بسم الله الرحمن الرحيم ،
بعد أن حررنا مسألة "تكفير المشركين" ، وبيّنا أنها من لوازم أصل الدين .. والحمد لله .. إذ لا دليل على كونها من الأصل .. نأتي الآن إلى ذكر المقابل لهذه المسألة وهو : "أسلمة الموحدين" .
الجواب : إن أسلمة الموحدين من لوازم أصل الدين ، وليست من أركانه .. وهذه للعلل السابقة التي ذكرتها ، والتي منها :
1- المعنى اللغوي لكلمة التوحيد لا يتضمن هذا المعنى .
2- لم يصرّح النبي - صلى الله عليه وسلم - لأيّ من الداخلين في الإسلام بوجوب الإقرار على أسلمة الموحدين .. كما ألزمهم بوجوب الإقرار على توحيد الله - عز وجل - وعلى رسالة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. فدلّ ذلك على أن الأصل هو الشهادتين .. وأن اللوازم هي ما ترتب عليهما .
لماذا التفريق بين اللازم والأصل ؟؟ .. وما الفرق بينهما في الحكم الشرعي ؟
اللازم هو ما ترتب على الأصل وليس داخلاً فيه .. والتفريق بينهما مهم جداً ..
فأما اللازم : فيكفي أصله حتى يصحّ ما بُني عليه .. وعلى ذلك ، فقد يُخالف المرء فيه بجزئيات ، قلّت أو كثرت .. مع بقاء الأصل .. فلا ينفي ذلك مبناه .. وقد يُعذر صاحبه بالجهل أو التأويل أو قد يفعله وهو مصر ، آثم ، عاص لله ولرسوله .
وأما الأصل : فهو ما لا يصح المخالفة فيه بحال .. بل إن الخلاف الجزئي فيه هادم له ..
وقد ذكرت مثالاً في ذلك .. وقلت :
إن من معاني وأركان التوحيد المحبة .. فمن لا يحب الله تعالى فهذا كافر .
وقد جعل الله تعالى دليل محبته متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. فقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (*) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } .
فجعل الله - تعالى - الأصل هو : المحبة .. وجعل متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته من لوازمها ومتقضياتها ..
فمن خالف في جزئية من جزئيات المحبة ، فقد كفر من فوره وخرج من الدين .. كمن قام في قلبه شيء من البغض لله تعالى (والعياذ بالله ) .
ولكن من خالف في جزئية من المتابعة ، فهذا لا يكفر إن كان أصل المتابعة متحققاً عنده .. وسواء أكانت هذه المخالفة ظاهرة (كأصحاب المعاصي) .. أم باطنة (كحال أهل البدع) .
ومتى انتفى أصل اللازم (وهو المتابعة هنا) فقد انتفت محبة الله تعالى .. لأن ما كان لازمه باطلاً ، كان باطلاً في نفسه ..
فهذا ما يفيدنا معرفته من كون المسألة من أصل الدين أم من لوازمه ..
فعليه نقول .. إن أسلمة الموحدين من لوازم أصل الدين .. وهو من أصول الدين العظيمة التي لم ينازع فيها أحد ..
وقد بيّنت أدلة هذا الأصل في غير هذا الموضع ..
ولذلك ، فإن العلماء لم يروا أن الخوارج خالفوا في أصل الدين .. وهذا ما ولّد عندهم الخلاف في تكفيرهم ، مع أن الجمهور على القول بإسلامهم ..
قال ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – في [فتح الباري : 12/300]:
[-- وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق ، وأن حكم الإسلام يجري عليهم ؛ لتلفظهم بالشهادتين ، ومواظبتهم على أركان الإسلام ، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين ، مستندين إلى تأويل فاسد ، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر والشرك .
وقال الخطابي : أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج - مع ضلالتهم - فرقة من فرق المسلمين ، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم ، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام --]
وقال ابن تيمية - رحمه الله - في [مجموع الفتاوى : 28/518]:
[-- فَكَلَامُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الْخَوَارِجِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا كَالْمُرْتَدِّي نَ عَنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ، وَلَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين ، بَلْ هُمْ نَوْعٌ ثَالِثٌ --]
ويجدر التنويه هنا إلى أن العلماء الذين كفّروا الخوارج ، إنما فعلوا ذلك بعلة أن الخوارج خالفوا النصوص الصريحة في القرآن بعدالة الصحابة ونزاهتهم ، بل وقد وردت النصوص الصريحة بإيمان أعيانهم وإيجاب الجنة لهم .. وليس لأنهم نقضوا أصل الدين في نفس الأمر .
-----------------------
فيقال حينها لهؤلاء الذين كفروا من امتنعوا عن تكفير بعض أعيان المشركين لكونهم يرون الجهل عذراً (بغض النظر عن تصوراتهم) .. لماذا لا تكفّرون من زاد في شروط الإيمان فكفّر المسلمين على مقتضاه ؟
فهذا أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - كفّر ذلك الرجل الذي نطق بالشهادة ، وقد زاد شرطاً في قبول إيمانه أن يقولها وهو مطمئن النفس آمناً .. فإن قالها خوفاً لم يصح إيمانه .. فلماذا لا يكفره هؤلاء بحسب منطقهم لأنه زاد شرطاً في الإيمان ما أنزل الله به من سلطان ؟
لماذا لم يكفّر ابن عمر - رضي الله عنه - نجدة الحروري ، الغالي في التكفير ، الذي يكفر المسلمين من غير وجه حق .. بل صلى خلفه واعتد بإمامته في الصلاة ؟
لماذا لم يكفّر الإمام أحمد من كفّره من أهل البدع الذين جعلوا مسألة خلق القرآن من أصل الدين ، ومن لم يأت بها فهو كافر .
لماذا لم يكفّر الشيخ ابن تيمية من كفّره من الأشاعرة ومعطلة الصفات الذين كفّروه بالباطل والبهتان ..
والقائمة تطول ..
هذا مع التشديد على مسألة هامّة في هذا الباب .. وهي :
أن تكفير المنتسب للإسلام وإخراجه من الدين ، أعظم عند الله من إبقاء حكم الإسلام على كافر منتسب إليه .
ولذلك وردت الأحاديث الكثيرة في الزجر والتغليظ في تكفير المسلمين .. ولم يرد حديث واحد بمثل هذه الأحاديث في الامتناع عن تكفير الكافرين .. وإنما كان هذا الحكم استباط شرعي محض ..
هذا ، والله أعلم .