يقول الامام ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة (1/67)
"فصل
إذا تحقق من قول الذمي سلام عليك
هذا كله إذا تحقق أنه قال: السامّ عليكم، أو شك فيما قال، فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: " سلام عليكم " لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: " وعليك " ؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: (وإذَا حيَيتُمْ بِتَحية فَحيوا بأحْسنَ مِنهْا أوْ ردوها) فندب إلى الفضل، وأوجب العدل.
ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الراد " وعليكم " بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي اللّه عنها فقال: " ألا ترينني قلتُ: وعليكم، لما قالوا: السامّ عليكم " ؟ ثم قال: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نطير المذكور، لا فيما يخالفه. قال تعالى: (وإذَا جاؤوكَ حيوْكَ بما لَمْ يُحيك به الله، وَيَقولُونَ في أنْفُسهِمْ لوْلاَ يُعَذبُنا الله بما نَقُولُ) فإذا زال هذا اَلسبب وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة اللّه، فالعدل في التحية يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه. وباللّه التوفيق." أ.هـ
والذي يفهم من هذا الكلام أن الامام رحمه الله فرق في رد تحية المسلم بين أن يقول الذمي "السلام عليكم" ويتبين المسلم أنها كذلك حقأ، وبين أن يقول له "السام عليك" أو "السام عليكم" ويتبين المسلم ذلك أو يشك فيه، فحمل الأحاديث التي قال النبي عليه السلام فيها "اذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : "وعليكم" على الحالة الثانية فقط دون الأولى، بقوله أن هذا من باب العدل والاحسان وأنه هو ما تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة! وبين أن ذلك داخل في عموم قوله تعالى: ((وإذَا حيَيتُمْ بِتَحية فَحيوا بأحْسنَ مِنهْا أوْ ردوها)).
ولكن عند تأمل هذا الكلام يلح علي هذا السؤال: كيف يخصص الامام حكما عاما في حديث عام على هذا النحو بلا مخصص، الا قوله أنه من العدل والاحسان؟ فهل قولك للذمي "وعليكم" ليس من العدل؟ بل هو من العدل ولا شك، وهو صواب في كل حال، لأنه ان أراد بتحيته خيرا واحسانا، فنرده بالمثل فيكون عدلا واحسانا، وان أراد شرا فبالمثل كذلك، ويكون عدلا بما يستحق!! فمن سلف ابن القيم رحمه الله في هذا التخصيص لعموم قوله عليه السلام "فقولوا وعليكم"؟
الذي يظهر لي عند التأمل أن حديث رد سلام الذمي بقول "وعليكم" هو الذي يخصص اطلاق الآية الكريمة في باب رد السلام بصفة عامة! ويمكن القول بأنه أيا كان ما حيا به الذمي فان قلنا له وعليكم، فانه يكون داخلا بالجملة في قوله تعالى ((أو ردوها))، وان كان الذي يمنع من المكافأة التامة لتحية الذمي، كأن نقول له "وعليك السلام" في مقابلة تحيته لنا ان حيانا بها، كون اللفظ الوارد في الحديث مقصورا على قول: "وعليكم" دون زيادة!
فقول الامام رحمه الله " ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الراد " وعليكم " بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم"
هذا قول يحتاج الى دليل، ولا أجد فيما أعلم ذلك الدليل! فالأمر في الحديث أمر عام، يشمل كل تحية أو سلام من الذمي يمكن أن يرد عليه بهذا اللفظ، بما في ذلك تحية الاسلام ان حيانا بها، أما الواقعة التي قرر الامام أن فيها اشارة لهذا المعنى فواقعة عين تدخل في عموم ما أمر به النبي، فهو عليه السلام قال لهم "وعليكم" كما كان أمره العام في حديث الباب، فأين الدليل في ذلك على أن ما كان من تحية أهل الكتاب على خلاف ما كان في تلك الواقعة، أو على أن ما كان موافقا لتحية المسلمين، فانه يرد بمثله، وليس بقولنا "وعليكم" كما يقرر الحديث؟! أليس هذا خروجا على الأصل الذي يقرره حديث رد التحية في قوله "فقولوا وعليكم" بغير دليل؟