بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
فهذه تعليقات شيخنا البركة أبي منذر محمد محفوظ البحراوي


مقدمة بداية المجتهد لابن رشد
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعدَ[1] حمدِ الله[2] بجميع محامده، والصلاةِ والسلامِ على محمد رسوله وآله وأصحابه.
فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الاحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكث الخلاف فيها، ما يجري مجرى الاصول القواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الاكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق به تعلقا قريبا، وهذه[3] المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى فشا التقليد.
وقبل ذلك، فلنذكر كم[4] أصناف الطرق التي تتلقى منها الاحكام الشرعية، وكم أصناف الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك.
فنقول: إن الطرق التي منها تلقيت الاحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة: إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار.
وأما ما[5] سكت عنه الشارع من الأحكام، فقال الجمهور: إن طريق الوقوف عليه هو القياس.
وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل.
وما سكت عنه الشارع فلا حكم له[6], ودليل العقل يشهد بثبوته، وذلك أن الوقائع[7] بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص، والأفعال، والإقرارات متناهية[8]، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى.
وأصناف[9] الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه.
أما الثلاثة المتفق عليها فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالاعلى على الادنى، وبالادنى على الاعلى، وبالمساوي على المساوي،
فمثال الاول قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) ، فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصنفا الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك[10]، مثل خنزير الماء، ومثال العام يراد به الخاص، قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)
فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال، ومثال الخاص يراد به العام قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف)، وهو من باب التنبيه بالادنى على الاعلى، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك.
وهذه[11] إما أن يأتي المستدعي[12] بها فعله بصيغة الأمر، وإما أن يأتي بصيغة الخبر، يراد به الامر، وكذلك المتسدعي تركه، إما أن يأتي بصيغة النهي، وإما أن يأتي بصيغة الخبر، يراد به النهي، وإذا أتت هذه الالفاظ بهذه الصيغ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه، أو يتوقف[13] حتى يدل الدليل على أحدهما؟ فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه، وكذلك الحل في صيغ النهي هل تدل على الكراهية[14] أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما؟ فيه الخلاف المذكور أيضا. والأعيان[15] التي يتعلق بها الحكم إما أن يُدَل عليها بلفظ يَدُل على معنى واحد فقط، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص، ولا خلاف في وجوب العمل به، وإما أن يُدَل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد، وهذا قسمان: إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما[16].
وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض، وهذا يسمى بالاضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهرا، ويسمى بالاضافة إلى المعاني التى دلالته عليها اقل محتملا، وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التى هو اظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على حمله على المحتمل، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع، لكن ذلك من قبل ثلاث معان:
من قبل الاشتراك في لفظ العين[17] الذى علق به الحكم، ومن قبل الاشتراك في الألف والام[18] المقرونة بجنس تلك العين، هل أريد بها الكل أو البعض[19]؟
ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي، واما الطريق الرابع فهو ان يفهم من ايجاب الحكم لشئ ما نفى ذلك الحكم عما عدا ذلك الشئ أو من نفى الحكم عن شئ ما ايجابه لما عدا ذلك الشئ الذى نفى عنه، وهو الذى يعرف بدليل الخطاب، وهو اصل مختلف فيه مثل قوله عليه الصلاة والسلام: " في سائمة الغنم الزكاة "، فان قوما فهموا منه ان لا زكاة في غير السائمة.
وأما القياس الشرعي فهو[20] الحاق الحكم الواجب[21] لشئ ما بالشرع بالشئ المسكوت عنه لشبهه بالشئ الذى اوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين: قياس شبه، وقياس علة.
والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام: ان القياس يكون على الخاص الذى اريد به الخاص فيلحق به غيره، اعني ان المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذى بينهما لا من جهة دلالة اللفظ[22]، لان إحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس، وانما هو من باب دلالة اللفظ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا لانهما الحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا[23].
فمثال القياس إلحاق[24] شارب الخمر بالقاذف في الحد، والصداق[25] بالنصاب في القطع.
واما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم من باب الخاص أريد به العام[26]، فتأمل هذا فان فيه غموضا.
والجنس الاول هو الذى ينبغى للظاهرية ان تنازع فيه.
واما الثاني فليس ينبغي لها ان تنازع فيه لانه من باب السمع، والذى يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب.
واما الفعل فانه عند الأكثر من الطرق التى تتلقى منها الاحكام الشرعية، وقال قوم: الافعال ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ، والذين قالوا انها تتلقى منها الاحكام اختلفوا في نوع الحكم الذى تدل عليه، فقال قوم: على الوجوب وقال قوم: تدل على الندب، والمختار عند المحققين انها ان اتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب، وان اتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب، وان لم تات بيانا لمجمل، فان كانت من جنس القربة دلت على الندب، وان كانت من جنس المباحات دلت على الاباحة.
واما الإقرار فانه يدل على الجواز[27]، فهذه اصناف الطرق التى تتلقى منها الاحكام أو تستنبط.
واما الاجماع فهو مستند الى احد هذه الطرق الاربعة[28]، الا انه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن الى القطع، وليس الاجماع اصلا مستقلا بذاته من غير استناد الى واحد من هذه الطرق[29]، لانه لو كان كذلك لكان يقتضى اثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إذا[30] كان لا يرجع الى اصل من الاصول المشروعة.
واما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهى بالجملة: اما امر بشئ واما نهى عنه، واما تخيير فيه.
والامر ان فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمى واجبا، وان فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمى محرما ومحظورا، وان فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمى مكروها[31] فتكون اصناف الاحكام الشرعية المتلقاة من هذا الطرق خمسة: واجب، ومندوب ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح.
وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة، احدها: تردد الالفاظ بين هذه الطرق الاربع[32]: اعني بين ان يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، أو يكون له دليل خطاب، أو لا يكون له.
والثانى: الاشتراك الذى في الالفاظ[33]، وذلك اما في اللفظ المفرد[34]، كلفظ القرء الذى ينطلق على الاطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الامر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهى هل يحمل على التحريم أو الكراهية[35]؟ واما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى: (الا الذين تابوا)[36] ، فانه يحتمل ان يعود على الفاسق فقط، ويحتمل ان يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف.
والثالث: اختلاف الاعراب[37].
والرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من انواع المجاز، التى هي اما الحذف، واما الزيادة، واما التقديم، واما التاخير، واما تردده على[38] الحقيقة أو الاستعارة.
والخامس: اطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، مثل اطلاق الرقية في العتق تارة، وتقييدها بالايمان تارة.
والسادس: التعارض في[39] الشيئين في جميع اصناف الالفاظ التى يتلقى منها الشرع الاحكام بعضها[40] مع بعض، وكذلك التعارض الذى ياتي في الافعال أو في الاقرارات، أو تعارض القياسات انفسها، أو التعارض الذى يتركب من هذه الاصناف الثلاثة، اعني: معارضة القول للفعل أو للاقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للاقرار أو للقياس، ومعارضة الاقرار للقياس[41].

