هذا البحث منقول من الموسوعة الكويتية .
صَوْمٌ
التَّعْرِيفُ :
1 - الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ : الإِْمْسَاكُ مُطْلَقًا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلاَمِ وَالنِّكَاحِ وَالسَّيْرِ . قَال تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ - : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } (1) .
وَالصَّوْمُ : مَصْدَرُ صَامَ يَصُومُ صَوْمًا وَصِيَامًا (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : هُوَ الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الإِْمْسَاكُ :
2 - الإِْمْسَاكُ لُغَةً : هُوَ حَبْسُ الشَّيْءِ وَالاِعْتِصَامُ بِهِ ، وَأَخْذُهُ وَقَبْضُهُ ، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْكَلاَمِ هُوَ : السُّكُوتُ ، وَالإِْمْسَاكُ : الْبُخْل . وقَوْله تَعَالَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } (4)
أَمْرٌ بِحَبْسِهِنَّ وَهُوَ بِذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الصَّوْمِ .
ب - الْكَفُّ :
3 - الْكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ لُغَةً : تَرْكُهُ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْمُتَعَلِّقُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَانَ مُسَاوِيًا لِلصَّوْمِ .
ج - الصَّمْتُ :
4 - الصَّمْتُ وَكَذَا السُّكُوتُ لُغَةً : الإِْمْسَاكُ عَنِ النُّطْقِ
، وَهُمَا أَخَصُّ مِنَ الصَّوْمِ لُغَةً ، لاَ شَرْعًا ، لأَِنَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ تَبَايُنًا .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
5 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرْضٌ . وَالدَّلِيل عَلَى الْفَرْضِيَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ .
أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1) وَقَوْلُهُ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } : أَيْ فُرِضَ .
وقَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) .
كَمَا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، لاَ يَجْحَدُهَا إِلاَّ كَافِرٌ (2) .
فَضْل الصَّوْمِ :
6 - وَرَدَتْ فِي فَضْل الصَّوْمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي :
أ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال : مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (3) .
ب - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَال : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ رَمَضَانَ ، يَقُول : قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَل فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (4) .
ج - وَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا ، يُقَال لَهُ : الرَّيَّانُ ، يَدْخُل مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، يُقَال : أَيْنَ الصَّائِمُونَ ؟ فَيَقُومُونَ ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ ، فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ (1) .
د - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْل أَنْ يُغْفَرَ لَهُ (2) .
حِكْمَةُ الصَّوْمِ :
7 - تَتَجَلَّى حِكْمَةُ الصَّوْمِ فِيمَا يَلِي :
أ - أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ ، إِذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ، وَإِنَّهَا مِنْ أَجَل النِّعَمِ وَأَعْلاَهَا ، وَالاِمْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا ، إِذِ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ ، فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلاً وَشَرْعًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (1)
ب - أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّقْوَى ، لأَِنَّهُ إِذَا انْقَادَتْ نَفْسٌ لِلاِمْتِنَاعِ عَنِ الْحَلاَل طَمَعًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلاِمْتِنَاعِ عَنِ الْحَرَامِ ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لاِتِّقَاءِ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّهُ فَرْضٌ ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتِ الإِْشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (2)
ج - أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ ، لأَِنَّ النَّفْسَ إِذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتِ الشَّهَوَاتِ ، وَإِذَا جَاعَتِ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى ، وَلِذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ (3) فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إِلَى الاِمْتِنَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي (4)
د - أَنَّ الصَّوْمَ مُوجِبٌ لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ ، ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي جَمِيعِ
الأَْوْقَاتِ ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ ، وَالرَّحْمَةُ بِهِ ، بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِ ، فَيَنَال بِذَلِكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ
هـ - فِي الصَّوْمِ مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ ، بِتَحَمُّل مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا ، وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
و - فِي الصَّوْمِ قَهْرٌ لِلشَّيْطَانِ ، فَإِنَّ وَسِيلَتَهُ إِلَى الإِْضْلاَل وَالإِْغْوَاءِ - الشَّهَوَاتُ ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الشَّهَوَاتُ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِيَ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ، فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ (2) .
أَنْوَاعُ الصَّوْمِ :
8 - يَنْقَسِمُ الصَّوْمُ إِلَى صَوْمِ عَيْنٍ ، وَصَوْمِ دَيْنٍ .
وَصَوْمُ الْعَيْنِ : مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ :
أ - إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ ، لأَِنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْل شَرْعًا .
ب - وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ ، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ (1) .
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ ، فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ مُتْعَةِ الْحَجِّ ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْوَقْتِ ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ ، بِأَنْ قَال : وَاللَّهِ لأََصُومَنَّ شَهْرًا (2) .
الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ :
يَنْقَسِمُ الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ مِنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ، إِلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهُ مَا هُوَ مُتَتَابِعٌ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ ، بَل صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ : إِنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ .
أَوَّلاً : مَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ ، وَيَشْمَل مَا يَلِي :
9 - أ - صَوْمَ رَمَضَانَ ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (3) وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ ، لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً .
