قال ابن عبد البر رحمه الله مبيناً المنهج القويم في التفقه :" واعلم يا أخي أنّ المفرط في حفظ المولدات لا يؤمن عليه الجهل من السنن , إذا لم يكن تقدم علمه بها , وإن المفرط في حفظ طرق الآثار , دون الوقوف على معانيها , وما قال الفقهاء فيها , لصفر من العلم , كلاهما قانع بالشّم من المطعم ", فبين بهذا , الوسطية التي ينبغي أن يكون عليها مريد العلم , فلا جمود على الأقوال بدون دليل , ولا تمسك بالدّليل دون فقهه .
وقال :" واعلم يا أخي أنّ الفروع لا حدّ لها تنتهي إليه أبداً , ولذلك تشعبت , فمن رام الإحاطة بآراء الرجال , فقد رام مالا سبيل له , ولا لغيره إليه , لأنه لا يزال يرد عليه مالا يسمع , ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره , لكثرته ", ومن كلامه رحمه الله شاكياً ماكان عليه الحال في بلده الذي شذّ عمّا عليه الناس يفي غيره :" واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف , إلاّ ليفهم وجه الصواب , فيصار إليه , ويعرف أصل القول وعلّته فيجري عليه أمثلته ونظائره , وعلى هذا الناس في كل بلد , إلاّ عندنا كما شاء الله ربّنا , وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب , فإنهم لا يقيمون علة , ولا يقيمون للقول وجهاً , وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان , ورواية لفلان , ومن خالف نصّ الكتاب والسنّة , , , ولتقصيرهم عن علم أصول مذهبهم , صار أحدهم إذا لقي مُخالفاً ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داود بن علي , أو غيرهم من الفقهاء , وخالفه في أصل قوله , بقي متحيراً , ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه ,,, ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته , فإن عارضه الآخر بذكر فضل إمامه أيضاً , صار في المثل كما قال الأوّل :
شكونا إليهم خراب العرا ** ق,فعابوا علينا شحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى ** أريها السّها وتريني القمر
وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد - رحمه الله -
عذيري من قوم يقولون كلما ** طلبت دليلاً هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب ** وقد كان لا تخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ** ومن لم يقل ماقاله فهو آفك
فإن قلت قال الله ضجّوا وأكثروا ** وقالوا جميعاً أنت قرن ممّا حك
وإن قلت قد قال الرسول , فقولهم : ** أتت مالك في ترك ذاك المسالك
ولعلّ الذي عاينه ابن عبد البر من الزّهد في نصوص الكتاب والسنّة وأخذ الأحكام منها , كما هو منهجه , وما قاساه من الجمود والتّعصب المذهبي , هو الذي حمله على تأليف كتابه محن العلماء , قال ابن القيم - رحمه الله - :" ومن أحب ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم , وقد صنّف في ذلك ابن عبد البر كتاباً سمّاه محن العلماء " ( مدارج السالكين 2/ 223
ولقد كان الفقه المالكي في الزّمن الذي تقدم ابن عبد البر في الأندلس على وجه الخصوص , يكاد يكتفي فيه بالعناية ببعض الأمهات من الأصول شرحاً وتفسيراً واختصاراً , وقد أورث ذلك من الغلو في بعض الكتب ما أدّى إلى القول إنّها بمثابة الفاتحة في الصّلاة , يستغني يبغيرها عنها , ويكفي دلالة على هذه المبالغة انّ عالماً مثل ابن رشد الجدّ , يقول عن المدوّنة :" إنّها مقدمة على غيرها من الدّواوين بعد موطّإ مالك - رحمه الله- ولا بعد الموطإ ديوان في الفقه أفيد من المدونة , هي عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل النّحو , وككتاب أقليدس عند اهل الحساب , وموضعها من الفقه موضع أم القرآن من الصّلاة , تُجزئ عن غيرها ولايجزئ غيرها عنها ", وهذا الذي ذكره خالف فيه المتأخرون فإنهم على تقديم المدونة على الموطّإ .
ويقول أبو عبد الله أحمد المقرّي :" يكره تكثير الفروض النادرة , والاشتغال عن حفظ النّصوص , والتفقه فيها بحفظ آراء الرجال , والا ستنباط منها , والبناء عليها , وما أضعف حجة من يرد القيامة , وقد أنفق عمراً طويلاً في العلم , فيسأل عما غلب علم من الكتاب والسنة , فلا يوجد عنده أثارة من ذلك , بل يوجد قد ضيّع كثيراً من فروض العين من العلم , بإقباله على حفظ فروض اللّعان , وسائر الأبواب النّادرة , مقتصراً من ذلك على القيل والقال , ومعرضاً عن الدليل والاستدلال .
وقال أيضاً رحمه الله : بل الواجب الاشتغال بحفظ الكتاب والسنة , وفهمهما , والتّفقه فيهما , والاعتناء بكل ما يتوقف عليه المقصود منهما , فإذا عرضت نازلة عرضها على النّصوص , فإن وجدها فيها , فقد كفى أمرها , وإلاّ طلبها بالأصول المبنية هي عليها , فقد قيل : إنّ النّازلة إذا نزلت , أعين المفتي عليها"
والله أعلم