[1] أي أما بعد بسم الله الرحمن الرحيم.ثم تبين بعد كتابة ما كتبت أن الإضافة متعينة , وإلا كان جواب (أما) خاليا عن الفاء, وعلى الإضافة يكون الكلام هكذا: (أما بعد حمد الله بجميع محامده والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه فإن غرضي...)
قال أبو عبد الله طارق: وهذا الذي اختاره شيخنا هو ما أثبته .

[2] في بعض النسخ (حمدا لله) وعليه فتكون (بعد) مقطوعة عن الإضافة, و(حمدا) مفعولا مطلقا, عامله محذوف تقديره : (أحمد) وجملة(والصلاة والسلام على...) معطوفة على الجملة الفعلية على مذهب من يجوزه مطلقا أو مع الواو.

[3] يعني التي يتعرض إليها,والتي اشار إليها بقوله: (مسائل الأحكام...)

[4] عدد أصناف , فكم استعملها بمعنى عدد, وأما كم الاستفهامية والخبرية فلها الصدارة.

[5] أي مما لا تعلق له بالمنطوق , وإنما يستفاد من العلة.

[6] ويبقى داخلا تحت البراءة الأصلية إن لم يكن من المضار, فإن كان من المضار يكون حكمه التحريم,وإن كان عبادة فحكمه المنع,إذ الأصل في العبادة التوقيف.وأما الجمهور فقالوا : إن طريق الوقوف عليه القياس.

[7] يعني المستجدات التي لم تكن في زمن النبوة وزمن نزول الوحي.

[8] فعله صلى الله عليه وسلم وإقراره لأحد الأمة هو لسائر المسلمين إلى قيام الساعة, لقوله صلى الله عليه وسلم (بعثت إلى الناس كافة)

[9] راجع للفظ (من الأقسام الثلاثة التي هي الأألفاظ والأفعال والإقرارات...)

[10] أي الاشتراك اللفظي, وهو أن يتحد اللفظ ويتعدد المعنى.

[11] أي الأنواع الأربعة من العام المراد به العموم ...)

