تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: من لغة الخطوط للشيخ عصام المجريسي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    المشاركات
    13

    Arrow من لغة الخطوط للشيخ عصام المجريسي

    (1) عن عبد الله بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطّاً، ثم قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبُل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( الأنعام.(1)
    (2) وعنه أيضاً عن النبيء - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: خطّ النبيء - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربّعاً، وخطّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خُطُطاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجلُه محيط به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، وهذه الخُطُط الصغارُ الأعراضُ، فإن أخطأه هذا نهَشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".(2) *
    اعتاد المعلّمون أن يفسروا لتلاميذهم صورة غائبةً أو عسيرة على الأفهام بطرق متنوعة، منها هذا الذي كان النبيء الكريم - صلى الله عليه وسلم - يرسمه لأصحابه، على سبيل التعليم والشرح والبيان، وهو من أجلّ طرق التعليم، ومن أشرف وسائله.
    المستقيم والمثلث والمربع والدائرة أشكالٌ هندسيّة متنوعة، وهي من أقرب الإشارات إلى صورة الحياة؛ لأنها تخاطب العينَ قبل العقل، من الخطوط المتشكّلة حُروفاً؛ لأنها تخاطب الأذن والعقل بكلمات تشير إلى تصورات أو نِسَب ذهنية معهودة أو حاضرة. وقيل: "بالمثال يتضح المقال"، و"صورة أبلغ من ألف كلمة". والنبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يستغنِ تماماً عن المقال، فقد وظّفه توظيفاً شجيّاً بليغاً، ليجمعه بالمثال معاً؛ على عادته - صلى الله عليه وسلم - في استلهام جوامع الكلم والحكم. وذلك هدْي القرآن، يُوجّهُ أنظار الناس إلى مفردات الكَوْن، لينشئوا علاقات بينها، ويسخلصوا منها المعاني والعلوم، قال تعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم( و)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(.
    والأمثال القرآنية والنبويّة يتطلب فقهُها استجماعاً زائداً لقدرات العقل، قال تعالى: )وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(.
    هذا بيان تشكيلي، وصّل به النبيء هذا المعنى لمخاطَبيه، وهو كالمحاضرة المباشرة: (خَطّ..)، فكُلّ طرَف من أطراف العملية التعليمية: المعلّم والمتعلّم، والرسالة، ومقتضى الحال، حاضر حضوراً مقصوداً، ومشارك فيها مشاركة فاعلة. والمحاضرة: وهي الأسلوب العلمي الذي أقرته جامعات الدنيا، تقتضي المشاركة ابتداء من حضور الذهن، إلى استحضار المسائل والأمثلة والوسائل والاختبارات والمناقشات وهلم جرّاً، وهل نقول: المحاضرة لبنة من لبنات الحضارة؟. والحقّ ضرب هذا الشكل المنظور مثلاً هنا أكثر حضوراً وإيحاءً، وأنه أبلغ من محاضرة، فهو شرح طليق، لا يعرف قاعة ولا مختبراً ولا مركز بحوث ولا مراحل تعليمية!. لقد كان شربةً كوثريّة هنيئة، لا يظمأ السامع بعدها إلى مثلها.
    المعلم: النبيء - صلى الله عليه وسلم -، في بيته أو لعله كان على حصباء مسجده أو جانب منبره، أو جانب نخلة من سواريه،.
    والمتعلم: كثير حوله من الصحابة الذين فتحوا الدنيا، نكتفي منهم بثلاثة: الأول: عبد الله بن مسعود t، رجل غريب من هُذَيْل، رُوَيْعي أغنام، ضعيفُ البنية؛ لا يقوى على الصيام، لكنه وعاءٌ مُلِئ علماً، ومن أوائل الناس إسلاماً، وقد نُقل عنه الحديث بروايات مختلفة الألفاظ والمعاني والمواقف؛ لكثرة ما سمعه، ففقِهه، ولكثرة ما علّمه لأصحابه الكوفيين. والثاني: جابر بن عبدالله t، فقيرٌ عالم، ابن مجاهد شهيدٍ، ووصيّه على أخواته الضعيفات، وروى الحديث أيضاً، والثالث: أنس بن مالك t خادم النبيء، صحابيّ صغير، لكنه كان محط نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأدرك ما أدركه الصحابي الكبير، بالحضور الفطريّ.
    وقد امتزج المعلم والمتعلم امتزاجاً (علميّاً) تاماً، كالسكَّر بالماء والأنفاس بالهواء؛ لأن المعاني المستوحاة متواصلة بينهما تواصلاً تامّاً.
    والرسالة النبوية هنا: خطاب تمثيليّ بديع، يجعل الخطوط تشير إلى أشكال، والأشكال تختزن معاني واسعة شاملة عميقة، وقد تتجلى تلك المعاني في أشكال مختلفة، فسرها النبيء هنا بخمس مفردات، قد يصعب على المرء أن يستجمع النظر إليها في صورة واحدة بغير هذه الطريقة: [1] (السبيل): الصراط المستقيم: الإيمان والعمل الصالح. [ومعنى هذه المفردة مستوحًى من تمثيل الحديث رقم (1)]. و[2] (الإنسان): الفقير والضعيف والخادم أولاً، الذي إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لا يُؤبَهُ له؛ لأنه سبب النصر والرزق، الإنسان في كيانه بطموحاته وأشواقه. و[3] (الأعراض): السبُل: غوائل الطريق وآفات المستقبل ومتاهات الرحلة. و[4] (الأجل): العُمْر، المعلوم منذ أول نفخة روح إلى آخر زفرة نفس، و[5] (الأمل): المنتظر من المستقبل والطموح، وما كل مأمول مُدْرَك، وما أضيق العيش بلا فسحته!. [المفردات من [2] إلى [5] من تمثيلات الحديث رقم (2)].
    إنها خطوط تشكّل الطريق القويم إلى الله بكلّ أبعاده؛ الحلال والحرام، الداخل والخارج، الشرع والقدر، الحقيقة والأباطيل، الممكن والمستحيل. فإذا عرف الإنسان ما له وما عليه، وإذا عرف مجاله طار على متن فرسه، إذا سمع هَيْعة (نداءً)، ولحق بالغاية، دون ما التفات إلى بُنَيّات الطريق.
    وأما السبب الداعي إلى هذا البيان: فهو الحيرة التي تكتنف الإنسان في حياته، والأسئلة اليومية التي تأتي مع طلعة كلّ شمس، فتُورثه الهموم والأحزان. ولا أحسب هؤلاء الصحب الكرام كانوا حَيارى أو حزانى، بالمعنى المتبادر إلى عقلية عصرنا، أو خلت أذهانهم من هذه المفردات، ولكنّها الرحلةُ إلى الغَدِ، لا يسلم فيها المرء، مهما بلغ علمه وذكاؤه، من أن تصيبه صوارف الدنيا وطول الأمل وعثرات الخُطَا؛ إذا لم تنتظم تلك المفردات أمامه كلّ حين.
    ومضى البيان، وبقيت صورة تلك الأشكال، تُلهم المتأمل كلما أعاد فيها النظَر.
    وصرنا نسمع في هذا العصر حديثاً ملوّناً عن الخطوط: "الخطوط الحمراء"، و"تجاوز الخط"، و"البقاء" فيه أو دونه أو "النوم" فيه أحياناً!، متلازماً مع "البطاقة الخضراء"؛ حتى كأنّ الحياة أمران: خطوط وبطاقات. ويُفهم من "الخطوط الحمراء" أول الأمر أنها أشياء، كالتي حكم الله تعالى بها على السامريّ، بعد إضلاله بني إسرائيل، في غيبة موسى عليه السلام، أو التي جعلها النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات المهلكات، ولكن الذائقة اللغوية لا تفتأ تعيد النظر في هذا التركيب؛ لفهم نسبته وأصله، وتستقرئ الخطوط والتشكيلات والبطاقات والمناطق…، والألوان المتعلقة بها، والفروق اللغوية والثقافية والجوامع التي نشأت منها، ومن نعم الله أن نهتديَ إلى شيء من أجمل خطوط الدنيا والآخرة وبطاقاتهما، وهي التي استُفتِح بها القول.
