثاني – وهو يُقابِل الأول – : لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة ، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه ، وأجابوا عما رُوي من الأخبار في ذلك بأن الذي وقع جمع صوري ، وهو أنه أخّر المغرب مثلا إلى آخر وقتها ، وعجّل العشاء في أول وقتها.
القول الثالث : وبه قال الليث ، وهو المشهور عن مالك : أن الجمع يختص بمن جـدّ به السير .
القول الرابع : وبه قال عمر بن عبد العزيز والحسن والأوزاعي : أن الجمع في السفر يختص بمن له عذر .
القول الخامس : وبه قال أحمد في رواية ، واختاره ابن حزم ، وهو مروي عن مالك : أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم [12] .
وقد أُجيب عن القول الثاني – وهو منع الجمع إلا بعرفة ومزدلفة - بأجوبة ، منها :
1 – بما ثبت من الأحاديث التي جاء فيها التصريح بالجمع ، وأنه رخصة ، وقد ثبت في صحيح مسلم [13] عن يعلي بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقد أمِنَ الناس ، فقال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته .
وبين الجمع والقصر تلازم ، فإن من جاز له القصر جاز له الجمع ، ولا عكس .
2 – بأن هذا الجمع الصوري فيه مشقّة ، والجمع المقصود منه التيسير على المسافر .
قال الخطابي : ظاهر اسم الجمع عُرفا لا يقع على مَنْ أخّر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها ، وعجّل العصر فصّلاها في أول وقتها ؛ لأن هذا قد صلّى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها ، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما . ومعقول أن الجمع بين الصلاتين من الرُّخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصّهم ، ومعرفة أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يُدركه الخاصة فضلا عن العامة ، وإذا كان كذلك كان في اعتبار الساعات على الوجه الذي ذهبوا إليه ما يُبطل أن تكون هذه الرخصة عامة ، مع ما فيه من المشقة المُرْبِية [14] على تفريق الصلاة في أوقاتها الموقّتة [15] .
وقال ابن عبد البر : ولا معنى للجمع الذي ذهب إليه أبو حنيفة ، ومن قال بقوله ؛ لأن ذلك جائز في الحضر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في طرفي وقت الصلاة : " ما بين هذين وقت " فأجاز الصلاة في آخر الوقت ، ولو لم يَجز في السفر من سعة الوقت إلا ما جاز في الحضر بطل معنى السفر ومعنى الرخصة والتوسعة لأجله .
ومعلوم أن الجمع بين الصلاتين في السفر رخصة لمكان السفر وتوسعة في الوقت ، كما أن القصر في السفر لم يكن إلا من أجل السفر ، وما يُلقى فيه من المشقة في الأغلب ، وفي ارتقاب المسافر ومراعاته أن لا يكون نزوله إلا في الوقت الذي عدّه أبو حنيفة مشقة وضيقا لا سعة [16] .
وقال ابن قدامة : الجمع رخصة ، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها ؛ لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها ، ومن تدبر هذا وجده كما وصفنا ، ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب والعشاء والصبح ، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك [17] .
وقال ابن حجر : الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين ، وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع ، ومما يَرُدّ الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم [18] .
وأُجيب عن القول الثالث - أن الجمع يختص بمن جـدّ به السير - بما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى ينزل للعصر ، وفي المغرب مثل ذلك ؛ إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء ، وإذا ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخّـر المغرب حتى ينـزل للعِشاء ثم جمع بينهما [19] .
قال ابن قدامة : وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الردّ على من قال : لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير ، لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه ، يخرج فيصلي الصلاتين جميعا ثم ينصرف إلى خبائه [20] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ظاهر حديث معاذ أنه كان نازلا في خيمة في السفر ، وأنه أخّر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ، فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنـزل ، وأما السائر فلا يقال دخل وخرج بل نزل وركب [21]
وذكر ابن عبد البر حديث ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عَجِل به السير يجمع بين المغرب والعشاء .
ثم قال : ليس في حديث ابن عمر هذا ما يدل على أن المسافر لا يجوز له الجمع بين الصلاتين إلا أن يَجِـدّ به السير بدليل حديث معاذ بن جبل ؛ لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفره إلى تبوك نازلا غير سائر .
وليس في أحد الحديثين ما يعارض الآخر ، وإنما التعارض لو كان في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يجدّ به السير فحينئذ كان يكون التعارض لحديث معاذ [22] .
قال العراقي : وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْجَـدِّ فِي السَّفَرِ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ [23] .
وقال الشوكاني :
في الحديث دليل على جواز جمع التأخير في السفر سواء كان السير مُجِـدّاً أم لا [24] .
وبمثل هذا أُجيب عن القول الرابع ، في أن الجمع في السفر يختص بمن له عذر .
كما أُجيب عن القول الخامس في أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم ، بأحاديث الباب التي فيها جمع التقديم والتأخير دون تفريق ، وبأن هذا القول تحكّم بلا دليل .