ب - صَوْمَ كَفَّارَةِ الْقَتْل الْخَطَأِ ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَالصَّوْمَ الْمَنْذُورَ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَتَابُع ) (1) .
ثَانِيًا : مَا لاَ يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ ، وَيَشْمَل مَا يَلِي :
10 - أ - قَضَاءَ رَمَضَانَ ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِيهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (2) فَإِنَّهُ ذَكَرَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا عَنِ التَّتَابُعِ .
وَيُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، مِنْهُمْ : عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ ، وَعَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : " إِنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا ، لَمَا احْتَمَل الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةِ ، وَلَمَا احْتَمَل مُخَالَفَتَهُمْ إِيَّاهُ (3) .
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ : نَدْبُ التَّتَابُعِ أَوِ اسْتِحْبَابُهُ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الْفَرْضِ (4)
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ تَتَابُعَهُ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الأَْدَاءِ ، وَالأَْدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا ، فَكَذَا الْقَضَاءُ .
ب - الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَفِي تَتَابُعِهِ خِلاَفٌ ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَتَابُع )
ج - صَوْمَ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ ، وَصَوْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَصَوْمَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، وَصَوْمَ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ . قَال اللَّهُ - عَزَّ وَجَل - فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (1) . . .
وَقَال فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ : { وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } (2) . . . .
وَقَال فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : { أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ } (3) فَذَكَرَ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الآْيَاتِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ (4) .
وَكَذَا : النَّاذِرُ ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ ، ذَكَرَ الصَّوْمَ فِيهَا مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( نَذْر ، وَأَيْمَان ) .
الصَّوْمُ الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِهِ ، وَيَشْمَل مَا يَلِي :
الأَْوَّل وَهُوَ : قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ صَوْمِ النَّفْل 11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ نَفْل الصَّوْمِ إِذَا أَفْسَدَهُ وَاجِبٌ ، وَاسْتَدَل لَهُ الْحَنَفِيَّةُ : بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ . فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَرَتْنِي إِلَيْهِ حَفْصَةُ - وَكَانَتِ ابْنَةَ أَبِيهَا - فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّهِ ، إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ ، قَال : اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَال : " إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا ، فَمَرَّتْ بِي جَارِيَةٌ لِي ، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا ، فَمَا تَرَوْنَ ؟ فَقَال عَلِيٌّ : أَصَبْتَ حَلاَلاً ، وَتَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ ، كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَال عُمَرُ : أَنْتَ أَحْسَنُهُمْ فُتْيَا (2) .
وَلأَِنَّ مَا أَتَى بِهِ قُرْبَةً ، فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الْبُطْلاَنِ ، وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الإِْفْسَادِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (3) وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِتْيَانِ الْبَاقِي ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الإِْفْسَادِ ضَرُورَةً ، فَصَارَ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمُتَطَوَّعَيْنِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِذَا فَسَدَ صَوْمُ النَّافِلَةِ عَنْ قَصْدٍ ، أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الإِْفْسَادِ نَفْسِهِ ، هَل يُبَاحُ أَوْ لاَ ؟ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِعُذْرٍ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، هِيَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى : يُبَاحُ بِلاَ عُذْرٍ ، وَاسْتَوْجَهَهَا الْكَمَال إِذْ قَال : وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ (2) لَكِنْ قُيِّدَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِيَّتِهِ الْقَضَاءُ (3) .
وَاخْتَلَفُوا - عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - هَل الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لاَ ؟ .
قَال فِي الدُّرِّ : وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ ، إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ لاَ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ ، وَيَتَأَذَّى بِتَرْكِ الإِْفْطَارِ ، فَيُفْطِرُ ، وَإِلاَّ لاَ ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ ، أَفْطَرَ وَلَوْ كَانَ صَوْمُهُ قَضَاءً ، وَلاَ يُحَنِّثُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ .
وَقِيل : إِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُل ، لاَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ . وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ .
وَهَذَا إِذَا كَانَ قَبْل الزَّوَال ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ ،إِلاَّ لأَِحَدِ أَبَوَيْهِ إِلَى الْعَصْرِ ، لاَ بَعْدَهُ (1) . - وَالْمَالِكِيَّةُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ الْحَرَامِ ، احْتِرَازًا عَنِ الْفِطْرِ نِسْيَانًا أَوْ إِكْرَاهًا ، أَوْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، أَوْ خَوْفِ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ ، أَوْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ ، حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ لِحَلِفِ شَخْصٍ عَلَيْهِ بِطَلاَقٍ بَاتٍّ ، فَلاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَضَى .
وَاسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَ لِفِطْرِهِ وَجْهٌ : - كَأَنْ حَلَفَ بِطَلاَقِهَا ، وَيَخْشَى أَنْ لاَ يَتْرُكَهَا إِنْ حَنِثَ ، فَيَجُوزُ الْفِطْرُ وَلاَ قَضَاءَ .
- أَوْ أَنْ يَأْمُرَهُ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ بِالْفِطْرِ ، حَنَانًا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ مِنْ إِدَامَةِ الصَّوْمِ ، فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ .
- أَوْ يَأْمُرُهُ أُسْتَاذُهُ أَوْ مُرَبِّيهِ بِالإِْفْطَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْوَالِدَانِ أَوِ الشَّيْخُ (2) .
12 - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، لاَ يُوجِبُونَ إِتْمَامَ نَافِلَةِ الصَّوْمِ ، وَلاَ يُوجِبُونَ قَضَاءَهَا إِنْ فَسَدَتْ ، وَذَلِكَ : - لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا يَا رَسُول اللَّهِ ، أُهْدِيَ إِلَيْنَا حَيْسٌ (3) فَقَال : أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا . فَأَكَل وَزَادَ النَّسَائِيُّ : إِنَّمَا مِثْل صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مِثْل الرَّجُل يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا (1) .
وَلِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا ، فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّهِ ، أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ ، إِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَفِي رِوَايَةٍ : أَمِيرُ نَفْسِهِ (2) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال : صَنَعْتُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا ، فَأَتَانِي هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنِّي صَائِمٌ ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ ، وَتَكَلَّفَ لَكُمْ . ثُمَّ قَال لَهُ : أَفْطِرْ ، وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ (3) .
وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ الْمَقْضِيَّ عَنْهُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، لَمْ يَكُنِ الْقَضَاءُ وَاجِبًا ، بَل يُسْتَحَبُّ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَافِلَةِ صَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الإِْتْمَامُ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ، وَلاَ كَرَاهَةَ وَلاَ قَضَاءَ فِي قَطْعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مَعَ الْعُذْرِ (2) .
أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ فَيُكْرَهُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (3) وَمِنَ الْعُذْرِ أَنْ يَعِزَّ عَلَى مَنْ ضَيَّفَهُ امْتِنَاعُهُ مِنَ الأَْكْل .
وَإِذَا أَفْطَرَ فَإِنَّهُ لاَ يُثَابُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَإِلاَّ أُثِيبَ (4) .
الثَّانِي : صَوْمُ الاِعْتِكَافِ ، وَفِيهِ خِلاَفٌ ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( اعْتِكَاف ج 5 ف 17 ) .
صَوْمُ التَّطَوُّعِ :
13 - وَهُوَ :
1 - صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ .
2 - صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ .
3 - صَوْمُ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ .
4 - صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ ، وَهِيَ الأَْيَّامُ الْبِيضُ .
5 - صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ .
6 - صَوْمُ شَهْرِ شَعْبَانَ .
7 - صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ .
8 - صَوْمُ شَهْرِ رَجَبٍ .
9 - صِيَامُ مَا ثَبَتَ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ هَذَا الصَّوْمِ فِي مُصْطَلَحِ : ( صَوْمُ التَّطَوُّعِ )
الصَّوْمُ الْمَكْرُوهُ ، وَيَشْمَل مَا يَلِي :
أ - إِفْرَادَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ :
14 - نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ الْجُمْهُورُ (1) ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال : قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لاَ تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إِلاَّ وَقَبْلَهُ يَوْمٌ ، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ : إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ ، فَلاَ تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ ، إِلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ (1) .
وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : لاَ تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ (2) .
وَذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ وَلاَ يُفْطِرُ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِـ ( لاَ بَأْسَ ) الاِسْتِحْبَابُ ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ بِنَدْبِ صَوْمِهِ ، وَلَوْ مُنْفَرِدًا (3) . وَكَذَا الدَّرْدِيرُ صَرَّحَ بِنَدْبِ صَوْمِهِ وَحْدَهُ فَقَطْ ، لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَقَال : فَإِنْ ضَمَّ إِلَيْهِ آخَرَ فَلاَ خِلاَفَ فِي نَدْبِهِ (4) .
وَقَال الطَّحْطَاوِيُّ : ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ طَلَبُ صَوْمِهِ ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ ، وَالأَْخِيرُ مِنْهُمَا : النَّهْيُ (5) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ : جَاءَ حَدِيثٌ فِي كَرَاهَةِ صَوْمِهِ ، إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ ، فَكَانَ الاِحْتِيَاطُ فِي أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ (1) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ : فَمُطْلَقُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ مُقَيَّدٌ بِالإِْفْرَادِ (2) .
وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِضَمِّ يَوْمٍ آخَرَ إِلَيْهِ ، لِحَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَهِيَ صَائِمَةٌ ، فَقَال : أَصُمْتِ أَمْسِ ؟ قَالَتْ : لاَ . قَال : تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا ؟ قَالَتْ : لاَ . قَال : فَأَفْطِرِي (3) .
ب - صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ وَحْدَهُ خُصُوصًا :
15 - وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ (4) ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ ، عَنْ أُخْتِهِ ، وَاسْمُهَا الصَّمَّاءُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ (5) .
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ ، فَفِي إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ تَشَبُّهٌ بِهِمْ ، إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُهُ بِخُصُوصِهِ يَوْمًا اعْتَادَ صَوْمَهُ ، كَيَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ (1) .