    والناس في غرب الأرض يدركون معنى التشبيه من هذا التركيب؛ لأنه منتزع من واقعهم ومحيطهم، رائج في حياتهم اليومية بدلالات وأعماق، وهم مشاركون فاعلون في القانون الذي فرع ألوان الحياة إلى خُضرة وحُمرة وصُفرة؛ فعنده (بطاقة خضراء) يسرح بها ويمرح ويجتاز في داخل (المناطق الخضراء)، وعنده (خط أحمر) أو خطوط حمراء، لا يقربها مدى العمر، وإلا اقتيد اقتياد الشارد العقور، ولا تلازمَ لغويّاً بين كلمة (خط: Line) وكلمة (بطاقة: Card)، بقدر ما كان التلازم بين (الأحمر) و(الأخضر)، تلازماً لا يكون في كلّ صورة؛ لجواز أن يكون الأخضر فساداً والأحمر وروداً.
    ودلالة هذه الخطوط على المنع أو التوقّف أو الخطر أو الطرد أو الموت؛ بسبب لونها الأحمر، الذي يراه المارّ في الطريق، وعلى أبواب غرف العناية، ومكاتب المدراء المشغولين جدّاً… ولو كان التعبير بالإشارة الحمراء لكانت تلك الذائقة اللغوية ترتاح وتريح؛ لأن معها الإشارة الخضراء والصفراء، في صفّ واحد، وينضبط الباب على وتيرة واحدة، ويكون تشبيهاً بليغاً محذوف الأداة، والمعنى: أن دخول هذا الأمر ممنوع امتناع المرور أو الدخول..؛ لكن ذلك لم يكن.
    ولو كان ذلك راجعاً إلى القلم ذي الخط الأحمر، الذي يستعمله المعلم في التصحيح، لكان الأمر أيسر، ولكن ذلك القلم لا يجري بمداده إلا بعد كتابة التلميذ، ولا يخطر ببال التلميذ أنه يكتب لأن أمامه خطّاً أحمرَ؛ فالتحذير المفهوم من عبارة "الخطّ الأحمر"، فيكون سابقاً على المحظور، لا لاحقاً.
    وكذلك الأمر في الخط الأحمر الذي يظهره الحاسوب للكاتب، إذا كتب كلمة غير داخلة في قاموسه، حتى تضاف إليه أو تصحّح؛ فهو لاحق أيضاً.
    وكذا الأمر في أقلام لجان الرقابة الصّحافية والرقابة على نشر الكتب، والتي أظنها من ذوات اللون الأحمر، وليس بجامع التدريب.
    ورأيت أن من رسموا خرائط الدُّوَل المتبدّلة مع التاريخ جعلوا أحياناً الفواصل بين تلك البقاع ذات حبر أحمر، فإذا عدا بعضها على بعض كان ذلك خرقاً للقانون وموجباً للحرب، وجعلوا للقناصل والسفراء بطاقات خضراء (جوازات دبلوماسية)، يُحمَلون بها في البر والبحر.
    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني.
    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ". (1) عن عبد الله بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطّاً، ثم قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبُل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( الأنعام.(1)
    (2) وعنه أيضاً عن النبيء - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: خطّ النبيء - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربّعاً، وخطّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خُطُطاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجلُه محيط به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، وهذه الخُطُط الصغارُ الأعراضُ، فإن أخطأه هذا نهَشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".(2) *
    اعتاد المعلّمون أن يفسروا لتلاميذهم صورة غائبةً أو عسيرة على الأفهام بطرق متنوعة، منها هذا الذي كان النبيء الكريم - صلى الله عليه وسلم - يرسمه لأصحابه، على سبيل التعليم والشرح والبيان، وهو من أجلّ طرق التعليم، ومن أشرف وسائله.
    المستقيم والمثلث والمربع والدائرة أشكالٌ هندسيّة متنوعة، وهي من أقرب الإشارات إلى صورة الحياة؛ لأنها تخاطب العينَ قبل العقل، من الخطوط المتشكّلة حُروفاً؛ لأنها تخاطب الأذن والعقل بكلمات تشير إلى تصورات أو نِسَب ذهنية معهودة أو حاضرة. وقيل: "بالمثال يتضح المقال"، و"صورة أبلغ من ألف كلمة". والنبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يستغنِ تماماً عن المقال، فقد وظّفه توظيفاً شجيّاً بليغاً، ليجمعه بالمثال معاً؛ على عادته - صلى الله عليه وسلم - في استلهام جوامع الكلم والحكم. وذلك هدْي القرآن، يُوجّهُ أنظار الناس إلى مفردات الكَوْن، لينشئوا علاقات بينها، ويسخلصوا منها المعاني والعلوم، قال تعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم( و)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(.
    والأمثال القرآنية والنبويّة يتطلب فقهُها استجماعاً زائداً لقدرات العقل، قال تعالى: )وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(.
    هذا بيان تشكيلي، وصّل به النبيء هذا المعنى لمخاطَبيه، وهو كالمحاضرة المباشرة: (خَطّ..)، فكُلّ طرَف من أطراف العملية التعليمية: المعلّم والمتعلّم، والرسالة، ومقتضى الحال، حاضر حضوراً مقصوداً، ومشارك فيها مشاركة فاعلة. والمحاضرة: وهي الأسلوب العلمي الذي أقرته جامعات الدنيا، تقتضي المشاركة ابتداء من حضور الذهن، إلى استحضار المسائل والأمثلة والوسائل والاختبارات والمناقشات وهلم جرّاً، وهل نقول: المحاضرة لبنة من لبنات الحضارة؟. والحقّ ضرب هذا الشكل المنظور مثلاً هنا أكثر حضوراً وإيحاءً، وأنه أبلغ من محاضرة، فهو شرح طليق، لا يعرف قاعة ولا مختبراً ولا مركز بحوث ولا مراحل تعليمية!. لقد كان شربةً كوثريّة هنيئة، لا يظمأ السامع بعدها إلى مثلها.
    المعلم: النبيء - صلى الله عليه وسلم -، في بيته أو لعله كان على حصباء مسجده أو جانب منبره، أو جانب نخلة من سواريه،.
    والمتعلم: كثير حوله من الصحابة الذين فتحوا الدنيا، نكتفي منهم بثلاثة: الأول: عبد الله بن مسعود t، رجل غريب من هُذَيْل، رُوَيْعي أغنام، ضعيفُ البنية؛ لا يقوى على الصيام، لكنه وعاءٌ مُلِئ علماً، ومن أوائل الناس إسلاماً، وقد نُقل عنه الحديث بروايات مختلفة الألفاظ والمعاني والمواقف؛ لكثرة ما سمعه، ففقِهه، ولكثرة ما علّمه لأصحابه الكوفيين. والثاني: جابر بن عبدالله t، فقيرٌ عالم، ابن مجاهد شهيدٍ، ووصيّه على أخواته الضعيفات، وروى الحديث أيضاً، والثالث: أنس بن مالك t خادم النبيء، صحابيّ صغير، لكنه كان محط نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأدرك ما أدركه الصحابي الكبير، بالحضور الفطريّ.
    وقد امتزج المعلم والمتعلم امتزاجاً (علميّاً) تاماً، كالسكَّر بالماء والأنفاس بالهواء؛ لأن المعاني المستوحاة متواصلة بينهما تواصلاً تامّاً.
    والرسالة النبوية هنا: خطاب تمثيليّ بديع، يجعل الخطوط تشير إلى أشكال، والأشكال تختزن معاني واسعة شاملة عميقة، وقد تتجلى تلك المعاني في أشكال مختلفة، فسرها النبيء هنا بخمس مفردات، قد يصعب على المرء أن يستجمع النظر إليها في صورة واحدة بغير هذه الطريقة: [1] (السبيل): الصراط المستقيم: الإيمان والعمل الصالح. [ومعنى هذه المفردة مستوحًى من تمثيل الحديث رقم (1)]. و[2] (الإنسان): الفقير والضعيف والخادم أولاً، الذي إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لا يُؤبَهُ له؛ لأنه سبب النصر والرزق، الإنسان في كيانه بطموحاته وأشواقه. و[3] (الأعراض): السبُل: غوائل الطريق وآفات المستقبل ومتاهات الرحلة. و[4] (الأجل): العُمْر، المعلوم منذ أول نفخة روح إلى آخر زفرة نفس، و[5] (الأمل): المنتظر من المستقبل والطموح، وما كل مأمول مُدْرَك، وما أضيق العيش بلا فسحته!. [المفردات من [2] إلى [5] من تمثيلات الحديث رقم (2)].
    إنها خطوط تشكّل الطريق القويم إلى الله بكلّ أبعاده؛ الحلال والحرام، الداخل والخارج، الشرع والقدر، الحقيقة والأباطيل، الممكن والمستحيل. فإذا عرف الإنسان ما له وما عليه، وإذا عرف مجاله طار على متن فرسه، إذا سمع هَيْعة (نداءً)، ولحق بالغاية، دون ما التفات إلى بُنَيّات الطريق.