[12] أي المطلوب

[13] يتوقف فيه

[14] في بعض النسخ(الكراهة) بدون ياء.وهو أقرب إذ الكراهية حالة نفسية, والكراهة حكم شرعي, والمراد هذه الأخيرة.

[15] هذا انتقال إلى متعلَّقات الأحكام.

[16] كالقرء في الأازمنة من المتعلقات. والمتعلقات أنواع: فمنها فعل المكلف وما يحتاج إليه في الفعل من الأمكنة والأزمنة والآلات كالوقت للصلاة والمكان كذلك, والماء للوضوء, والصعيد للتيمم,والحيوان في الهدي والأضحية والعقيقة والزكاة.فإن هذه الأخيرة آلات يتأدى بها الحكم.

[17] مثل الصعيد في قوله تعالى: فتيمموا صعيدا طيبا. فمن حمله على كل ما صعد على الأرض من جنسها أجاز التيمم بكل ذلك , ومن حمله على التراب قصر إجزاء التيمم على التراب.

[18] مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) فحملها الجمهور على العهد, أي بول الإنسان بدليل ما جاء في بعض الروايات : فكان لا يستنزه من بوله) وحملها ابن حزم على العموم. فقال بنجاسة جميع الأبوال . والراجح ما ذهب إليه الجمهور.

[19] يصدق بمثالين : (1) مبهم إن لم يكن عهد.(2) معين إن كان عهد.

[20] هذا التعريف فيه ركاكة,والأولى أن يقول : إلحاق مجهول بمعلوم بجامع بينهما في الحكم. والجامع قد يكون العلة وقد يكون الشبه...فيدخل قياس العلة وقياس الشبه.

[21] أي الثابت

[22] بخلاف اللفظ الخاص يراد به العام لأن إلحاق ...

[23] وهو التباس لا يضر, لأن المعنى مراعى على كلا الحالتين , وقد جعل أبو حنيفة كل مفهوم من باب القياس والله أعلم.

[24] وهو قياس يغني عنه النص, ثم هو فاسد لأن النص جاء بأربعين والقياس بثمانين.

[25] وكذلك قياس الصداق بنصاب السرقة, فإن النكاح طاعة وليس بمعصية والسرقة معصية, واليد تقطع والفرج لا يقطع, والنكاح من باب التكريم بخلاف الحدود, فليس فيها تكريم, فبطل هذا القياس

[26] هذا خلاف ما عليه الفقهاء والأصوليون من جعله من باب القياس , وقد اشتهر بين الفقهاء الخلاف في علة تحريم الربا فليتأمل ولا غموض فيه

[27] في غير القرب, وأما ما كان من باب القرب فإنه يدل على الندب

[28] الأقوال والأفعال والإقرارات والقياس

[29] الأربعة, القول والفعل والتقرير والقياس

[30] في بعض النسخ (إذ) وهو أقرب لتضمنه معنى التعليل.

[31] كان عليه أن يزيد: (وإن أذن الشارع في الشيء كان مباحا, فتكون ...

[32] المتقدمة في أصناف الطرق.

[33] أي الألفاظ الدالة على الأحكام.

[34] أي الدال على المتعلق.

[35] الكراهة

[36] وقوله تعالى : (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح)

[37] ويلحق بالإعراب الصرف,ويتفرع عنه اختلاف القراآت واختلاف الروايات في الحديث. مثل آية الوضوء, فقراءة النصب تقتضي حكما غير الذي تقتضيه قراءة الجر.ومثاله في الحديث حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه يروى بالرفع والنصب.ورواية الرفع هي الصحيحة, ورواية الجر بـ(في) موقوفة على عبد الله بن عمر كما في الموطأ.

[38] لعل الصواب : بين الحقيقة والاستعارة.

[39] لعل الأولى : التعارض بين الشيئين.

[40] لعل الصواب : (بعضهما مع بعض).أي تعارض الشيئين بعضهما مع بعض

[41] ولم يذكر من الأسباب الاختلاف في ثبوت الحديث , فمن ثبت لديه الحديث قال به إن توفرت الشروط , ومن لم يثبت لديه لم يقل به. ومن اسباب الاختلاف أيضا الاختلاف في الأصول مثلا القياس, من قال به بنى عليه حكما , ومن لم يقل به ألغى ذلك الحكم, وكذلك عمل أهل المدينة والمصالح المرسلة, ومن اسباب الاختلاف الجهل بالدليل من قبل بعض المجتهدين, وعلم غيره به, وهذا أكثر ما يكون في الحديث, ومن اسباب الاختلاف الاختلاف في حمل فعله على الوجوب والندب. وينظر لذلك رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية, وتقريب الوصول للتلمساني, والإنصاف لابن السيد البَطَلْيَوْسي