ج - صَوْمُ يَوْمِ الأَْحَدِ بِخُصُوصِهِ :
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ صَوْمِ يَوْمِ الأَْحَدِ بِخُصُوصِهِ مَكْرُوهٌ ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ صَوْمَ السَّبْتِ وَالأَْحَدِ مَعًا لَيْسَ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، لأَِنَّهُ لَمْ تَتَّفِقْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِمَا ، كَمَا لَوْ صَامَ الأَْحَدَ مَعَ الاِثْنَيْنِ ، فَإِنَّهُ تَزُول الْكَرَاهَةُ (2) ، وَيُسْتَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ صِيَامُ كُل عِيدٍ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً لِلصَّائِمِ .
د - إِفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ بِالصَّوْمِ :
17 - يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ ، وَيَوْمِ الْمِهْرَجَانِ بِالصَّوْمِ (3) ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمَا يَوْمَانِ يُعَظِّمُهُمَا الْكُفَّارُ ، وَهُمَا عِيدَانِ لِلْفُرْسِ ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمَا بِالصَّوْمِ - دُونَ غَيْرِهِمَا - مُوَافَقَةً لَهُمْ فِي تَعْظِيمِهِمَا ، فَكُرِهَ ، كَيَوْمِ السَّبْتِ .
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا كُل عِيدٍ لِلْكُفَّارِ ، أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ (1) وَنَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا قَصَدَ بِصَوْمِهِ التَّشَبُّهَ ، كَانَتِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةً (2) .
هـ - صَوْمُ الْوِصَال :
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ) إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الْوِصَال ، وَهُوَ : أَنْ لاَ يُفْطِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ أَصْلاً ، حَتَّى يَتَّصِل صَوْمُ الْغَدِ بِالأَْمْسِ ، فَلاَ يُفْطِرُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَصُومَ السَّنَةَ وَلاَ يُفْطِرَ فِي الأَْيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ (3) .
وَإِنَّمَا كُرِهَ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال : وَاصَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ ، فَوَاصَل النَّاسُ فَنَهَاهُمْ ، قِيل لَهُ : إِنَّكَ تُوَاصِل ، قَال : إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى (4) .
وَالنَّهْيُ وَقَعَ رِفْقًا وَرَحْمَةً ، وَلِهَذَا وَاصَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتَزُول الْكَرَاهَةُ بِأَكْل تَمْرَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَا بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ لاِنْتِفَاءِ الْوِصَال .
وَلاَ يُكْرَهُ الْوِصَال إِلَى السَّحَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا : فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِل ، فَلْيُوَاصِل حَتَّى السَّحَرِ (1) وَلَكِنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً ، وَهِيَ تَعْجِيل الْفِطْرِ ، فَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ : الأَْوَّل وَهُوَ الصَّحِيحُ : بِأَنَّ الْوِصَال مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالثَّانِي : يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (2) .
و - صَوْمُ الدَّهْرِ ( صَوْمُ الْعُمُرِ ) :
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ) عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ بِأَنَّهُ يُضْعِفُ الصَّائِمَ عَنِ الْفَرَائِصِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْكَسْبِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ ، أَوْ بِأَنَّهُ يَصِيرُ الصَّوْمُ طَبْعًا لَهُ ، وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ (3) .
وَاسْتَدَل لِلْكَرَاهَةِ ، بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَْبَدَ (4) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال : قَال عُمَرُ : يَا رَسُول اللَّهِ ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟ قَال : لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ ، أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ (1) أَيْ : لَمْ يُحَصِّل أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ ، وَلَمْ يُفْطِرْ لأَِنَّهُ أَمْسَكَ .
وَقَال الْغَزَالِيُّ : هُوَ مَسْنُونٌ (2) .
وَقَال الأَْكْثَرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : إِنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا ، أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا كُرِهَ ، وَإِلاَّ فَلاَ .
وَالْمُرَادُ بِصَوْمِ الدَّهْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : سَرْدُ الصَّوْمِ فِي جَمِيعِ الأَْيَّامِ إِلاَّ الأَْيَّامَ الَّتِي لاَ يَصِحُّ صَوْمُهَا ، وَهِيَ الْعِيدَانِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ (3) .
الصَّوْمُ الْمُحَرَّمُ :
20 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ الأَْيَّامِ التَّالِيَةِ :
أ - صَوْمِ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ عِيدِ الأَْضْحَى ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ (4) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْيَّامَ مُنِعَ صَوْمُهَا لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ : يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ النَّحْرِ (1) وَحَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ، وَذِكْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَل - (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِيهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ ، لِمَا فِي صَوْمِهَا مِنَ الإِْعْرَاضِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِذَاتِ الْيَوْمِ ، بَل لِمَعْنًى خَارِجٍ مُجَاوِرٍ ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ الأَْذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ صَوْمَهَا صَحَّ ، وَيُفْطِرُ وُجُوبًا تَحَامِيًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ ، وَيَقْضِيهَا إِسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ ، وَلَوْ صَامَهَا خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ ، مَعَ الْحُرْمَةِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ صَوْمَهَا لاَ يَصِحُّ فَرْضًا وَلاَ نَفْلاً ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصُومُهَا عَنِ الْفَرْضِ .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ : صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، وَنَقَل الْمِرْدَاوِيُّ أَنَّهَا الْمَذْهَبُ ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ .
وَهَذَا هُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالأَْصَحُّ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ مَا فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّوْمِ فِيهَا مُطْلَقًا (1) .
قَال الْغَزَالِيُّ : وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَقَطَعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِبُطْلاَنِهِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ انْصِرَافُ النَّهْيِ عَنْ عَيْنِهِ وَوَصْفِهِ ، وَلَمْ يَرْتَضِ قَوْلَهُمْ : إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِالأَْكْل (2) .
ب - وَيَحْرُمُ صِيَامُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ ، وَصِيَامُ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ بِصَوْمِهِ (3) .
ثُبُوتُ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ :
21 - يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِإِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا اتِّفَاقًا ، أَوْ رُؤْيَةِ الْهِلاَل لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ ، وَفِي ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( رُؤْيَة ) ف 2 ( وَرَمَضَان ) ف 2
صَوْمُ مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ :
22 - مَنْ رَأَى هِلاَل رَمَضَانَ وَحْدَهُ ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، لَزِمَهُ الصَّوْمُ وُجُوبًا ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ) وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَذَلِكَ لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (1) . وَلِحَدِيثِ : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) . . . وَحَدِيثِ : الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ (3) .
وَلأَِنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ، فَلَزِمَهُ صَوْمُهُ ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ لاَ يَصُومُ إِلاَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ .
وَقِيل : يَصُومُ نَدْبًا احْتِيَاطًا ، كَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : إِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَإِذَا اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ لِجَهْلِهِ فَقَوْلاَنِ عِنْدَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْعِيَانِ بَيَانٌ ، أَوْ عَدَمَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، بِسَبَبِ عَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهِ (1) .
23 - وَإِنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ وَحْدَهُ ، لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، خَوْفَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ، وَقِيل : يُفْطِرُ إِنْ خَفِيَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَال أَشْهَبُ : يَنْوِي الْفِطْرَ بِقَلْبِهِ . وَعَلَى الْمَذْهَبِ ، وَقَوْل الْجُمْهُورِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ - إِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ ، وَلاَ كَفَّارَةَ ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ ، لِشُبْهَةِ الرَّدِّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يُفْطِرَ ، لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ مِنْ شَوَّالٍ ، فَجَازَ لَهُ الأَْكْل كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ ، لَكِنْ يُفْطِرُ سِرًّا ، بِحَيْثُ لاَ يَرَاهُ أَحَدٌ ، لأَِنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْفِطْرَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ ، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ أَفْطَرَ مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ فِي الْوَقْتَيْنِ : رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ قَضَى وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، لأَِنَّهُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ فِي رَمَضَانَ ، صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا ، وَلَوْ كَانَ فِطْرُهُ قَبْلَمَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ الرَّاجِحِ ، لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ ، لأَِنَّ مَا رَآهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ خَيَالاً ، لاَ هِلاَلاً - كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ -
وَقِيل : تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِمَا - أَيْ فِي الْفِطْرِ وَفِي رَمَضَانَ - وَذَلِكَ لِلظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفِطْرِ ، وَلِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ فِي رَمَضَانَ (1) .
رُكْنُ الصَّوْمِ :
24 - رُكْنُ الصَّوْمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ هُوَ : الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ (2) ، وَذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ ، حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل } (3) .
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّصِّ : بَيَاضُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْل ، لاَ حَقِيقَةُ الْخَيْطَيْنِ ، فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ لَيَالِيَ الصِّيَامِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالإِْمْسَاكِ عَنْهُنَّ فِي النَّهَارِ ، فَدَل عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّوْمِ وَقِوَامَهُ هُوَ ذَلِكَ الإِْمْسَاكُ (4) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّوْمِ :
25 - شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّوْمِ ، أَيِ : اشْتِغَال الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - هِيَ شُرُوطُ افْتِرَاضِهِ وَالْخِطَابِ بِهِ (1) . وَهِيَ :
أ - الإِْسْلاَمُ ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ لِلْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ .
ب - الْعَقْل ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ مِنْ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِدُونِهِ ، فَلاَ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَجْنُونٍ إِلاَّ إِذَا أَثِمَ بِزَوَال عَقْلِهِ ، فِي شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ (2) .
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِالإِْفَاقَةِ بَدَلاً مِنَ الْعَقْل ، أَيِ الإِْفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ أَوِ النَّوْمِ ، وَهِيَ الْيَقَظَةُ (3) .
ج - الْبُلُوغُ ، وَلاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِهِ ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْلِيفِ هُوَ الاِمْتِثَال ، وَذَلِكَ بِالإِْدْرَاكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْل - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الأُْصُول - وَالصِّبَا وَالطُّفُولَةُ عَجْزٌ .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ لِسَبْعٍ - كَالصَّلاَةِ - إِنْ أَطَاقَهُ ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ (4) .