    وأما السبب الداعي إلى هذا البيان: فهو الحيرة التي تكتنف الإنسان في حياته، والأسئلة اليومية التي تأتي مع طلعة كلّ شمس، فتُورثه الهموم والأحزان. ولا أحسب هؤلاء الصحب الكرام كانوا حَيارى أو حزانى، بالمعنى المتبادر إلى عقلية عصرنا، أو خلت أذهانهم من هذه المفردات، ولكنّها الرحلةُ إلى الغَدِ، لا يسلم فيها المرء، مهما بلغ علمه وذكاؤه، من أن تصيبه صوارف الدنيا وطول الأمل وعثرات الخُطَا؛ إذا لم تنتظم تلك المفردات أمامه كلّ حين.
    ومضى البيان، وبقيت صورة تلك الأشكال، تُلهم المتأمل كلما أعاد فيها النظَر.
    وصرنا نسمع في هذا العصر حديثاً ملوّناً عن الخطوط: "الخطوط الحمراء"، و"تجاوز الخط"، و"البقاء" فيه أو دونه أو "النوم" فيه أحياناً!، متلازماً مع "البطاقة الخضراء"؛ حتى كأنّ الحياة أمران: خطوط وبطاقات. ويُفهم من "الخطوط الحمراء" أول الأمر أنها أشياء، كالتي حكم الله تعالى بها على السامريّ، بعد إضلاله بني إسرائيل، في غيبة موسى عليه السلام، أو التي جعلها النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات المهلكات، ولكن الذائقة اللغوية لا تفتأ تعيد النظر في هذا التركيب؛ لفهم نسبته وأصله، وتستقرئ الخطوط والتشكيلات والبطاقات والمناطق…، والألوان المتعلقة بها، والفروق اللغوية والثقافية والجوامع التي نشأت منها، ومن نعم الله أن نهتديَ إلى شيء من أجمل خطوط الدنيا والآخرة وبطاقاتهما، وهي التي استُفتِح بها القول.
    والناس في غرب الأرض يدركون معنى التشبيه من هذا التركيب؛ لأنه منتزع من واقعهم ومحيطهم، رائج في حياتهم اليومية بدلالات وأعماق، وهم مشاركون فاعلون في القانون الذي فرع ألوان الحياة إلى خُضرة وحُمرة وصُفرة؛ فعنده (بطاقة خضراء) يسرح بها ويمرح ويجتاز في داخل (المناطق الخضراء)، وعنده (خط أحمر) أو خطوط حمراء، لا يقربها مدى العمر، وإلا اقتيد اقتياد الشارد العقور، ولا تلازمَ لغويّاً بين كلمة (خط: Line) وكلمة (بطاقة: Card)، بقدر ما كان التلازم بين (الأحمر) و(الأخضر)، تلازماً لا يكون في كلّ صورة؛ لجواز أن يكون الأخضر فساداً والأحمر وروداً.
    ودلالة هذه الخطوط على المنع أو التوقّف أو الخطر أو الطرد أو الموت؛ بسبب لونها الأحمر، الذي يراه المارّ في الطريق، وعلى أبواب غرف العناية، ومكاتب المدراء المشغولين جدّاً… ولو كان التعبير بالإشارة الحمراء لكانت تلك الذائقة اللغوية ترتاح وتريح؛ لأن معها الإشارة الخضراء والصفراء، في صفّ واحد، وينضبط الباب على وتيرة واحدة، ويكون تشبيهاً بليغاً محذوف الأداة، والمعنى: أن دخول هذا الأمر ممنوع امتناع المرور أو الدخول..؛ لكن ذلك لم يكن.
    ولو كان ذلك راجعاً إلى القلم ذي الخط الأحمر، الذي يستعمله المعلم في التصحيح، لكان الأمر أيسر، ولكن ذلك القلم لا يجري بمداده إلا بعد كتابة التلميذ، ولا يخطر ببال التلميذ أنه يكتب لأن أمامه خطّاً أحمرَ؛ فالتحذير المفهوم من عبارة "الخطّ الأحمر"، فيكون سابقاً على المحظور، لا لاحقاً.
    وكذلك الأمر في الخط الأحمر الذي يظهره الحاسوب للكاتب، إذا كتب كلمة غير داخلة في قاموسه، حتى تضاف إليه أو تصحّح؛ فهو لاحق أيضاً.
    وكذا الأمر في أقلام لجان الرقابة الصّحافية والرقابة على نشر الكتب، والتي أظنها من ذوات اللون الأحمر، وليس بجامع التدريب.
    ورأيت أن من رسموا خرائط الدُّوَل المتبدّلة مع التاريخ جعلوا أحياناً الفواصل بين تلك البقاع ذات حبر أحمر، فإذا عدا بعضها على بعض كان ذلك خرقاً للقانون وموجباً للحرب، وجعلوا للقناصل والسفراء بطاقات خضراء (جوازات دبلوماسية)، يُحمَلون بها في البر والبحر.
    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني.
    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ". (1) عن عبد الله بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطّاً، ثم قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبُل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( الأنعام.(1)
    (2) وعنه أيضاً عن النبيء - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: خطّ النبيء - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربّعاً، وخطّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خُطُطاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجلُه محيط به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، وهذه الخُطُط الصغارُ الأعراضُ، فإن أخطأه هذا نهَشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".(2) *
    اعتاد المعلّمون أن يفسروا لتلاميذهم صورة غائبةً أو عسيرة على الأفهام بطرق متنوعة، منها هذا الذي كان النبيء الكريم - صلى الله عليه وسلم - يرسمه لأصحابه، على سبيل التعليم والشرح والبيان، وهو من أجلّ طرق التعليم، ومن أشرف وسائله.
    المستقيم والمثلث والمربع والدائرة أشكالٌ هندسيّة متنوعة، وهي من أقرب الإشارات إلى صورة الحياة؛ لأنها تخاطب العينَ قبل العقل، من الخطوط المتشكّلة حُروفاً؛ لأنها تخاطب الأذن والعقل بكلمات تشير إلى تصورات أو نِسَب ذهنية معهودة أو حاضرة. وقيل: "بالمثال يتضح المقال"، و"صورة أبلغ من ألف كلمة". والنبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يستغنِ تماماً عن المقال، فقد وظّفه توظيفاً شجيّاً بليغاً، ليجمعه بالمثال معاً؛ على عادته - صلى الله عليه وسلم - في استلهام جوامع الكلم والحكم. وذلك هدْي القرآن، يُوجّهُ أنظار الناس إلى مفردات الكَوْن، لينشئوا علاقات بينها، ويسخلصوا منها المعاني والعلوم، قال تعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم( و)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(.
    والأمثال القرآنية والنبويّة يتطلب فقهُها استجماعاً زائداً لقدرات العقل، قال تعالى: )وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(.
    هذا بيان تشكيلي، وصّل به النبيء هذا المعنى لمخاطَبيه، وهو كالمحاضرة المباشرة: (خَطّ..)، فكُلّ طرَف من أطراف العملية التعليمية: المعلّم والمتعلّم، والرسالة، ومقتضى الحال، حاضر حضوراً مقصوداً، ومشارك فيها مشاركة فاعلة. والمحاضرة: وهي الأسلوب العلمي الذي أقرته جامعات الدنيا، تقتضي المشاركة ابتداء من حضور الذهن، إلى استحضار المسائل والأمثلة والوسائل والاختبارات والمناقشات وهلم جرّاً، وهل نقول: المحاضرة لبنة من لبنات الحضارة؟. والحقّ ضرب هذا الشكل المنظور مثلاً هنا أكثر حضوراً وإيحاءً، وأنه أبلغ من محاضرة، فهو شرح طليق، لا يعرف قاعة ولا مختبراً ولا مركز بحوث ولا مراحل تعليمية!. لقد كان شربةً كوثريّة هنيئة، لا يظمأ السامع بعدها إلى مثلها.
    المعلم: النبيء - صلى الله عليه وسلم -، في بيته أو لعله كان على حصباء مسجده أو جانب منبره، أو جانب نخلة من سواريه،.
    والمتعلم: كثير حوله من الصحابة الذين فتحوا الدنيا، نكتفي منهم بثلاثة: الأول: عبد الله بن مسعود t، رجل غريب من هُذَيْل، رُوَيْعي أغنام، ضعيفُ البنية؛ لا يقوى على الصيام، لكنه وعاءٌ مُلِئ علماً، ومن أوائل الناس إسلاماً، وقد نُقل عنه الحديث بروايات مختلفة الألفاظ والمعاني والمواقف؛ لكثرة ما سمعه، ففقِهه، ولكثرة ما علّمه لأصحابه الكوفيين. والثاني: جابر بن عبدالله t، فقيرٌ عالم، ابن مجاهد شهيدٍ، ووصيّه على أخواته الضعيفات، وروى الحديث أيضاً، والثالث: أنس بن مالك t خادم النبيء، صحابيّ صغير، لكنه كان محط نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأدرك ما أدركه الصحابي الكبير، بالحضور الفطريّ.
    وقد امتزج المعلم والمتعلم امتزاجاً (علميّاً) تاماً، كالسكَّر بالماء والأنفاس بالهواء؛ لأن المعاني المستوحاة متواصلة بينهما تواصلاً تامّاً.
    والرسالة النبوية هنا: خطاب تمثيليّ بديع، يجعل الخطوط تشير إلى أشكال، والأشكال تختزن معاني واسعة شاملة عميقة، وقد تتجلى تلك المعاني في أشكال مختلفة، فسرها النبيء هنا بخمس مفردات، قد يصعب على المرء أن يستجمع النظر إليها في صورة واحدة بغير هذه الطريقة: [1] (السبيل): الصراط المستقيم: الإيمان والعمل الصالح. [ومعنى هذه المفردة مستوحًى من تمثيل الحديث رقم (1)]. و[2] (الإنسان): الفقير والضعيف والخادم أولاً، الذي إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لا يُؤبَهُ له؛ لأنه سبب النصر والرزق، الإنسان في كيانه بطموحاته وأشواقه. و[3] (الأعراض): السبُل: غوائل الطريق وآفات المستقبل ومتاهات الرحلة. و[4] (الأجل): العُمْر، المعلوم منذ أول نفخة روح إلى آخر زفرة نفس، و[5] (الأمل): المنتظر من المستقبل والطموح، وما كل مأمول مُدْرَك، وما أضيق العيش بلا فسحته!. [المفردات من [2] إلى [5] من تمثيلات الحديث رقم (2)].
    إنها خطوط تشكّل الطريق القويم إلى الله بكلّ أبعاده؛ الحلال والحرام، الداخل والخارج، الشرع والقدر، الحقيقة والأباطيل، الممكن والمستحيل. فإذا عرف الإنسان ما له وما عليه، وإذا عرف مجاله طار على متن فرسه، إذا سمع هَيْعة (نداءً)، ولحق بالغاية، دون ما التفات إلى بُنَيّات الطريق.
    وأما السبب الداعي إلى هذا البيان: فهو الحيرة التي تكتنف الإنسان في حياته، والأسئلة اليومية التي تأتي مع طلعة كلّ شمس، فتُورثه الهموم والأحزان. ولا أحسب هؤلاء الصحب الكرام كانوا حَيارى أو حزانى، بالمعنى المتبادر إلى عقلية عصرنا، أو خلت أذهانهم من هذه المفردات، ولكنّها الرحلةُ إلى الغَدِ، لا يسلم فيها المرء، مهما بلغ علمه وذكاؤه، من أن تصيبه صوارف الدنيا وطول الأمل وعثرات الخُطَا؛ إذا لم تنتظم تلك المفردات أمامه كلّ حين.
    ومضى البيان، وبقيت صورة تلك الأشكال، تُلهم المتأمل كلما أعاد فيها النظَر.
    وصرنا نسمع في هذا العصر حديثاً ملوّناً عن الخطوط: "الخطوط الحمراء"، و"تجاوز الخط"، و"البقاء" فيه أو دونه أو "النوم" فيه أحياناً!، متلازماً مع "البطاقة الخضراء"؛ حتى كأنّ الحياة أمران: خطوط وبطاقات. ويُفهم من "الخطوط الحمراء" أول الأمر أنها أشياء، كالتي حكم الله تعالى بها على السامريّ، بعد إضلاله بني إسرائيل، في غيبة موسى عليه السلام، أو التي جعلها النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات المهلكات، ولكن الذائقة اللغوية لا تفتأ تعيد النظر في هذا التركيب؛ لفهم نسبته وأصله، وتستقرئ الخطوط والتشكيلات والبطاقات والمناطق…، والألوان المتعلقة بها، والفروق اللغوية والثقافية والجوامع التي نشأت منها، ومن نعم الله أن نهتديَ إلى شيء من أجمل خطوط الدنيا والآخرة وبطاقاتهما، وهي التي استُفتِح بها القول.
    والناس في غرب الأرض يدركون معنى التشبيه من هذا التركيب؛ لأنه منتزع من واقعهم ومحيطهم، رائج في حياتهم اليومية بدلالات وأعماق، وهم مشاركون فاعلون في القانون الذي فرع ألوان الحياة إلى خُضرة وحُمرة وصُفرة؛ فعنده (بطاقة خضراء) يسرح بها ويمرح ويجتاز في داخل (المناطق الخضراء)، وعنده (خط أحمر) أو خطوط حمراء، لا يقربها مدى العمر، وإلا اقتيد اقتياد الشارد العقور، ولا تلازمَ لغويّاً بين كلمة (خط: Line) وكلمة (بطاقة: Card)، بقدر ما كان التلازم بين (الأحمر) و(الأخضر)، تلازماً لا يكون في كلّ صورة؛ لجواز أن يكون الأخضر فساداً والأحمر وروداً.
    ودلالة هذه الخطوط على المنع أو التوقّف أو الخطر أو الطرد أو الموت؛ بسبب لونها الأحمر، الذي يراه المارّ في الطريق، وعلى أبواب غرف العناية، ومكاتب المدراء المشغولين جدّاً… ولو كان التعبير بالإشارة الحمراء لكانت تلك الذائقة اللغوية ترتاح وتريح؛ لأن معها الإشارة الخضراء والصفراء، في صفّ واحد، وينضبط الباب على وتيرة واحدة، ويكون تشبيهاً بليغاً محذوف الأداة، والمعنى: أن دخول هذا الأمر ممنوع امتناع المرور أو الدخول..؛ لكن ذلك لم يكن.
    ولو كان ذلك راجعاً إلى القلم ذي الخط الأحمر، الذي يستعمله المعلم في التصحيح، لكان الأمر أيسر، ولكن ذلك القلم لا يجري بمداده إلا بعد كتابة التلميذ، ولا يخطر ببال التلميذ أنه يكتب لأن أمامه خطّاً أحمرَ؛ فالتحذير المفهوم من عبارة "الخطّ الأحمر"، فيكون سابقاً على المحظور، لا لاحقاً.
    وكذلك الأمر في الخط الأحمر الذي يظهره الحاسوب للكاتب، إذا كتب كلمة غير داخلة في قاموسه، حتى تضاف إليه أو تصحّح؛ فهو لاحق أيضاً.
    وكذا الأمر في أقلام لجان الرقابة الصّحافية والرقابة على نشر الكتب، والتي أظنها من ذوات اللون الأحمر، وليس بجامع التدريب.
    ورأيت أن من رسموا خرائط الدُّوَل المتبدّلة مع التاريخ جعلوا أحياناً الفواصل بين تلك البقاع ذات حبر أحمر، فإذا عدا بعضها على بعض كان ذلك خرقاً للقانون وموجباً للحرب، وجعلوا للقناصل والسفراء بطاقات خضراء (جوازات دبلوماسية)، يُحمَلون بها في البر والبحر.
    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني.
    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ". (1) عن عبد الله بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطّاً، ثم قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبُل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( الأنعام.(1)
    (2) وعنه أيضاً عن النبيء - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: خطّ النبيء - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربّعاً، وخطّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خُطُطاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجلُه محيط به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، وهذه الخُطُط الصغارُ الأعراضُ، فإن أخطأه هذا نهَشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".(2) *
    اعتاد المعلّمون أن يفسروا لتلاميذهم صورة غائبةً أو عسيرة على الأفهام بطرق متنوعة، منها هذا الذي كان النبيء الكريم - صلى الله عليه وسلم - يرسمه لأصحابه، على سبيل التعليم والشرح والبيان، وهو من أجلّ طرق التعليم، ومن أشرف وسائله.
    المستقيم والمثلث والمربع والدائرة أشكالٌ هندسيّة متنوعة، وهي من أقرب الإشارات إلى صورة الحياة؛ لأنها تخاطب العينَ قبل العقل، من الخطوط المتشكّلة حُروفاً؛ لأنها تخاطب الأذن والعقل بكلمات تشير إلى تصورات أو نِسَب ذهنية معهودة أو حاضرة. وقيل: "بالمثال يتضح المقال"، و"صورة أبلغ من ألف كلمة". والنبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يستغنِ تماماً عن المقال، فقد وظّفه توظيفاً شجيّاً بليغاً، ليجمعه بالمثال معاً؛ على عادته - صلى الله عليه وسلم - في استلهام جوامع الكلم والحكم. وذلك هدْي القرآن، يُوجّهُ أنظار الناس إلى مفردات الكَوْن، لينشئوا علاقات بينها، ويسخلصوا منها المعاني والعلوم، قال تعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم( و)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(.