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا : يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ إِذَا أَطَاقَهُ ، وَضَرْبُهُ حِينَئِذٍ إِذَا تَرَكَهُ لِيَعْتَادَهُ ، كَالصَّلاَةِ ، إِلاَّ أَنَّ الصَّوْمَ أَشَقُّ ، فَاعْتُبِرَتْ لَهُ الطَّاقَةُ ، لأَِنَّهُ قَدْ يُطِيقُ الصَّلاَةَ مَنْ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ (1) .
د - الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، يَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ ، بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ مَسْتُورٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَسْتُورَتَيْنِ ، أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ ، وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ ، يَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ بِنَشْأَتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ بِالْجَهْل (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ :
26 - شُرُوطُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ الَّذِي هُوَ تَفْرِيغُ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ (3) هِيَ :
أ - الصِّحَّةُ وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الْمَرَضِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (4) .
ب - الإِْقَامَةُ ، لِلآْيَةِ نَفْسِهَا . قَال ابْنُ جُزَيٍّ : وَأَمَّا الصِّحَّةُ وَالإِْقَامَةُ ، فَشَرْطَانِ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ ، لاَ فِي صِحَّتِهِ ، وَلاَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ يَسْقُطُ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، وَيَجِب عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ ، إِنْ أَفْطَرَا إِجْمَاعًا ، وَيَصِحُّ صَوْمُهُمَا إِنْ صَامَا (1) .
ج - خُلُوُّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، لأَِنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَيْسَتَا أَهْلاً لِلصَّوْمِ ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا سَأَلَتْهَا مُعَاذَةُ : مَا بَال الْحَائِضِ ، تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ قُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ ، وَلَكِنِّي أَسْأَل ، قَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (2) .
فَالأَْمْرُ بِالْقَضَاءِ فَرْعُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ .
وَالإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى مَنْعِهِمَا مِنَ الصَّوْمِ ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا (3) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ :
27 - شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ هِيَ :
أ - الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ ، كَالْكَمَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَابْنِ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (4) . وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الأَْدَاءِ ، وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ مَعًا (1) .
ب - خُلُوُّهُ عَمَّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِطُرُوِّهِ عَلَيْهِ كَالْجِمَاعِ (2) .
ج - النِّيَّةُ . وَذَلِكَ لأَِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (3) . وَلِحَدِيثِ : إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (4) .
وَالإِْمْسَاكُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَادَةِ ، أَوْ لِعَدَمِ الاِشْتِهَاءِ ، أَوْ لِلْمَرَضِ ، أَوْ لِلرِّيَاضَةِ ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ ، كَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ .
قَال النَّوَوِيُّ : لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ ، وَلاَ يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِهَا ، بِلاَ خِلاَفٍ (5) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : التَّلَفُّظُ بِهَا سُنَّةٌ (6) .
صِفَةُ النِّيَّةِ :
صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ جَازِمَةً ، مُعَيَّنَةً ، مُبَيَّتَةً ، مُجَدَّدَةً ، عَلَى مَا يَلِي :
28 - أَوَّلاً : الْجَزْمُ ، فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ ؛ قَطْعًا لِلتَّرَدُّدِ ، حَتَّى لَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ صِيَامَ غَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ - لَمْ يُجْزِهِ ، وَلاَ يَصِيرُ صَائِمًا لِعَدَمِ الْجَزْمِ ، فَصَارَ كَمَا إِذَا نَوَى أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ غَدَاءً غَدًا يُفْطِرُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال : إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي ، وَإِلاَّ فَهُوَ نَفْلٌ ، أَوْ فَأَنَا مُفْطِرٌ ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ، لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِالنِّيَّةِ .
وَإِنْ قَال ذَلِكَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ ، صَحَّ صَوْمُهُ إِنْ بَانَ مِنْهُ ، لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَمْ يَثْبُتْ زَوَالُهُ ، وَلاَ يَقْدَحُ تَرَدُّدُهُ ، لأَِنَّهُ حُكْمُ صَوْمِهِ مَعَ الْجَزْمِ . بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَهُ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ ، لأَِنَّهُ لاَ أَصْل مَعَهُ يَبْنِي عَلَيْهِ ، بَل الأَْصْل بَقَاءُ شَعْبَانَ (2) .
29 - ثَانِيًا : التَّعْيِينُ ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ ، وَلاَ يَكْفِي تَعْيِينُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ ، وَلاَ تَعْيِينُ صَوْمٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ رَمَضَانَ .
وَكَمَال النِّيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - : أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ غَدٍ ، عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ فِي ذَلِكَ ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى وَقْتٍ ، فَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّتِهَا ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَلأَِنَّ التَّعْيِينَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ ، فَيُجْزِئُ التَّعْيِينُ عَنْ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْفَرْضِ ، وَالْوُجُوبِ فِي الْوَاجِبِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي التَّعْيِينِ إِلَى تَقْسِيمِ الصِّيَامِ إِلَى قِسْمَيْنِ : الْقِسْمُ الأَْوَّل : لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ ، وَهُوَ : أَدَاءُ رَمَضَانَ ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ زَمَانُهُ ، وَكَذَا النَّفَل ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ .
وَذَلِكَ لأَِنَّ رَمَضَانَ مِعْيَارٌ - كَمَا يَقُول الأُْصُولِيُّونَ - وَهُوَ مُضَيَّقٌ ، لاَ يَسَعُ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِيهِ صَوْمٌ آخَرُ ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْفَرْضِ ، وَالْمُتَعَيِّنُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينٍ ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيُصَابُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ ، وَبِأَصْلِهَا ، وَبِنِيَّةِ نَفْلٍ ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ (3) . وَكُل يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لِلنَّفْل - كَمَا سَيَأْتِي - مَا عَدَا رَمَضَانَ ، وَالأَْيَّامَ الْمُحَرَّمَ صَوْمُهَا ، وَمَا يُعَيِّنُهُ الْمُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ ، فَكُل ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْيِينِ (1) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ ، وَهُوَ : قَضَاءُ رَمَضَانَ ، وَقَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنَ النَّفْل ، وَصَوْمُ الْكَفَّارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا ، وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ عَنِ التَّقْيِيدِ بِزَمَانٍ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ، أَمْ كَانَ مُطْلَقًا ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، فَلَمْ يَتَأَدَّ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ ، قَطْعًا لِلْمُزَاحَمَةِ (2) .
30 - ثَالِثًا - التَّبْيِيتُ : وَهُوَ شَرْطٌ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالتَّبْيِيتُ : إِيقَاعُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْل ، مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَلَوْ قَارَنَ الْغُرُوبَ أَوِ الْفَجْرَ أَوْ شَكَّ ، لَمْ يَصِحَّ ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ التَّبْيِيتِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ ، يَصِحُّ لَوْ قَارَنَتِ الْفَجْرَ ، كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي النِّيَّةِ الْمُقَارَنَةُ لِلْمَنْوِيِّ (4) .
وَيَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل ، وَلاَ تَجُوزُ قَبْل اللَّيْل (1) .
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال : مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْل الْفَجْرِ ، فَلاَ صِيَامَ لَهُ (2) .
وَلأَِنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ ، لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ ، فَكَذَا كُل صَوْمِ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ .
وَلاَ تُجْزِئُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُجْزِئُ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ ، وَإِنْ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ مَعَ الْفَجْرِ ، وَكَلاَمُ الْقَرَافِيِّ وَآخَرِينَ يُفِيدُ أَنَّ الأَْصْل كَوْنُهَا مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ ، وَرُخِّصَ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ فِي مُقَارَنَتِهَا لَهُ (3) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّبْيِيتِ النِّصْفُ الآْخَرُ مِنَ اللَّيْل ، لإِِطْلاَقِهِ فِي الْحَدِيثِ ، وَلأَِنَّ تَخْصِيصَ النِّيَّةِ بِالنِّصْفِ الأَْخِيرِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الصَّوْمِ ، لأَِنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لاَ يَنْتَبِهُ فِيهِ ، وَلاَ يَذْكُرُ الصَّوْمَ ، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا رَخَّصَ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى ابْتِدَائِهِ ، لِحَرَجِ اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُ ، فَلاَ يَخُصُّهَا بِمَحَلٍّ لاَ تَنْدَفِعُ الْمَشَقَّةُ بِتَخْصِيصِهَا بِهِ ، وَلأَِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالنِّصْفِ الأَْخِيرِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، بَل تُقَرَّبُ النِّيَّةُ مِنَ الْعِبَادَةِ ، لَمَّا تَعَذَّرَ اقْتِرَانُهَا بِهَا .
وَالصَّحِيحُ أَيْضًا : أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ الأَْكْل وَالْجِمَاعُ بَعْدَ النِّيَّةِ مَا دَامَ فِي اللَّيْل ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَبِسْ بِالْعِبَادَةِ ، وَقِيل : يَضُرُّ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهَا ، تَحَرُّزًا عَنْ تَخَلُّل الْمُنَاقِضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ ، لَمَّا تَعَذَّرَ اقْتِرَانُهَا بِهَا .
وَالصَّحِيحُ أَيْضًا : أَنَّهُ لاَ يَجِبُ التَّجْدِيدُ لَهَا إِذَا نَامَ بَعْدَهَا ، ثُمَّ تَنَبَّهَ قَبْل الْفَجْرِ ، وَقِيل : يَجِبُ ، تَقْرِيبًا لِلنِّيَّةِ مِنَ الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَشْتَرِطُوا التَّبْيِيتَ فِي رَمَضَانَ (2) . وَلَمَّا لَمْ يَشْتَرِطُوا تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي لَيْل رَمَضَانَ ، أَجَازُوا النِّيَّةَ بَعْدَ الْفَجْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ أَيْضًا ، حَتَّى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى ، فَيَنْوِي قَبْلَهَا لِيَكُونَ الأَْكْثَرُ مَنْوِيًّا ، فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْكُل ، حَتَّى لَوْ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ ، لِخُلُوِّ الأَْكْثَرِ عَنِ النِّيَّةِ ، تَغْلِيبًا لِلأَْكْثَرِ .
وَالضَّحْوَةُ الْكُبْرَى : نِصْفُ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ ، وَهُوَ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ ، مِنْهُمْ الْمَوْصِلِيُّ : وَالأَْفْضَل الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّتَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلاَفِ (1) .