    والأمثال القرآنية والنبويّة يتطلب فقهُها استجماعاً زائداً لقدرات العقل، قال تعالى: )وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(.
    هذا بيان تشكيلي، وصّل به النبيء هذا المعنى لمخاطَبيه، وهو كالمحاضرة المباشرة: (خَطّ..)، فكُلّ طرَف من أطراف العملية التعليمية: المعلّم والمتعلّم، والرسالة، ومقتضى الحال، حاضر حضوراً مقصوداً، ومشارك فيها مشاركة فاعلة. والمحاضرة: وهي الأسلوب العلمي الذي أقرته جامعات الدنيا، تقتضي المشاركة ابتداء من حضور الذهن، إلى استحضار المسائل والأمثلة والوسائل والاختبارات والمناقشات وهلم جرّاً، وهل نقول: المحاضرة لبنة من لبنات الحضارة؟. والحقّ ضرب هذا الشكل المنظور مثلاً هنا أكثر حضوراً وإيحاءً، وأنه أبلغ من محاضرة، فهو شرح طليق، لا يعرف قاعة ولا مختبراً ولا مركز بحوث ولا مراحل تعليمية!. لقد كان شربةً كوثريّة هنيئة، لا يظمأ السامع بعدها إلى مثلها.
    المعلم: النبيء - صلى الله عليه وسلم -، في بيته أو لعله كان على حصباء مسجده أو جانب منبره، أو جانب نخلة من سواريه،.
    والمتعلم: كثير حوله من الصحابة الذين فتحوا الدنيا، نكتفي منهم بثلاثة: الأول: عبد الله بن مسعود t، رجل غريب من هُذَيْل، رُوَيْعي أغنام، ضعيفُ البنية؛ لا يقوى على الصيام، لكنه وعاءٌ مُلِئ علماً، ومن أوائل الناس إسلاماً، وقد نُقل عنه الحديث بروايات مختلفة الألفاظ والمعاني والمواقف؛ لكثرة ما سمعه، ففقِهه، ولكثرة ما علّمه لأصحابه الكوفيين. والثاني: جابر بن عبدالله t، فقيرٌ عالم، ابن مجاهد شهيدٍ، ووصيّه على أخواته الضعيفات، وروى الحديث أيضاً، والثالث: أنس بن مالك t خادم النبيء، صحابيّ صغير، لكنه كان محط نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأدرك ما أدركه الصحابي الكبير، بالحضور الفطريّ.
    وقد امتزج المعلم والمتعلم امتزاجاً (علميّاً) تاماً، كالسكَّر بالماء والأنفاس بالهواء؛ لأن المعاني المستوحاة متواصلة بينهما تواصلاً تامّاً.
    والرسالة النبوية هنا: خطاب تمثيليّ بديع، يجعل الخطوط تشير إلى أشكال، والأشكال تختزن معاني واسعة شاملة عميقة، وقد تتجلى تلك المعاني في أشكال مختلفة، فسرها النبيء هنا بخمس مفردات، قد يصعب على المرء أن يستجمع النظر إليها في صورة واحدة بغير هذه الطريقة: [1] (السبيل): الصراط المستقيم: الإيمان والعمل الصالح. [ومعنى هذه المفردة مستوحًى من تمثيل الحديث رقم (1)]. و[2] (الإنسان): الفقير والضعيف والخادم أولاً، الذي إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لا يُؤبَهُ له؛ لأنه سبب النصر والرزق، الإنسان في كيانه بطموحاته وأشواقه. و[3] (الأعراض): السبُل: غوائل الطريق وآفات المستقبل ومتاهات الرحلة. و[4] (الأجل): العُمْر، المعلوم منذ أول نفخة روح إلى آخر زفرة نفس، و[5] (الأمل): المنتظر من المستقبل والطموح، وما كل مأمول مُدْرَك، وما أضيق العيش بلا فسحته!. [المفردات من [2] إلى [5] من تمثيلات الحديث رقم (2)].
    إنها خطوط تشكّل الطريق القويم إلى الله بكلّ أبعاده؛ الحلال والحرام، الداخل والخارج، الشرع والقدر، الحقيقة والأباطيل، الممكن والمستحيل. فإذا عرف الإنسان ما له وما عليه، وإذا عرف مجاله طار على متن فرسه، إذا سمع هَيْعة (نداءً)، ولحق بالغاية، دون ما التفات إلى بُنَيّات الطريق.
    وأما السبب الداعي إلى هذا البيان: فهو الحيرة التي تكتنف الإنسان في حياته، والأسئلة اليومية التي تأتي مع طلعة كلّ شمس، فتُورثه الهموم والأحزان. ولا أحسب هؤلاء الصحب الكرام كانوا حَيارى أو حزانى، بالمعنى المتبادر إلى عقلية عصرنا، أو خلت أذهانهم من هذه المفردات، ولكنّها الرحلةُ إلى الغَدِ، لا يسلم فيها المرء، مهما بلغ علمه وذكاؤه، من أن تصيبه صوارف الدنيا وطول الأمل وعثرات الخُطَا؛ إذا لم تنتظم تلك المفردات أمامه كلّ حين.
    ومضى البيان، وبقيت صورة تلك الأشكال، تُلهم المتأمل كلما أعاد فيها النظَر.
    وصرنا نسمع في هذا العصر حديثاً ملوّناً عن الخطوط: "الخطوط الحمراء"، و"تجاوز الخط"، و"البقاء" فيه أو دونه أو "النوم" فيه أحياناً!، متلازماً مع "البطاقة الخضراء"؛ حتى كأنّ الحياة أمران: خطوط وبطاقات. ويُفهم من "الخطوط الحمراء" أول الأمر أنها أشياء، كالتي حكم الله تعالى بها على السامريّ، بعد إضلاله بني إسرائيل، في غيبة موسى عليه السلام، أو التي جعلها النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات المهلكات، ولكن الذائقة اللغوية لا تفتأ تعيد النظر في هذا التركيب؛ لفهم نسبته وأصله، وتستقرئ الخطوط والتشكيلات والبطاقات والمناطق…، والألوان المتعلقة بها، والفروق اللغوية والثقافية والجوامع التي نشأت منها، ومن نعم الله أن نهتديَ إلى شيء من أجمل خطوط الدنيا والآخرة وبطاقاتهما، وهي التي استُفتِح بها القول.
    والناس في غرب الأرض يدركون معنى التشبيه من هذا التركيب؛ لأنه منتزع من واقعهم ومحيطهم، رائج في حياتهم اليومية بدلالات وأعماق، وهم مشاركون فاعلون في القانون الذي فرع ألوان الحياة إلى خُضرة وحُمرة وصُفرة؛ فعنده (بطاقة خضراء) يسرح بها ويمرح ويجتاز في داخل (المناطق الخضراء)، وعنده (خط أحمر) أو خطوط حمراء، لا يقربها مدى العمر، وإلا اقتيد اقتياد الشارد العقور، ولا تلازمَ لغويّاً بين كلمة (خط: Line) وكلمة (بطاقة: Card)، بقدر ما كان التلازم بين (الأحمر) و(الأخضر)، تلازماً لا يكون في كلّ صورة؛ لجواز أن يكون الأخضر فساداً والأحمر وروداً.
    ودلالة هذه الخطوط على المنع أو التوقّف أو الخطر أو الطرد أو الموت؛ بسبب لونها الأحمر، الذي يراه المارّ في الطريق، وعلى أبواب غرف العناية، ومكاتب المدراء المشغولين جدّاً… ولو كان التعبير بالإشارة الحمراء لكانت تلك الذائقة اللغوية ترتاح وتريح؛ لأن معها الإشارة الخضراء والصفراء، في صفّ واحد، وينضبط الباب على وتيرة واحدة، ويكون تشبيهاً بليغاً محذوف الأداة، والمعنى: أن دخول هذا الأمر ممنوع امتناع المرور أو الدخول..؛ لكن ذلك لم يكن.
    ولو كان ذلك راجعاً إلى القلم ذي الخط الأحمر، الذي يستعمله المعلم في التصحيح، لكان الأمر أيسر، ولكن ذلك القلم لا يجري بمداده إلا بعد كتابة التلميذ، ولا يخطر ببال التلميذ أنه يكتب لأن أمامه خطّاً أحمرَ؛ فالتحذير المفهوم من عبارة "الخطّ الأحمر"، فيكون سابقاً على المحظور، لا لاحقاً.
    وكذلك الأمر في الخط الأحمر الذي يظهره الحاسوب للكاتب، إذا كتب كلمة غير داخلة في قاموسه، حتى تضاف إليه أو تصحّح؛ فهو لاحق أيضاً.
    وكذا الأمر في أقلام لجان الرقابة الصّحافية والرقابة على نشر الكتب، والتي أظنها من ذوات اللون الأحمر، وليس بجامع التدريب.
    ورأيت أن من رسموا خرائط الدُّوَل المتبدّلة مع التاريخ جعلوا أحياناً الفواصل بين تلك البقاع ذات حبر أحمر، فإذا عدا بعضها على بعض كان ذلك خرقاً للقانون وموجباً للحرب، وجعلوا للقناصل والسفراء بطاقات خضراء (جوازات دبلوماسية)، يُحمَلون بها في البر والبحر.
    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني.
    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ". (1) عن عبد الله بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطّاً، ثم قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبُل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( الأنعام.(1)

    (2) وعنه أيضاً عن النبيء - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: خطّ النبيء - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربّعاً، وخطّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خُطُطاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجلُه محيط به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، وهذه الخُطُط الصغارُ الأعراضُ، فإن أخطأه هذا نهَشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".(2) *
    اعتاد المعلّمون أن يفسروا لتلاميذهم صورة غائبةً أو عسيرة على الأفهام بطرق متنوعة، منها هذا الذي كان النبيء الكريم - صلى الله عليه وسلم - يرسمه لأصحابه، على سبيل التعليم والشرح والبيان، وهو من أجلّ طرق التعليم، ومن أشرف وسائله.
    المستقيم والمثلث والمربع والدائرة أشكالٌ هندسيّة متنوعة، وهي من أقرب الإشارات إلى صورة الحياة؛ لأنها تخاطب العينَ قبل العقل، من الخطوط المتشكّلة حُروفاً؛ لأنها تخاطب الأذن والعقل بكلمات تشير إلى تصورات أو نِسَب ذهنية معهودة أو حاضرة. وقيل: "بالمثال يتضح المقال"، و"صورة أبلغ من ألف كلمة". والنبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يستغنِ تماماً عن المقال، فقد وظّفه توظيفاً شجيّاً بليغاً، ليجمعه بالمثال معاً؛ على عادته - صلى الله عليه وسلم - في استلهام جوامع الكلم والحكم. وذلك هدْي القرآن، يُوجّهُ أنظار الناس إلى مفردات الكَوْن، لينشئوا علاقات بينها، ويسخلصوا منها المعاني والعلوم، قال تعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم( و)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(.
    والأمثال القرآنية والنبويّة يتطلب فقهُها استجماعاً زائداً لقدرات العقل، قال تعالى: )وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(.
    هذا بيان تشكيلي، وصّل به النبيء هذا المعنى لمخاطَبيه، وهو كالمحاضرة المباشرة: (خَطّ..)، فكُلّ طرَف من أطراف العملية التعليمية: المعلّم والمتعلّم، والرسالة، ومقتضى الحال، حاضر حضوراً مقصوداً، ومشارك فيها مشاركة فاعلة. والمحاضرة: وهي الأسلوب العلمي الذي أقرته جامعات الدنيا، تقتضي المشاركة ابتداء من حضور الذهن، إلى استحضار المسائل والأمثلة والوسائل والاختبارات والمناقشات وهلم جرّاً، وهل نقول: المحاضرة لبنة من لبنات الحضارة؟. والحقّ ضرب هذا الشكل المنظور مثلاً هنا أكثر حضوراً وإيحاءً، وأنه أبلغ من محاضرة، فهو شرح طليق، لا يعرف قاعة ولا مختبراً ولا مركز بحوث ولا مراحل تعليمية!. لقد كان شربةً كوثريّة هنيئة، لا يظمأ السامع بعدها إلى مثلها.
    المعلم: النبيء - صلى الله عليه وسلم -، في بيته أو لعله كان على حصباء مسجده أو جانب منبره، أو جانب نخلة من سواريه،.
    والمتعلم: كثير حوله من الصحابة الذين فتحوا الدنيا، نكتفي منهم بثلاثة: الأول: عبد الله بن مسعود t، رجل غريب من هُذَيْل، رُوَيْعي أغنام، ضعيفُ البنية؛ لا يقوى على الصيام، لكنه وعاءٌ مُلِئ علماً، ومن أوائل الناس إسلاماً، وقد نُقل عنه الحديث بروايات مختلفة الألفاظ والمعاني والمواقف؛ لكثرة ما سمعه، ففقِهه، ولكثرة ما علّمه لأصحابه الكوفيين. والثاني: جابر بن عبدالله t، فقيرٌ عالم، ابن مجاهد شهيدٍ، ووصيّه على أخواته الضعيفات، وروى الحديث أيضاً، والثالث: أنس بن مالك t خادم النبيء، صحابيّ صغير، لكنه كان محط نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأدرك ما أدركه الصحابي الكبير، بالحضور الفطريّ. يتبع