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ ، مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ حَتَّى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى ، وَعَدَمِ شَرْطِيَّةِ التَّبْيِيتِ : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ ، فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ ؟ فَقَال : نَعَمْ ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ ، فَصَامَ وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى : أَلاَ مَنْ أَكَل فَلاَ يَأْكُل بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُل فَلْيَصُمْ (2) .
فَقَدْ أَمَرَ بِالصَّوْمِ ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَلَوْ شُرِطَتِ النِّيَّةُ مِنَ اللَّيْل لَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ، فَدَل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا ، بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَل غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَْنْصَارِ : مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ (1) . وَكَانَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ وَاجِبًا ، ثُمَّ نُسِخَ بِفَرْضِ رَمَضَانَ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ .
31 - أَمَّا النَّفَل فَيَجُوزُ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : دَخَل عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَقَال : هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ ، فَقُلْنَا : لاَ ، فَقَال : فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ (3) .
وَلأَِنَّ النَّفَل أَخَفُّ مِنَ الْفَرْضِ ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ : أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَامِ فِي النَّفْل مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْفَرْضِ .
وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَال ، وَالْمَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ : لاَ يَجُوزُ ، لأَِنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَصْحَبَ مُعْظَمَ الْعِبَادَةِ (4) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا ، فَرْضًا أَوْ نَفْلاً - نِيَّةٌ مُبَيَّتَةٌ (1) ، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل ، فَلاَ صِيَامَ لَهُ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ النِّيَّةِ فِي النَّفْل ، قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَحَدِيثِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ، وَأَنَّهُ قَوْل مُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُهُ صَرِيحًا ، وَالنِّيَّةُ وُجِدَتْ فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ ، فَأَشْبَهَ وُجُودَهَا قَبْل الزَّوَال بِلَحْظِهِ (3) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ نِيَّةِ النَّفْل فِي النَّهَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنْ لاَ يَكُونَ فَعَل مَا يُفْطِرُهُ قَبْل النِّيَّةِ ، فَإِنْ فَعَل فَلاَ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ ، قَال الْبُهُوتِيُّ : بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ ، قَالَهُ فِي الشَّرْحِ ، لَكِنْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو زَيْدٍ الشَّافِعِيُّ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي اعْتِبَارِ الثَّوَابِ : مِنْ أَوَّل النَّهَارِ ، أَمْ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ ؟ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ : أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّل النَّهَارِ ، كَمَا إِذَا أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ ، يَكُونُ مُدْرِكًا لِثَوَابِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ جَمِيعُ شُرُوطِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّل النَّهَارِ .
32 - رَابِعًا : تَجْدِيدُ النِّيَّةِ : ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ فِي كُل يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، مِنَ اللَّيْل أَوْ قَبْل الزَّوَال - عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ - وَذَلِكَ لِكَيْ يَتَمَيَّزَ الإِْمْسَاكُ عِبَادَةً عَنِ الإِْمْسَاكِ عَادَةً أَوْ حِمْيَةً (1) .
وَلأَِنَّ كُل يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ، لاَ يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَلاَ يَفْسُدُ بِفَسَادِ بَعْضٍ ، وَيَتَخَلَّلُهَا مَا يُنَافِيهَا ، وَهُوَ اللَّيَالِي الَّتِي يَحِل فِيهَا مَا يُحَرَّمُ فِي النَّهَارِ ، فَأَشْبَهَتِ الْقَضَاءَ ، بِخِلاَفِ الْحَجِّ وَرَكَعَاتِ الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ زُفَرُ وَمَالِكٌ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّهُ تَكْفِي نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ عَنِ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي أَوَّلِهِ ، كَالصَّلاَةِ . وَكَذَلِكَ فِي كُل صَوْمٍ مُتَتَابِعٍ ، كَكَفَّارَةِ الصَّوْمِ وَالظِّهَارِ ، مَا لَمْ يَقْطَعْهُ أَوْ يَكُنْ عَلَى حَالِةِ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهَا ، فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ ، وَذَلِكَ لاِرْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، وَعَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ ، فَكَفَتْ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَبْطُل بِبُطْلاَنِ بَعْضِهَا ، كَالصَّلاَةِ (1) .
فَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ، لَمْ يَصِحَّ صِيَامُ الْبَاقِي بِتِلْكَ النِّيَّةِ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ ، وَقِيل : يَصِحُّ ، وَقَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ .
وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ (2) . وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - : لاَ بُدَّ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ الْمُتَتَابِعِ مِنَ النِّيَّةِ كُل يَوْمٍ ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ ، مِنْ حَيْثُ عَدَمُ فَسَادِ مَا مَضَى مِنْهُ بِفَسَادِ مَا بَعْدَهُ (3) .
بَل رُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّ الْمُقِيمَ الصَّحِيحَ ، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ ، لأَِنَّ الإِْمْسَاكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ ، فَكَانَ مُتَرَدِّدًا بِأَصْلِهِ مُتَعَيِّنًا بِوَصْفِهِ ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ وَقَعَ عَنْهُ (4) .