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    المشاركات
    13

    افتراضي رد: من لغة الخطوط للشيخ عصام المجريسي

    وقد امتزج المعلم والمتعلم امتزاجاً (علميّاً) تاماً، كالسكَّر بالماء والأنفاس بالهواء؛ لأن المعاني المستوحاة متواصلة بينهما تواصلاً تامّاً.
    والرسالة النبوية هنا: خطاب تمثيليّ بديع، يجعل الخطوط تشير إلى أشكال، والأشكال تختزن معاني واسعة شاملة عميقة، وقد تتجلى تلك المعاني في أشكال مختلفة، فسرها النبيء هنا بخمس مفردات، قد يصعب على المرء أن يستجمع النظر إليها في صورة واحدة بغير هذه الطريقة: [1] (السبيل): الصراط المستقيم: الإيمان والعمل الصالح. [ومعنى هذه المفردة مستوحًى من تمثيل الحديث رقم (1)]. و[2] (الإنسان): الفقير والضعيف والخادم أولاً، الذي إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لا يُؤبَهُ له؛ لأنه سبب النصر والرزق، الإنسان في كيانه بطموحاته وأشواقه. و[3] (الأعراض): السبُل: غوائل الطريق وآفات المستقبل ومتاهات الرحلة. و[4] (الأجل): العُمْر، المعلوم منذ أول نفخة روح إلى آخر زفرة نفس، و[5] (الأمل): المنتظر من المستقبل والطموح، وما كل مأمول مُدْرَك، وما أضيق العيش بلا فسحته!. [المفردات من [2] إلى [5] من تمثيلات الحديث رقم (2)].
    إنها خطوط تشكّل الطريق القويم إلى الله بكلّ أبعاده؛ الحلال والحرام، الداخل والخارج، الشرع والقدر، الحقيقة والأباطيل، الممكن والمستحيل. فإذا عرف الإنسان ما له وما عليه، وإذا عرف مجاله طار على متن فرسه، إذا سمع هَيْعة (نداءً)، ولحق بالغاية، دون ما التفات إلى بُنَيّات الطريق.
    وأما السبب الداعي إلى هذا البيان: فهو الحيرة التي تكتنف الإنسان في حياته، والأسئلة اليومية التي تأتي مع طلعة كلّ شمس، فتُورثه الهموم والأحزان. ولا أحسب هؤلاء الصحب الكرام كانوا حَيارى أو حزانى، بالمعنى المتبادر إلى عقلية عصرنا، أو خلت أذهانهم من هذه المفردات، ولكنّها الرحلةُ إلى الغَدِ، لا يسلم فيها المرء، مهما بلغ علمه وذكاؤه، من أن تصيبه صوارف الدنيا وطول الأمل وعثرات الخُطَا؛ إذا لم تنتظم تلك المفردات أمامه كلّ حين.
    ومضى البيان، وبقيت صورة تلك الأشكال، تُلهم المتأمل كلما أعاد فيها النظَر.
    وصرنا نسمع في هذا العصر حديثاً ملوّناً عن الخطوط: "الخطوط الحمراء"، و"تجاوز الخط"، و"البقاء" فيه أو دونه أو "النوم" فيه أحياناً!، متلازماً مع "البطاقة الخضراء"؛ حتى كأنّ الحياة أمران: خطوط وبطاقات. ويُفهم من "الخطوط الحمراء" أول الأمر أنها أشياء، كالتي حكم الله تعالى بها على السامريّ، بعد إضلاله بني إسرائيل، في غيبة موسى عليه السلام، أو التي جعلها النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات المهلكات، ولكن الذائقة اللغوية لا تفتأ تعيد النظر في هذا التركيب؛ لفهم نسبته وأصله، وتستقرئ الخطوط والتشكيلات والبطاقات والمناطق…، والألوان المتعلقة بها، والفروق اللغوية والثقافية والجوامع التي نشأت منها، ومن نعم الله أن نهتديَ إلى شيء من أجمل خطوط الدنيا والآخرة وبطاقاتهما، وهي التي استُفتِح بها القول.
    والناس في غرب الأرض يدركون معنى التشبيه من هذا التركيب؛ لأنه منتزع من واقعهم ومحيطهم، رائج في حياتهم اليومية بدلالات وأعماق، وهم مشاركون فاعلون في القانون الذي فرع ألوان الحياة إلى خُضرة وحُمرة وصُفرة؛ فعنده (بطاقة خضراء) يسرح بها ويمرح ويجتاز في داخل (المناطق الخضراء)، وعنده (خط أحمر) أو خطوط حمراء، لا يقربها مدى العمر، وإلا اقتيد اقتياد الشارد العقور، ولا تلازمَ لغويّاً بين كلمة (خط: Line) وكلمة (بطاقة: Card)، بقدر ما كان التلازم بين (الأحمر) و(الأخضر)، تلازماً لا يكون في كلّ صورة؛ لجواز أن يكون الأخضر فساداً والأحمر وروداً.
    ودلالة هذه الخطوط على المنع أو التوقّف أو الخطر أو الطرد أو الموت؛ بسبب لونها الأحمر، الذي يراه المارّ في الطريق، وعلى أبواب غرف العناية، ومكاتب المدراء المشغولين جدّاً… ولو كان التعبير بالإشارة الحمراء لكانت تلك الذائقة اللغوية ترتاح وتريح؛ لأن معها الإشارة الخضراء والصفراء، في صفّ واحد، وينضبط الباب على وتيرة واحدة، ويكون تشبيهاً بليغاً محذوف الأداة، والمعنى: أن دخول هذا الأمر ممنوع امتناع المرور أو الدخول..؛ لكن ذلك لم يكن.
    ولو كان ذلك راجعاً إلى القلم ذي الخط الأحمر، الذي يستعمله المعلم في التصحيح، لكان الأمر أيسر، ولكن ذلك القلم لا يجري بمداده إلا بعد كتابة التلميذ، ولا يخطر ببال التلميذ أنه يكتب لأن أمامه خطّاً أحمرَ؛ فالتحذير المفهوم من عبارة "الخطّ الأحمر"، فيكون سابقاً على المحظور، لا لاحقاً.
    وكذلك الأمر في الخط الأحمر الذي يظهره الحاسوب للكاتب، إذا كتب كلمة غير داخلة في قاموسه، حتى تضاف إليه أو تصحّح؛ فهو لاحق أيضاً.
    وكذا الأمر في أقلام لجان الرقابة الصّحافية والرقابة على نشر الكتب، والتي أظنها من ذوات اللون الأحمر، وليس بجامع التدريب.
    ورأيت أن من رسموا خرائط الدُّوَل المتبدّلة مع التاريخ جعلوا أحياناً الفواصل بين تلك البقاع ذات حبر أحمر، فإذا عدا بعضها على بعض كان ذلك خرقاً للقانون وموجباً للحرب، وجعلوا للقناصل والسفراء بطاقات خضراء (جوازات دبلوماسية)، يُحمَلون بها في البر والبحر.
    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني.
    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ".

    وقد امتزج المعلم والمتعلم امتزاجاً (علميّاً) تاماً، كالسكَّر بالماء والأنفاس بالهواء؛ لأن المعاني المستوحاة متواصلة بينهما تواصلاً تامّاً.
    والرسالة النبوية هنا: خطاب تمثيليّ بديع، يجعل الخطوط تشير إلى أشكال، والأشكال تختزن معاني واسعة شاملة عميقة، وقد تتجلى تلك المعاني في أشكال مختلفة، فسرها النبيء هنا بخمس مفردات، قد يصعب على المرء أن يستجمع النظر إليها في صورة واحدة بغير هذه الطريقة: [1] (السبيل): الصراط المستقيم: الإيمان والعمل الصالح. [ومعنى هذه المفردة مستوحًى من تمثيل الحديث رقم (1)]. و[2] (الإنسان): الفقير والضعيف والخادم أولاً، الذي إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لا يُؤبَهُ له؛ لأنه سبب النصر والرزق، الإنسان في كيانه بطموحاته وأشواقه. و[3] (الأعراض): السبُل: غوائل الطريق وآفات المستقبل ومتاهات الرحلة. و[4] (الأجل): العُمْر، المعلوم منذ أول نفخة روح إلى آخر زفرة نفس، و[5] (الأمل): المنتظر من المستقبل والطموح، وما كل مأمول مُدْرَك، وما أضيق العيش بلا فسحته!. [المفردات من [2] إلى [5] من تمثيلات الحديث رقم (2)].
    إنها خطوط تشكّل الطريق القويم إلى الله بكلّ أبعاده؛ الحلال والحرام، الداخل والخارج، الشرع والقدر، الحقيقة والأباطيل، الممكن والمستحيل. فإذا عرف الإنسان ما له وما عليه، وإذا عرف مجاله طار على متن فرسه، إذا سمع هَيْعة (نداءً)، ولحق بالغاية، دون ما التفات إلى بُنَيّات الطريق.
    وأما السبب الداعي إلى هذا البيان: فهو الحيرة التي تكتنف الإنسان في حياته، والأسئلة اليومية التي تأتي مع طلعة كلّ شمس، فتُورثه الهموم والأحزان. ولا أحسب هؤلاء الصحب الكرام كانوا حَيارى أو حزانى، بالمعنى المتبادر إلى عقلية عصرنا، أو خلت أذهانهم من هذه المفردات، ولكنّها الرحلةُ إلى الغَدِ، لا يسلم فيها المرء، مهما بلغ علمه وذكاؤه، من أن تصيبه صوارف الدنيا وطول الأمل وعثرات الخُطَا؛ إذا لم تنتظم تلك المفردات أمامه كلّ حين.
    ومضى البيان، وبقيت صورة تلك الأشكال، تُلهم المتأمل كلما أعاد فيها النظَر.
    وصرنا نسمع في هذا العصر حديثاً ملوّناً عن الخطوط: "الخطوط الحمراء"، و"تجاوز الخط"، و"البقاء" فيه أو دونه أو "النوم" فيه أحياناً!، متلازماً مع "البطاقة الخضراء"؛ حتى كأنّ الحياة أمران: خطوط وبطاقات. ويُفهم من "الخطوط الحمراء" أول الأمر أنها أشياء، كالتي حكم الله تعالى بها على السامريّ، بعد إضلاله بني إسرائيل، في غيبة موسى عليه السلام، أو التي جعلها النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات المهلكات، ولكن الذائقة اللغوية لا تفتأ تعيد النظر في هذا التركيب؛ لفهم نسبته وأصله، وتستقرئ الخطوط والتشكيلات والبطاقات والمناطق…، والألوان المتعلقة بها، والفروق اللغوية والثقافية والجوامع التي نشأت منها، ومن نعم الله أن نهتديَ إلى شيء من أجمل خطوط الدنيا والآخرة وبطاقاتهما، وهي التي استُفتِح بها القول.
    والناس في غرب الأرض يدركون معنى التشبيه من هذا التركيب؛ لأنه منتزع من واقعهم ومحيطهم، رائج في حياتهم اليومية بدلالات وأعماق، وهم مشاركون فاعلون في القانون الذي فرع ألوان الحياة إلى خُضرة وحُمرة وصُفرة؛ فعنده (بطاقة خضراء) يسرح بها ويمرح ويجتاز في داخل (المناطق الخضراء)، وعنده (خط أحمر) أو خطوط حمراء، لا يقربها مدى العمر، وإلا اقتيد اقتياد الشارد العقور، ولا تلازمَ لغويّاً بين كلمة (خط: Line) وكلمة (بطاقة: Card)، بقدر ما كان التلازم بين (الأحمر) و(الأخضر)، تلازماً لا يكون في كلّ صورة؛ لجواز أن يكون الأخضر فساداً والأحمر وروداً.
    ودلالة هذه الخطوط على المنع أو التوقّف أو الخطر أو الطرد أو الموت؛ بسبب لونها الأحمر، الذي يراه المارّ في الطريق، وعلى أبواب غرف العناية، ومكاتب المدراء المشغولين جدّاً… ولو كان التعبير بالإشارة الحمراء لكانت تلك الذائقة اللغوية ترتاح وتريح؛ لأن معها الإشارة الخضراء والصفراء، في صفّ واحد، وينضبط الباب على وتيرة واحدة، ويكون تشبيهاً بليغاً محذوف الأداة، والمعنى: أن دخول هذا الأمر ممنوع امتناع المرور أو الدخول..؛ لكن ذلك لم يكن.
    ولو كان ذلك راجعاً إلى القلم ذي الخط الأحمر، الذي يستعمله المعلم في التصحيح، لكان الأمر أيسر، ولكن ذلك القلم لا يجري بمداده إلا بعد كتابة التلميذ، ولا يخطر ببال التلميذ أنه يكتب لأن أمامه خطّاً أحمرَ؛ فالتحذير المفهوم من عبارة "الخطّ الأحمر"، فيكون سابقاً على المحظور، لا لاحقاً.
    وكذلك الأمر في الخط الأحمر الذي يظهره الحاسوب للكاتب، إذا كتب كلمة غير داخلة في قاموسه، حتى تضاف إليه أو تصحّح؛ فهو لاحق أيضاً.
    وكذا الأمر في أقلام لجان الرقابة الصّحافية والرقابة على نشر الكتب، والتي أظنها من ذوات اللون الأحمر، وليس بجامع التدريب.
    ورأيت أن من رسموا خرائط الدُّوَل المتبدّلة مع التاريخ جعلوا أحياناً الفواصل بين تلك البقاع ذات حبر أحمر، فإذا عدا بعضها على بعض كان ذلك خرقاً للقانون وموجباً للحرب، وجعلوا للقناصل والسفراء بطاقات خضراء (جوازات دبلوماسية)، يُحمَلون بها في البر والبحر. يتبع

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    المشاركات
    13

    افتراضي رد: من لغة الخطوط للشيخ عصام المجريسي

    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني.
    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ".

    ورحم الله الشاعر أحمد شوقي، فقد جعل، في يناير سنة 1926م، لـ"الحرية الحمراء"، باباً يجب أن لا يوقف دونه، بل تُهراق أمامه الدماء، حتى يُفتح. (ديوان شوقي؛ نكبة دمشق 1/ 348، وفي رثاء عمر المختار 2/344). ويقتضي مفهوم المخالفة أن يُباح التمتع ببقية الألوان: الزرقاء والكَحْلاء والخضراء والبيضاء (المصحّح)، وذوات الألوان الفسفورية الشفيفة، وتأييد الأقلام ببطاقات ملوّنة بألوانها، ولأنّ الأصل في الألوان الإباحة. فكم نحن بحاجة– في حياتنا- إلى فهم هذه الألوان!.
    غير أن المريب في أمر الخطوط الحمراء والخضراء أن المعارف المستجلبة بتلك المفردات النبوية: الإنسان والسبيل والأعراض والأجل والأمل، المرسومة أمثلتها بعود من أراك، المحفورة على تراب الأرض، المتجردة عن الألوان، قد غاب أكثرها عن حياتنا المعاصرة، وما بقي منها إلا الأعراض الملهية والآمال الكاذبة. وكم نحن وإياهم بحاجة إلى فهم تلك المعاني. يتبع

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    المشاركات
    13

    افتراضي رد: من لغة الخطوط للشيخ عصام المجريسي

    * الخط: الرسم والشكل، والمربّع: المستوي الزوايا. والعرَض: ما يُنتفَع به في الدنيا في الخير وفي الشرّ. ونهشه: أصابه؛ وعبر بالنهش، وهو لدغ ذات السمّ، مبالغة في الإصابة والإهلاك". قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل".
    (1) مخرج في سنن ابن ماجه؛ باب اتباع السنة، وسنن الدارمي؛ باب تغيّر الزمان وما يحدث فيه، ومسند أحمد (مسند عبدالله بن مسعود ومسند جابر بن عبدالله)، وصحيح ابن حبان؛ باب الاعتصام بالسنة، ومستدرك الحاكم؛ كتاب التفسير. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
    (2) مخرج في صحيح البخاري؛ كتاب الرقاق، وسنن ابن ماجة؛ كتاب الزهد، وسنن الدارمي؛ كتاب الرقاق؛ باب الأمل والأجل. وفي رواية ابن ماجة: [فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: "الله ورسولُه أعلم". قال: "هذا الإنسانُ.."]. وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "خطّ النبيءُ - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً، فقال: "هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطُّ الأقربُ". انتهى

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •